الذهب السوداني.. لوبيات تتحكم وسلطة خانعة

أحمد عثمان جبريل

الذهب في السودان ليس مجرد معدن ثمين، بل هو مرآة صادقة لحالة الدولة نفسها، حيث تنكشف عبره مآزق العجز عن إدارة الثروات، والانكشاف أمام جماعات المصالح التي تسيطر على القرار الاقتصادي دون رادع أو شفافية. في قلب هذا الملف تتصارع اللوبيات الاقتصادية مع سلطة تخضع ولا تقاوم، سلطة خانعة تحت وطأة الضغوط، تميل نحو ما يملي عليها، متنازلة عن سيادتها في لحظات حاسمة.

❝حين تُخضع الدولة ثروتها لمن لا يملك ضميرها، تتحول السيادة إلى سلعة، والوطن إلى منجمٍ بلا حارس.❞

— جبران خليل جبران

1

في لحظةٍ تبدو البلاد فيها أشبه بمريضٍ يتنفس على جهاز الدولة، يظهر الذهب- لا بوصفه معدنًا ثمينًا فحسب، بل كجرح مفتوح في الجسد الاقتصادي السوداني.. هذا الذهب الذي وُهب للأرض السودانية بكرم الطبيعة، تحول اليوم إلى لعنة ثقيلة تُعرّي ضعف المؤسسات وتكشف حجم الخضوع للوبياتٍ اقتصاديةٍ ماكرةٍ تكتب القرار وتعيد صياغته على هواها.. لا أحد يجادل أن السودان غني بالذهب، لكن الغنى الحقيقي لا يقاس بما في باطن الأرض، بل بما في ضمير السلطة من قدرة على حفظ الأمانة.

2

حين أصر محافظ بنك السودان المقال، برعي الصديق، على أن يكون تصدير الذهب عبر البنك المركزي فقط، لم يكن يمارس عنادًا بيروقراطيًا كما حاول خصومه تصويره، بل كان يتمسّك برؤيةٍ تعتبر أن الذهب ليس مجرد سلعةٍ للتجارة، بل عصب سيادةٍ اقتصادية لا يجوز أن تدار من خارج مؤسسات الدولة.. كان في رؤيته يؤمن أن السيطرة على حصائل الصادر هي مفتاح استقرار العملة وتوجيه الموارد نحو السلع الاستراتيجية، وأن غياب الدولة عن بوابة التصدير هو غيابٌ عن آخر معاقل نفوذها في اقتصادٍ تسيطر عليه شبكات المصالح والتهريب.

3

لكن الرجل الذي أراد أن يُمسك بزمام الذهب، وجد نفسه وحيدًا وسط بحر من الذئاب.. نعم فالشركات المصدرة، التي اعتادت أن تعمل عبر قنواتها الخاصة- وزارة التجارة، البنوك التجارية، وشبكات النفوذ القديمة- رأت في منشوره تهديدًا مباشرًا لمصالحها.. لم تكن المشكلة في الفكرة بل في التطبيق، إذ لم يمتلك البنك المركزي الآلية الواضحة ولا القوة المؤسسية التي تمكنه من تنفيذ القرار، فبقي المنشور حبراً على ورق، وبقي الذهب يخرج من بين أصابع الدولة كما يتسرب الماء من كفٍ مثقوب.

4

في قاعة الاجتماعات بمجمع الوزارات، حين احتدم الجدل، غادر برعي الصديق المكان غاضبًا.. لم يكن ذلك غضب مسؤول ضاق بالخلاف، بل غضب رجلٍ أدرك أن المعركة ليست فنية ولا إجرائية، بل سياسية حتى النخاع.. فوزير المالية د. جبريل إبراهيم، اختار الانحياز إلى الشركات، في مشهدٍ بدا فيه محافظ البنك كأنه آخر المدافعين عن فكرة الدولة في زمنٍ تراجع فيه مفهوم السيادة إلى آخر الصف. هناك، بين الجدران الباردة، تَجسّد الصراع بين سلطة خانعة ولوبيات متحكمة، وبين من يؤمن أن الاقتصاد الوطني لا يُدار بالترضيات.

