واجه دعاة الدفاع الأوروبي المشترك رحلة صعبة على مدار العقود الماضية؛ سعيا لامتلاك القدرة على العمل المستقل، وتوفير الأمن للقارة العجوز، مع الاستجابة للأزمات الدولية المختلفة .


وذكرت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية أن أهمية هذا الملف زادت مؤخرا مع قناعة الدول الأوروبية بأن الولايات المتحدة لم تعد تريد تقديم أي تمويل لتوفير الأمن للقارة الأوروبية لاسيما في ظل الأزمة الأوكرانية الراهنة.


وترى المجلة الأمريكية أن المصاعب الحالية في العلاقات الأمريكية الأوروبية ليست سوى البداية، متساءلة: ماذا سيحدث إذا لم يكتف البيت الأبيض بالانسحاب من دعم أوكرانيا، بل اعتبر الغزو الروسي القادم لأوروبا (وفقا للمجلة) مجرد "مناوشة حدودية" لا تستحق التدخل الأمريكي؟ والأسوأ من ذلك، ماذا لو عارض البيت الأبيض المتحالف (حينها) مع روسيا بشدة أي تدخل أوروبي لمساعدة الدولة التي غزتها؟ بمعنى تعطيل واشنطن لاستخدام أي أسلحة بها تكنولوجيا أمريكية متقدمة، ومنع الوصول إلى الأقمار الصناعية وغيرها من البنى التحتية الحيوية، وغلق مقر حلف شمال الأطلسي (الناتو).

اتفاقية دفاع وأمن جديدة بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا


وأشارت المجلة الأمريكية إلى أن أوروبا واستشعارا منها بخطورة الوضع، بدأت تخطو خطوات جادة وإحداث إنفراجة حقيقية في المحادثات بشأن اتفاقية دفاع وأمن جديدة بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، والتي ستنهي أزمة استمرت تسع سنوات بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، حيث من المرجح توقيع هذه الاتفاقية في مايو المقبل. كما أن الدول الأعضاء الكبرى في الاتحاد الأوروبي، مثل ألمانيا وفرنسا، أصبحت الآن أكثر استعدادا لرؤية المفوضية الأوروبية - بقيادة وزيرة الدفاع الألمانية السابقة أورسولا فون دير لاين - تتولى زمام المبادرة.


وأوضحت المجلة أن أوروبا تشعر بأن عمليات بيع الأسلحة أمريكية الصنع أو أي نوع من الأنظمة عالية التقنية في أوروبا تمر بوقت عصيب، خاصة وأن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يفكر فعليا بشأن تقييد ميزات طائرات الجيل السادس المقاتلة الجديدة من طراز F-47 المباعة للحلفاء، قائلا: "نود تخفيفها بنسبة 10% تقريبا، وهو أمر منطقي على الأرجح لأنهم قد لا يصبحون حلفاءنا يوما ما، أليس كذلك؟" 


وبينت المجلة أن التوجهات الأمريكية الأخيرة دفعت دولا أوروبية وحلفاء لواشنطن لإعادة التفكير بشأن صفقات الأسلحة الأمريكية. فعلى سبيل المثال، أفادت تقارير أن البرتغال وكندا تدرسان إلغاء جزءا من صفقة شراء مقاتلات "الشبح إف-35 لايتنينج 2" من شركة لوكهيد مارتن. كما تراجعت إيطاليا عن صفقة الاستحواذ على ستارلينك بعد حجب إيلون ماسك خدمة الأقمار الصناعية عن أوكرانيا، فيما يناقش الدانماركيون ما إذا كانت تهديدات ترامب لجرينلاند تعني أن عليهم اختيار نظام الدفاع الجوي الفرنسي الإيطالي "سامب/تي إن جي" بدلا من صواريخ باتريوت الأمريكية، وذلك قبيل توقيع عقد بهذا الشأن في وقت لاحق من هذا العام . 

تمويل العقود مع مصنعي الأسلحة الأوروبيين


ولفتت " فورين بوليسي" إلى أن خطط إنشاء أداة مالية أوروبية رئيسية لتمويل الدفاع تتقدم هي الأخرى حاليا، حيث سيتم بموجبها تمويل العقود مع مصنعي الأسلحة الأوروبيين فقط، وهو الأمر الذي لن يُكلف الولايات المتحدة وظائف وأرباحا وضرائب فحسب، بل سيقوض نفوذها في أوروبا أيضا.


