لجريدة عمان:
2025-08-12@07:08:07 GMT

التعليم ووتيرة عالم عدم اليقين

تاريخ النشر: 26th, April 2025 GMT

تواجه الدول، باختلافها، اليوم تحدي التكيف مع عالمٍ هش؛ تتنازعهُ معطيات عدم اليقين في المسارات التي يسري فيها، ويؤطره الغموض لأسباب ومآلات أحداثه، وتطبعه سماتُ عدم القدرة على التنبؤ، ويؤطرهُ التعقيد، حيث الأحداث السياسية والاقتصادية والصحية والتنازعات والتوترات تتعقد شبكة تأثيراتها لتشمل مجالات وسياقات جغرافية أبعد من نطاقها ومحيطها.

ويضعف هذا العالم قدرة الدول على وضع الخطط والاستراتيجيات، ويقلص من كفاءاتها في تدبير شؤون نموها الاقتصادي وتوازنها الاجتماعي، ويجعلها في الوقت ذاته في أهبة مستمرة لوضع تدابير التكيف، والمسارات البديلة لإدارة شؤونها التنموية. وليس هناك أفق واضح اليوم لأن تكون هذه الهشاشة مؤقتة أو مرحلة عابرة في التاريخ الإنساني، بل تتزايد وتيرتها على مدار الساعة، وتتزايد رقعة المتأثرين بها على امتداد العالم.

في المقابل تعمل الدول اليوم على إيجاد 3 محكات استراتيجية للتعامل مع هذا العالم: أولها، في إعادة مراجعة أطر التخطيط الاستراتيجي لديها، وثانيها، في تمكين مواردها المحلية وتعزيز مستويات الاكتفاء من الداخل لديها؛ بما في ذلك الاكتفاء بالمهارات والإمدادات الحيوية، وضمان استدامة القطاعات الرئيسية للتنمية والاقتصاد. أما المحك الثالث، فيتجسد في مراجعة منظومات علاقاتها وصداقاتها وتحالفاتها، وإعادة تنضيد تلك العلاقات بما يضمن تشكيل القوى الاستراتيجية، وضمان الصمود، وتعزيز مكون القوة الاقتصادية.

وفي المقابل وحيث إننا أمام تشكلات جديدة للعالم تسيطر عليها الهشاشة، فإن مهمة التكيف معها ينبغي ألا تكون مسؤولية على قطاعات التخطيط الاستراتيجي وحده، بل تنبغي أن تكون حالة التكيف «ثقافة» عامة ترسخ عبر مختلف آليات ومؤسسات وأدوات التثقيف العام، بما في ذلك مؤسسات التعليم وآلياته. يتفاوت المجتمع في مناقشته لهذه التحولات العالمية وتأثيراتها على السياقات المحلية؛ فهناك سرديات متوجسة، وسرديات تتبنى فكرة أن ما يحدث في السياق الخارجي لا يعكس تأثيرًا على ما يحدث في السياق الداخلي، وهناك سرديات قلقة إلى حدود الاستنكار، وسرديات تتبنى فكرة النوستاليجا (الحنين إلى الماضي) بوصفه الوضع الأمثل للفهم والسيطرة والقدرة على التدبير، إضافة إلى وجود سرديات واقعية مواكبة وتحاول استيعاب المتغير في صيرورته الحقيقية وحدود تأثيراته. ولكن يبقى السؤال الرئيس: من الذي يصوغ تلك السرديات؟ ومن يبنيها؟ ومن يستطيع أن يوجهها لخدمة حالة التكيف العام؟ والواقع أن آليات التعليم والإعلام ومؤسسات التثقيف العام، وفعل مؤسسات الدولة الرسمية واستجابتها للأحداث والمتغيرات، وقدرتها على التفاعل الإيجابي مع المجتمع في توضيح تدابير تلك التفاعلات يوجه بشكل عام السردية الاجتماعية تجاه هذا العالم. ولتحويل الكلام النظري أعلاه إلى فهم تطبيقي يمكننا أن نأخذ أي قضية متطورة (حدث عالمي متفاعل)، وليكن الصراع التجاري بين الولايات المتحدة الصين مثلًا، أو مسائل الاحترار العالمي والتغيرات المناخية، أو التوترات السياسية في المنطقة، ولنتدبر في الكيفية التي يناقش فيها المجتمع تلك القضايا وتطوراتها وأشكال السرديات الناشئة عن تلك النقاشات، ليس فقط على مستوى الأوساط الرسمية والنخبوية، ولكن حتى على مستوى القاعدة العامة للمجتمع، سنجد تباينًا واسعًا في السرديات.