5

ولأن السلطة في السودان اعتادت أن تُسكت الأصوات المزعجة لا أن تُجيبها، جاءت الإقالة سريعة كلمح البصر، كخاتمة طبيعية لموقفٍ وطنيٍ صلب.. أُبعد المحافظ، لا لأنه فشل في إدارة السياسة النقدية، بل لأنه تجاوز الخط الأحمر حين حاول أن يُعيد للدولة بعضًا من سلطتها المسلوبة.

لقد خسر برعي الصديق موقعه، لكنه كسب ما هو أثمن من المنصب: شرف أن يقف في صف المبدأ حين صمت الجميع.

6

أما من خَلَفَتْه في الكرسي، آمنة ميرغني حسن.. فهذه حديث آخر، فقد جاءت إلى المنصب محمّلةً بأسئلة أكثر من الإجابات.. فهي ليست غريبة عن البنك المركزي، لكنها أيضًا ليست بعيدة عن دوائر النظام القديم الذي أسقطته الثورة. أُبعدت سابقًا بقرار لجنة إزالة التمكين، ثم عادت اليوم إلى ذات المقعد الذي كان يفترض أن يرمز إلى تطهير المؤسسات. وبين هذه العودة وتلك الإقالة، يقف المواطن السوداني متسائلًا: هل هذه الدولة تتعلم من أخطائها أم تدور في فلكها الأبدي؟

7

قد تمتلك آمنة ميرغني خبرة مصرفية معتبرة، لكنها تدخل إلى مشهد رمادي لا تملك فيه حرية القرار أكثر مما يملك من سبقها. فالقضية لم تعد في الأسماء، بل في البنية العميقة التي تُمسك بخيوط الاقتصاد من وراء الستار.

لوبيات الذهب لا تهتم بمن يجلس في الكرسي بقدر ما تهتم أن يبقى الكرسي في متناولها، وأن تُدار السياسة النقدية بما لا يهدد امتيازاتها. السؤال الذي يفرض نفسه: هل تستطيع آمنة أن تتجاوز هذا الطوق الحديدي؟ أم أنها ستجد نفسها، طوعًا أو كرهًا، جزءًا من معادلة الخضوع ذاتها؟

8

في نهاية المطاف، ليست معركة الذهب بين شخصين أو مؤسستين، بل بين رؤية تريد للوطن أن يكون سيد قراره، وأخرى ترضى له أن يكون تابعًا في اقتصادٍ تُرسم حدوده من خارج الدولة.

بقي أن نقول إن الذهب السوداني اليوم ليس مجرد مورد اقتصادي، بل اختبار أخلاقي لسلطةٍ ما زالت تبحث عن شجاعتها المفقودة. وإذا لم تفهم الحكومة أن الثروة لا تُدار بالخنوع ولا بالمجاملة، فإن الذهب سيبقى رمزًا للضياع لا للغنى، وسيتحول البنك المركزي من حارس لاقتصاد الأمة إلى متفرج على تبديدها.

إنا لله ياخ.. الله غالب

الوسومآمنة ميرغني أحمد عثمان جبريل الثورة الذهب السودان النظام القديم برعي الصديق بنك السودان المركزي بورتسودان لجنة إزالة التمكين

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: آمنة ميرغني الثورة الذهب السودان النظام القديم برعي الصديق بنك السودان المركزي بورتسودان لجنة إزالة التمكين البنک المرکزی الذهب السودان

إقرأ أيضاً:

السيسي يستقبل رئيس مجلس السيادة السوداني

استقبل الرئيس عبد الفتاح السيسي، اليوم في قصر الاتحادية، السيد الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة الانتقالي لجمهورية السودان، وذلك بحضور الدكتور بدر عبد العاطي وزير الخارجية والهجرة وشئون المصريين في الخارج، واللواء حسن رشاد رئيس المخابرات العامة، ومن الجانب السوداني السيد محي الدين سالم وزير الخارجية، والفريق أول أحمد ابراهيم مفضل مدير عام جهاز المخابرات العامة، والسفير الفريق ركن مهندس عماد الدين مصطفى عدوى سفير جمهورية السودان بالقاهرة، واللواء الركن عادل اسماعيل أبو بكر الفكي مدير مكتب رئيس مجلس السيادة.