ونبهت المجلة إلى تضرر مجال آخر من مجالات النفوذ الأمريكي في أوروبا جراء التطورات الأخيرة، وهو تبادل المعلومات الاستخباراتية. فعلى مدى عقود، منحت القدرات الهائلة لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، ووكالة استخبارات الدفاع، ووكالة الأمن القومي، وغيرها من الوكالات، الجانب الأمريكي اليد العليا في علاقاته مع نظرائه الأوروبيين. وقد ساعدت معلومات من الجانب الأمريكي دولا مثل ألمانيا وإستونيا في القبض على جواسيس روس. وفي المقابل، كانت الوكالات الأوروبية سعيدة بالمساعدة في أي قدرات متخصصة قد تكون مفيدة.


ولكن حاليا لم يعد الأمر كذلك فكبار مسؤولي الاستخبارات الأوروبيون يفكرون الآن مرتين قبل مشاركة أدق المعلومات مع نظرائهم الأمريكيين، خشية من تقلبات الإدارة الأمريكية. فعلى سبيل المثال، توقفت عمليات تبادل المعلومات الاستخباراتية الأمريكية مع أوكرانيا لمعاقبة حكومة كييف على ترددها في الالتزام بخطط وقف إطلاق النار الأمريكية . 


وعن فرص الاعتماد الأوروبي على الذات حاليا، ترى "فورين بوليسي" أن عملية الانتقال ستكون فوضوية، حيث لا تزال أوروبا تعاني من نقص حاد في القوات والدبابات والمدفعية والذخائر واللوجستيات ووسائل المراقبة وغيرها من الأصول اللازمة لدفاع تقليدي قوي؛ كما تفتقر إلى القوة الجوية والأسلحة بعيدة المدى اللازمة للردع التقليدي الفعال. لذا، فإن توفير قوة طمأنة حتى ولو كانت متواضعة في أوكرانيا بعد وقف إطلاق النار يبدو ضربا من الخيال بدون الدعم اللوجستي الأمريكي وغيره.


وتؤكد المجلة الأمريكية أنه رغم هذه الصعوبات، إلا أن المسار واضح، فكلما زاد ترامب من إعلانه "أمريكا أولا"، كلما سمع الأوروبيون عبارة "لا أحد يستطيع"، وكلما اندفعوا بعيدا عن حطام تحالف اعتبروه على سبيل الخطأ أمرا مفروغا منه. وأن كل خطوة أمريكية في هذا الاتجاه تزيد من نفوذ أوروبا وتضعف نفوذ الولايات المتحدة. 


وخلصت المجلة إلى أن الأمور تسير حاليا في اتجاه ينتهي بالولايات المتحدة إلى ما طالما رغبت في تجنبه، وهو: أوروبا ماكرة ومتنامية القوة ومستقلة في التفكير، فيما لن يكون من المبالغة حينها بناء نصب تذكاري لترامب في وسط بروكسل، ليُضاف إلى مؤسسي الوحدة الأوروبية أمثال جان مونيه، وروبرت شومان، وسيمون ويل؛ وذلك لدوره في دفع أوروبا لتجاوز خلافاتها والوحدة.


وربما لن يكون هذا الأمر سيئا تماما حسب المتصور، حيث قد يكون الكيان الجديد (أوروبا قوية وموحدة) شريكا كفؤا وفعالا للإدارات الأمريكية المستقبلية في التعامل مع الصين، ومكافحة تغير المناخ، وغيرها. لكنه سيكون أقرب إلى شراكة بين أنداد، بمعنى أن الأوروبيين سيكون لهم أفكارهم وأولوياتهم الخاصة في قضايا أخرى مثل الإدارة المالية العالمية، والصراع في الشرق الأوسط، والقانون الدولي. لذا، فإن الأمريكيين سيتفقدون بلا شك لعصر الوصاية على أوروبا.

طباعة شارك أوروبا الدفاع روسيا

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: أوروبا الدفاع روسيا الاتحاد الأوروبی فورین بولیسی

إقرأ أيضاً:

العراق، هايتي، أفغانستان.. جون ريندون عراب حروب أميركا

يُطلق جون ريندون على نفسه لقب "فارس المعلومات"، لكن اللقب الأدق هو: "خبير التضليل الإعلامي"، وفقا للمجلة الفرنسية لونوفيل أوبسرفاتور التي أعادت اليوم نشر تقرير كتبته في فبراير/شباط 2003 ضمن سلسلة تقارير عنونتها بـ"تاريخ الإمبراطورية الأميركية".