وهنا يأتي في تقديرنا دور ما نسميه بـ«التعليم التبصري Insightful education» وهو تعليمٌ يركز على مجموعة من المعطيات التي تؤهل الأجيال للتعامل والتكيف مع عالم متغير، وهذه المعطيات منها: تعزيز عقليات النمو، ومؤداها توسيع القدرة على التعلم والتجريب المستمر، وجعل بيئات التعلم مساحة لاكتساب المعرفة من خلال التجربة والحوار والانطلاق من فكرة مواجهة التحديات لبناء المعرفة بالعالم الحقيقي، وتمكين الحوار وفضاءات النقاش المفتوحة لتكون موجهًا أساسيًا للتعلم والفهم. يقول عالم النفس ديفيد ييغر إن «الرسائل القصيرة والمصممة جيدًا حول قدرة الدماغ على النمو يمكن أن تكون لها تأثيرات قوية ودائمة على دوافع الطلاب وإنجازاتهم». وما يمكن التعلم القائم على عقلية النمو تعزيز نهج ما يعرف بعبور التخصصات Learning across disciplines ومؤداه ألا تكون المعرفة داخل بيئات التعلم في جزر منعزلة، وألا يتم تبني فكرة أن الاختصاص العميق هو الوسيلة المثلى للفهم، بل توسيع الفهم عبر التخصصات، فالمختص في الطب يستوعب المحكّات الاجتماعية التي تسهم في نشوء الأمراض وتكريس الممارسات غير الصحية، وطالب مادة الرياضيات إلى جانب استيعابه لتطبيقاتها في الحياة الاقتصادية والحياة العامة يفهم مركزيتها للسياسة وتدبير التنمية، وطالب التاريخ يفهم التجاذبات السياسية ودور القوى السياسية في تحويل بعض مسارات التاريخ وأدلجتها، والمختص في علم الاجتماع يستوعب المحددات الاقتصادية التي يستوجب توفرها في أي اقتصاد واستدامتها ليتحقق للمجتمع رفاهه واستقراره. إذن بيئات التعلم مدعوة لأن تكون ورشًا لا يتم الحديث فيها في غرف منعزلة، بل تمتد لعصف الأفكار وعبور التخصصات وتنشيط الحوار المرتبط بمحكّات الواقع، وقضايا العالم الفعلية لا النظرية وحدها.

وهذا يقودنا للتأكيد على ضرورة أن تتبنى أنظمة التعلم نهج ما يُعرف بالتعلم القائم على التعامل مع مشكلات الواقع Real-life problem-based learning وتقديم نماذج للتحديات/ الظواهر/ القضايا/ المشكلات التي تلف الواقع في المجالات المختلفة، ووضع الطلبة أمامها وتقريبهم منها وتمكينهم من فهمها والتعامل معها بأدواتهم النظرية والمعرفية، دون تجاهل لفكرة أن «حل المشكلات نظريًا لا يعني بالضرورة القدرة على حلها في الواقع». كما أن إدماج المؤسسات الحيوية كالمؤسسات الاقتصادية والمالية وتشجيعها على المشاركة بجرعات معرفية وتطبيقية للطلبة في مختلف مؤسسات التعليم يعد ضرورة قصوى لتعزيز هذا الاتصال بين مسارات التعلم وتنشئة الطلبة وبين متطلبات تأسيس ثقافة التكيف مع العالم المتغير.

مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية فـي سلطنة عُمان

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: التکیف مع أن تکون

إقرأ أيضاً:

شيخ الأزهر: عالم اليوم يمر بظروف حرجة وأزمة أخلاقية عاصفة

أصدرت المنظمة العالمية لخريجي الأزهر العدد الجديد من مجلتها الشهرية «منبر الوافدين»، في إطار إصداراتها الإعلامية الهادفة إلى تثقيف وتوعية الطلاب الوافدين. 

شيخ الأزهر يستقبل مفتي بوروندي لبحث سُبُل تعزيز دعم التعاون الديني.. صورالأزهر صوت الحق.. دعم جزائري لمواقف الإمام الأكبر تجاه فلسطين

وتصدّر غلاف العدد صورة تجمع فضيلة الإمام الأكبر أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، وقداسة البابا تواضروس الثاني، تحت العنوان الرئيس: «شرائع الأديان سلام الأوطان». كما تضمن العدد مقالًا لفضيلة الإمام الأكبر بعنوان: «الأوطان تشتاق إلى سلام دائم وعيش لا عنف فيه ولا إرهاب».

وفي مقاله، أكد الإمام الأكبر أن عالم اليوم يمر بظروف حرجة وأزمة أخلاقية عاصفة، حتى غدت معاني المحبة والسلام استثناءً في ظل سيطرة الأنانية والكراهية والصراع، مشيرًا إلى أنه: «لا يكاد يوجد وطن إلا وهو يشتاق إلى سلام دائم وعيش لا عنف فيه ولا إرهاب». وأعرب فضيلته عن أسفه الشديد لاتهام الأديان زورًا بأنها مصدر الإرهاب، مشددًا على أن السلام لن يعمّ العالم إلا إذا تعاونت المؤسسات الدينية وقادتها يدًا بيد على صناعته، مذكرًا بنداء الأزهر منذ أكثر من سبعين عامًا بضرورة إحلال السلام بين رجال الأديان أنفسهم، ثم بينهم وبين المفكرين وأصحاب القرارات المصيرية، قبل نشره بين الناس كافة.