الرئيس السيسي يدعو مجلس الشيوخ الجديد للانعقاد السبت المقبل السيسي للشعب الإسرائيلي: مدوا أيديكم لتحقيق السلام في المنطقة

وصرح المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية بأن الرئيس رحّب بزيارة الفريق أول البرهان إلى مصر، مشيداً بما يجمع البلدين من علاقات أخوية راسخة، وما تشهده من تطور ملموس في مختلف المجالات.

وأضاف السفير محمد الشناوي، المتحدث الرسمي، أنه تمت مناقشة تطورات الأوضاع الميدانية في السودان الشقيق، والجهود الدولية والإقليمية الرامية لوقف الحرب وتحقيق الاستقرار في السودان، حيث أكد السيد الرئيس في هذا الصدد ثوابت الموقف المصري تجاه السودان، مشدداً على دعم مصر الكامل لوحدة السودان وسيادته وسلامة أراضيه، ورفضها القاطع لأي محاولات من شأنها تهديد أمنه أو النيل من تماسكه الوطني أو تشكيل أي كيانات حكم موازية للحكومة السودانية الشرعية. 

ومن جانبه، أعرب رئيس مجلس السيادة السوداني عن بالغ تقديره للدعم المصري المتواصل، وجهود الرئيس في هذا الخصوص، وهو الأمر الذي يُجسّد عمق العلاقات الأخوية بين الشعبين، ويسهم في جهود السودان للخروج من أزمته الراهنة واستعادة الأمن والاستقرار.

وأضاف المتحدث الرسمي أن اللقاء تناول أهمية الآلية الرباعية كمظلة للسعي لتسوية الأزمة السودانية، ووقف الحرب، وتحقيق الاستقرار المطلوب، حيث أعرب الرئيسان عن التطلع لأن يسفر اجتماع الآلية الرباعية الذي سوف يعقد في واشنطن خلال شهر أكتوبر الجاري عن نتائج ملموسة بغية التوصل لوقف الحرب وتسوية الأزمة.

وأشار المتحدث الرسمي إلى أن الاجتماع تطرق إلى مستجدات ملف مياه النيل، حيث جدد الجانبان رفضهما القاطع لأي إجراءات أحادية تُتخذ على النيل الأزرق، بما يتعارض مع أحكام القانون الدولي ذات الصلة. 

وفي السياق ذاته، شدد رئيس مجلس السيادة السوداني على وحدة الموقف بين مصر والسودان، وتطابق مصالحهما إزاء قضية السد الإثيوبي. 

واتفق الرئيسان، في هذا الإطار، على تعزيز وتكثيف آليات التشاور والتنسيق بين البلدين لضمان حماية الحقوق المائية المشتركة.

 

مقالات مشابهة

  • سعر الدولار في البنك المركزي يوم الأربعاء
  • الأولى من نوعها في مصر.. إطلاق منصة «هوية» الرقمية بدعم من البنك المركزي
  • سعر الدولار ينخفض في البنك المركزي المصري إلى 47.57 جنيه.. تفاصيل
  • السيسي يستقبل رئيس مجلس السيادة السوداني
  • رغم قرار المركزي بتخفيض سعر الفائدة.. البنك الأهلي يبقي على شهادات الادخار دون تغيير
  • البنك المركزي:(170) طناً حيازة العراق من الذهب
  • سعر العملات الأجنبية مقابل الجنيه في البنك المركزي اليوم
  • إقالة محافظ بنك السودان المركزي وآمنة التوم تخلفه بالمنصب
  • البنك المركزي: عدد شركات الصرافة في مصر ينخفض لـ 28 بنهاية 2024