ولإتقانه لدعايته السرية، تقول المجلة، ظل ريندون لأكثر من 20 عاما الرجل الذي يلجأ إليه البنتاغون كلما أراد شن حرب دعائية أو غيرها كما في نيكاراغوا، لإضعاف معنويات الساندينيين، وفي بنما، لزعزعة استقرار الجنرال نورييغا، وكذلك في البلقان، وهاييتي وأفغانستان… ولكن أرض اللعبة المفضلة لريندون كانت العراق.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2أكسيوس: ترامب يريد الترويج لخلو رئاسته من الأخبار السيئةlist 2 of 2مقال في هآرتس: إسرائيل تخطط لاحتلال غزة لكنها لا تريد تحمّل مسؤولية قرارهاend of list

فمنذ عام 1990 إلى 2003، لم يتخلف جون ريندون عن المشاركة في أي محاولة انقلاب على الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين أو أي محاولة لزعزعة استقرار حكمه.

وتذكر المجلة أن ريندون أنشأ محطات إذاعية موجهة إلى بغداد، ركزت برامجها على السخرية من  صدام، كما أنشأ منظمات عميلة مثل "التحالف من أجل العدالة في العراق"، وهو الذي أطلق، بناءً على طلب من وكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، اسما على إحدى حركات المعارضة الرئيسية في المنفى، وهي الحركة الوطنية العراقية التي كان أحد قادتها موظفا سابقا في مجموعة ريندون.

وريندون هو الرئيس والمدير التنفيذي لهذه المجموعة التي تصف نفسها بأنها شركة اتصالات إستراتيجية عالمية لها حضور في أكثر من 120 دولة.

وكان ريندون هو رأس الحربة في الهجوم الإعلامي المكثف الذي شنه صقور فريق الرئيس الأميركي جورج دابليو بوش لإقناع النخب والجماهير الأميركية بضرورة شن حرب على العراق في عام 2003.

ابتداءً من سبتمبر/أيلول من تلك السنة، تقول المجلة، إن عدة منظمات كلفت بـ"تسويق" هذه الحرب لم تكن تحظى بشعبية كبيرة، وكان لكل منها مهمة، فعلى سبيل المثال، بادر البيت الأبيض بإنشاء "لجنة تحرير العراق"، وهدفها الرسمي هو "الترويج للإطاحة بصدام حسين".

جورج دبليو بوش يتحدث إلى جنود أميركيين في قاعدة بأفغانستان بينما تستمع زوجته لورا بوش (غيتي)

وقد خصص لهذه المنظمة منزل فخم في مبنى الكابيتول هيل بواشنطن، في موقع قريب جدا من الكونغرس، وفي مقرها الجديد، دأب قادة اللجنة على تنظيم حفلات عشاء للصحفيين مع مسؤولي البنتاغون، ووجبات إفطار مع مستشاري الرئيس، وجلسات إحاطة مع "متخصصين" في شؤون الشرق الأوسط، وجميعهم، بالطبع، يدعمون نفس الخط السياسي العدائي.

إعلان

وتقول لونوفيل أوبسرفاتور إن هذه الصيغة (لجنة مُخصصة لجذب اهتمام وسائل الإعلام) حققت نجاحا باهرا عدة مرات في الماضي، ففي عام 1990، نجحت حركة "مواطنون من أجل كويت حرة"، التي لم تدم طويلا، في إقناع أميركا المُترددة بشن حرب الخليج. وعلى سبيل المثال، نجحت هذه الحركة، بدعم من جورج بوش الأب، في إقناع الكونغرس والصحافة العالمية بأن الجنود العراقيين قتلوا أطفالا كويتيين بإخراجهم من حاضناتهم، وهو ما ثبت لاحقا أنه غير صحيح.

وتضيف المجلة أن جيمس وولسي، وهو مدير سابق لوكالة المخابرات المركزية الأميركية في التسعينيات، جاب في عام 2002، العالم باحثا عن أدلة تربط العراق بهجمات مركز التجارة العالمي، لكن من دون جدوى. غير أن ذلك لم يمنعه من الدفاع، بكل ما أوتي من قوة، عن نظرية تواطؤ بغداد مع إرهابيي 11 سبتمبر/أيلول.

وكانت القنوات التلفزيونية تستضيف العديد من أعضاء هذه اللجنة المُشجِّعة للحرب، يوميا تقريبا ويُشاهَد هؤلاء الصقور ذوو المراتب العالية، ويُسمَعون، ويُقرأ عنهم في كل مكان، في الولايات المتحدة وحول العالم. وتُشارك شركة بينادور أسوشيتس، إحدى شركات العلاقات العامة الأميركية الرائدة، بنشاط كبير في الترويج الدولي.

وشملت المرحلة الثانية من خطة الاتصالات المؤيدة للحرب، إنشاء هيئة عامة مسؤولة عن نقل وتضخيم رسائل الرئيس بوش الحربية إلى الخارج، وهي "مكتب الاتصالات العالمية".

