لجريدة عمان:
2025-06-18@05:32:16 GMT

التعليم ووتيرة عالم عدم اليقين

تاريخ النشر: 26th, April 2025 GMT

تواجه الدول، باختلافها، اليوم تحدي التكيف مع عالمٍ هش؛ تتنازعهُ معطيات عدم اليقين في المسارات التي يسري فيها، ويؤطره الغموض لأسباب ومآلات أحداثه، وتطبعه سماتُ عدم القدرة على التنبؤ، ويؤطرهُ التعقيد، حيث الأحداث السياسية والاقتصادية والصحية والتنازعات والتوترات تتعقد شبكة تأثيراتها لتشمل مجالات وسياقات جغرافية أبعد من نطاقها ومحيطها.

ويضعف هذا العالم قدرة الدول على وضع الخطط والاستراتيجيات، ويقلص من كفاءاتها في تدبير شؤون نموها الاقتصادي وتوازنها الاجتماعي، ويجعلها في الوقت ذاته في أهبة مستمرة لوضع تدابير التكيف، والمسارات البديلة لإدارة شؤونها التنموية. وليس هناك أفق واضح اليوم لأن تكون هذه الهشاشة مؤقتة أو مرحلة عابرة في التاريخ الإنساني، بل تتزايد وتيرتها على مدار الساعة، وتتزايد رقعة المتأثرين بها على امتداد العالم.

في المقابل تعمل الدول اليوم على إيجاد 3 محكات استراتيجية للتعامل مع هذا العالم: أولها، في إعادة مراجعة أطر التخطيط الاستراتيجي لديها، وثانيها، في تمكين مواردها المحلية وتعزيز مستويات الاكتفاء من الداخل لديها؛ بما في ذلك الاكتفاء بالمهارات والإمدادات الحيوية، وضمان استدامة القطاعات الرئيسية للتنمية والاقتصاد. أما المحك الثالث، فيتجسد في مراجعة منظومات علاقاتها وصداقاتها وتحالفاتها، وإعادة تنضيد تلك العلاقات بما يضمن تشكيل القوى الاستراتيجية، وضمان الصمود، وتعزيز مكون القوة الاقتصادية.

وفي المقابل وحيث إننا أمام تشكلات جديدة للعالم تسيطر عليها الهشاشة، فإن مهمة التكيف معها ينبغي ألا تكون مسؤولية على قطاعات التخطيط الاستراتيجي وحده، بل تنبغي أن تكون حالة التكيف «ثقافة» عامة ترسخ عبر مختلف آليات ومؤسسات وأدوات التثقيف العام، بما في ذلك مؤسسات التعليم وآلياته. يتفاوت المجتمع في مناقشته لهذه التحولات العالمية وتأثيراتها على السياقات المحلية؛ فهناك سرديات متوجسة، وسرديات تتبنى فكرة أن ما يحدث في السياق الخارجي لا يعكس تأثيرًا على ما يحدث في السياق الداخلي، وهناك سرديات قلقة إلى حدود الاستنكار، وسرديات تتبنى فكرة النوستاليجا (الحنين إلى الماضي) بوصفه الوضع الأمثل للفهم والسيطرة والقدرة على التدبير، إضافة إلى وجود سرديات واقعية مواكبة وتحاول استيعاب المتغير في صيرورته الحقيقية وحدود تأثيراته. ولكن يبقى السؤال الرئيس: من الذي يصوغ تلك السرديات؟ ومن يبنيها؟ ومن يستطيع أن يوجهها لخدمة حالة التكيف العام؟ والواقع أن آليات التعليم والإعلام ومؤسسات التثقيف العام، وفعل مؤسسات الدولة الرسمية واستجابتها للأحداث والمتغيرات، وقدرتها على التفاعل الإيجابي مع المجتمع في توضيح تدابير تلك التفاعلات يوجه بشكل عام السردية الاجتماعية تجاه هذا العالم. ولتحويل الكلام النظري أعلاه إلى فهم تطبيقي يمكننا أن نأخذ أي قضية متطورة (حدث عالمي متفاعل)، وليكن الصراع التجاري بين الولايات المتحدة الصين مثلًا، أو مسائل الاحترار العالمي والتغيرات المناخية، أو التوترات السياسية في المنطقة، ولنتدبر في الكيفية التي يناقش فيها المجتمع تلك القضايا وتطوراتها وأشكال السرديات الناشئة عن تلك النقاشات، ليس فقط على مستوى الأوساط الرسمية والنخبوية، ولكن حتى على مستوى القاعدة العامة للمجتمع، سنجد تباينًا واسعًا في السرديات.