كما ضم العدد مقالًا للدكتور عباس شومان، رئيس مجلس إدارة المنظمة، أوضح فيه أن إرادة الله تعالى اقتضت اختلاف البشر في أديانهم ومعتقداتهم ومذاهبهم، ومنح الإنسان حرية الاختيار ليحاسب كل فرد أمام خالقه. 

وأكد أن القرآن الكريم والسنة النبوية وجّها البشرية إلى العيش في إطار وحدة إنسانية قائمة على المساواة والعدل والتقوى، بعيدًا عن أي تمييز عرقي أو ديني. وأضاف أن القيم الإنسانية العليا (كالعدل والرحمة والتسامح والوفاء بالعهد وحب الأوطان) ليست حكرًا على فئة بعينها، مشددًا على أن الالتزام بتعاليم الأديان الحقة يعزز قيم المواطنة ويحقق الانسجام المجتمعي، لتظل راية الوطن مرفوعة بسواعد جميع أبنائه مسلمين وغير مسلمين، في ظل عدالة تصون الحقوق وتُعلي الواجبات.

وتناول الدكتور سلامة داود، رئيس جامعة الأزهر، في مقاله مفهوم المواطنة في المجتمع متعدد الديانات، مبينًا أنها تقوم على دمج جميع أفراد المجتمع – على اختلاف معتقداتهم – في نسيج الوطن الواحد، بما يتيح لهم المشاركة الفاعلة في الحياة العامة والمساهمة في تنمية مجتمعاتهم. وأشار فضيلته إلى جهود الأزهر الشريف بقيادة الإمام الأكبر في نشر قيم الوسطية والاعتدال وتصحيح المفاهيم المغلوطة، مستشهدًا بـ«وثيقة الأخوة الإنسانية» التي وقّعها الإمام الأكبر مع الراحل قداسة البابا فرنسيس واعتمدتها الأمم المتحدة، فضلًا عن تأسيس بيت العائلة المصرية بالتعاون مع الكنيسة المصرية.

كما نشرت الدكتورة نهلة الصعيدي، مستشار شيخ الأزهر وعميد كلية العلوم الإسلامية للوافدين، مقالًا أوضحت فيه أن الرسالات السماوية جاءت لإطفاء نيران الصراع، وأن شرائعها وضعت نظامًا متكاملًا للسلام يبدأ من العقيدة ويتجسد في السلوك، مؤكدةً أن الأديان لم تكن يومًا سببًا في إراقة الدماء، بل كانت صوتًا يدعو إلى الرحمة والتعقل والعدل.

واختُتم العدد بمجموعة من المقالات التي خطّها الطلاب الوافدون، عبّروا فيها عن جوهر وسطية الشرائع السماوية ورسالتها في إرساء التعايش المشترك، والعمل معًا على ترسيخ قيم السلام والعدل والمحبة بين الشعوب على اختلاف أديانها وثقافاتها، مؤكدين أن رسالة الأديان تقوم على بناء الإنسان ونشر الطمأنينة والوئام، بما يجسد رؤية الأزهر في تعزيز الحوار الحضاري وترسيخ أسس التفاهم بين الأمم.

طباعة شارك الأزهر الوافدين الإمام الأكبر البابا تواضروس شيخ الأزهر الأديان

مقالات مشابهة

  • برلماني: تطوير التعليم بوابة مصر للنهضة الاقتصادية والاجتماعية
  • شيخ الأزهر: عالم اليوم يمر بظروف حرجة وأزمة أخلاقية عاصفة
  • الأرصاد: فرصة تكون سحب ركامية يصاحبها سقوط أمطار
  • رغم كونها الدولة الأكثر زيارة في العالم.. كيف نجت فرنسا من الاحتجاجات ضد السياحة التي عصفت بجيرانها؟
  • جنات لـ «الأسبوع»: فكرة الألبومات كانت وحشاني.. وتذوق الجمهور للموسيقى رجع تاني
  • تعرف على مشروع تعزيز التكيف مع التغيرات المناخية فى دلتا النيل
  • أمين الفتوى: الكلمة قد تكون كسب حلال أو حرام
  • ميزات جديدة في iOS 26 قد لا تكون لاحظتها
  • نهاية الحرب بين روسيا وأوكرانيا.. هل تكون بـ"تبادل الأراضي"؟
  • هل تكون أفريقيا طوق نجاة للاقتصاد الكندي؟