ويرأس تاكر إسكيو، وهو من مؤيدي بوش المخلصين، هذا الجهاز الدعائي ويتحدث عن مهمته قائلا: "أنسق أنشطة المتحدثين الرسميين الرئيسيين باسم الإدارة، بحيث تصل رسالة واحدة فقط يوميا".

وبمعنى آخر، هو المسؤول الرئيسي عن "الهجوم"، وهو من جمع ونشر ملفات البيت الأبيض المزورة عن العراق (بلغت تكلفة تلك العملية حسب صحيفة تايمز اللندنية: 225 مليون دولار)، وصرح قائلا: "لقد نشرنا صور الأقمار الصناعية للمواقع النووية قيد الإنشاء".

ومع ذلك، وبعد زيارات عديدة، لم يعثر مفتشو الأمم المتحدة على أي شيء مثير للريبة في هذه المواقع المحددة. هل نُقلت المواد المحظورة بعد نشر الصور؟ هذا ما طرح آنذاك، وعلى أي حال، فإن هذه الملفات لم تقنع الكثيرين، وفقا للمجلة.

لكن، ورغم كل الجهود التي بذلت لـ"ترويج" الحرب، لاحظ العاملون على ذلك أن الرأي العام لا يزال غير مقتنع بها، وهنا أصبحوا يفكرون في "إجبار" الرأي العام على ذلك عبر المزيد من الخطوات: "فماذا لو، على سبيل المثال، دفعنا أموالا لصحفيين من دولة حليفة مهمة، مثل فرنسا، لكتابة مقالات مؤيدة؟"، يتساءل أحدهم.

وتنقل المجلة عن صحيفة نيويورك تايمز أن البنتاغون دأب في تلك الفترة على إثارة مثل هذه الأفكار، إذ كشفت أنه حتى في فبراير/شباط 2002، كان هناك مكتب يتولى مهمة عمليات التضليل يطلق عليه: مكتب التأثير الإستراتيجي (OSI)، والذي كان له الحق في تنظيم انقلابات، حتى في الدول الصديقة، وكان جون ريندون أحد ركائزه الرئيسيين.

وبعد نشر ذلك المقال، بلغت الفضيحة مداها لدرجة أن وزير الدفاع آنذاك دونالد رامسفيلد اضطر للإعلان عن إغلاق ذلك المكتب لكن أنشطة البنتاغون السرية، التي لطالما شابها التشهير، لم تتوقف.

إعلان

بل كان رامسفيلد نفسه هو من كشفها، في نوفمبر/تشرين الثاني 2002، أمام عدد من الصحفيين: "قلتُ (لمن يهمه الأمر): حسنا، تريدون القضاء على هذا الشيء. حسنا، يمكنكم دفن الاسم. لكنني سأواصل فعل ما يلزم. وقد فعلتُه".

وهنا تقول المجلة إن الناس يتذكرون الشهادة الغريبة لمن قيل إن لها علاقات مزعومة مع صدام حسين، وهي امرأة مجهولة قالت إن لها علاقات خاصة مع الرئيس العراقي وإنه تحدث عدة مرات مع بن لادن، وهي عملية تضليل من تدبير جون ريندون ولم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة، وفقا لما ختمت به لونوفيل أوبسرفاتور مادتها.

مقالات مشابهة

  • NYT: هل تستطيع أوروبا تعويض غياب الدور الأمريكي في إنهاء حرب غزة؟
  • الخارجية الروسية: النخب الأوروبية تبحث عن «عدو» لتبرير إخفاقاتها
  • السوداني:العراق وإيران جبهة واحدة ضد أمريكا وإسرائيل والاتحاد الأوروبي
  • وزير الدفاع الأمريكي يثير جدلا.. هل يحرم النساء من التصويت ومناصب قيادية؟
  • كوريا الشمالية: مناورات أمريكا وكوريا الجنوبية استفزاز خطير
  • سلوتسكي: قادة أوروبا يستحقون الشفقة وهم يحاولون اللحاق بـ”القاطرة” الروسية الأمريكية
  • فانس يطالب أوروبا بزيادة تمويل جهود الدفاع عن أوكرانيا
  • بشأن أوكرانيا.. ماذا تريد أوروبا من الاتفاق المنتظر بين أمريكا وروسيا؟
  • العراق، هايتي، أفغانستان.. جون ريندون عراب حروب أميركا
  • إعلام: أوروبا وكييف تطالبان أمريكا بمنح أوكرانيا فرصة للانضمام إلى الناتو