وهنا يأتي في تقديرنا دور ما نسميه بـ«التعليم التبصري Insightful education» وهو تعليمٌ يركز على مجموعة من المعطيات التي تؤهل الأجيال للتعامل والتكيف مع عالم متغير، وهذه المعطيات منها: تعزيز عقليات النمو، ومؤداها توسيع القدرة على التعلم والتجريب المستمر، وجعل بيئات التعلم مساحة لاكتساب المعرفة من خلال التجربة والحوار والانطلاق من فكرة مواجهة التحديات لبناء المعرفة بالعالم الحقيقي، وتمكين الحوار وفضاءات النقاش المفتوحة لتكون موجهًا أساسيًا للتعلم والفهم. يقول عالم النفس ديفيد ييغر إن «الرسائل القصيرة والمصممة جيدًا حول قدرة الدماغ على النمو يمكن أن تكون لها تأثيرات قوية ودائمة على دوافع الطلاب وإنجازاتهم». وما يمكن التعلم القائم على عقلية النمو تعزيز نهج ما يعرف بعبور التخصصات Learning across disciplines ومؤداه ألا تكون المعرفة داخل بيئات التعلم في جزر منعزلة، وألا يتم تبني فكرة أن الاختصاص العميق هو الوسيلة المثلى للفهم، بل توسيع الفهم عبر التخصصات، فالمختص في الطب يستوعب المحكّات الاجتماعية التي تسهم في نشوء الأمراض وتكريس الممارسات غير الصحية، وطالب مادة الرياضيات إلى جانب استيعابه لتطبيقاتها في الحياة الاقتصادية والحياة العامة يفهم مركزيتها للسياسة وتدبير التنمية، وطالب التاريخ يفهم التجاذبات السياسية ودور القوى السياسية في تحويل بعض مسارات التاريخ وأدلجتها، والمختص في علم الاجتماع يستوعب المحددات الاقتصادية التي يستوجب توفرها في أي اقتصاد واستدامتها ليتحقق للمجتمع رفاهه واستقراره. إذن بيئات التعلم مدعوة لأن تكون ورشًا لا يتم الحديث فيها في غرف منعزلة، بل تمتد لعصف الأفكار وعبور التخصصات وتنشيط الحوار المرتبط بمحكّات الواقع، وقضايا العالم الفعلية لا النظرية وحدها.

وهذا يقودنا للتأكيد على ضرورة أن تتبنى أنظمة التعلم نهج ما يُعرف بالتعلم القائم على التعامل مع مشكلات الواقع Real-life problem-based learning وتقديم نماذج للتحديات/ الظواهر/ القضايا/ المشكلات التي تلف الواقع في المجالات المختلفة، ووضع الطلبة أمامها وتقريبهم منها وتمكينهم من فهمها والتعامل معها بأدواتهم النظرية والمعرفية، دون تجاهل لفكرة أن «حل المشكلات نظريًا لا يعني بالضرورة القدرة على حلها في الواقع». كما أن إدماج المؤسسات الحيوية كالمؤسسات الاقتصادية والمالية وتشجيعها على المشاركة بجرعات معرفية وتطبيقية للطلبة في مختلف مؤسسات التعليم يعد ضرورة قصوى لتعزيز هذا الاتصال بين مسارات التعلم وتنشئة الطلبة وبين متطلبات تأسيس ثقافة التكيف مع العالم المتغير.

مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية فـي سلطنة عُمان

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: التکیف مع أن تکون

إقرأ أيضاً:

دور الثقافة والفن في مواجهة الرأسمالية وإعادة فكرة المقاومة في العصر الحالي

نظّم النادي الثقافي مساء أمس في مقرِّه جلسة حوارية بعنوان: "الثقافة والمقاومة في عصر الرأسمالية"، شارك فيها كلا من: المكرمة الدكتورة عائشة الدرمكية، والدكتور زكريا المحرمي، والشاعر عبدالله حبيب، بإدارة المحاور علوي المشهور، وبحضور جمع غفير من المثقفين والمهتمين بالشأن الثقافي الراهن.

وسلّطت الجلسة الضوء على عدة محاور، أهمها: المقاومة الثقافية في ظل الأحداث السياسية الحالية، وتوغّل الرأسمالية في حياتنا اليومية بحيث أصبحت أدوات المقاومة أداة اقتصادية بإطار رأسمالي، وتناولت الجلسة موضوع المقاطعة والقيم وتراجع فكرة المقاومة، ودور الثقافة والفن في مواجهة الرأسمالية وإعادة فكرة المقاومة في العصر الحالي.

وتناول الكاتب عبدالله حبيب جذور الرأسمالية ونشأتها منذ منتصف القرن الثامن عشر، وذكر أن السياق الرأسمالي حاضر بقوة في جميع مراحل الحياة، والنقد الحقيقي للرأسمالية جاء من "الماركسية" بجميع أنواعها: المبكرة والمتأخرة، والشرقية والغربية، والذي لا يزال يُناقش ليومنا هذا هي مدرسة الماركسية الجديدة.

وتطرقت المكرمة الدكتورة عائشة الدرمكية إلى دور الثقافة والفن في مواجهة فكرة الرأسمالية، حيث ذكرت أن الرأسمالية ظهرت منذ ثلاثة قرون بتسليع الأفكار الثقافية، والسياحة منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر، بحيث ظهرت مكاتب السياحة التي تستخدم زيارة المتاحف والمعارض كغرض تجاري، وأضافت الدرمكية إن الصناعات الثقافية تعد ثالث مورد اقتصادي للدول العظمى، وفي الوقت الحالي كل فكرة ثقافية مُسلّعة مثل فرق الفنون الشعبية، والصناعات الحرفية؛ وذكرت أن الثقافة هي الوعاء الذي يُستفاد منه على المستويات السياسية والاقتصادية والتقنية.

كما ناقش الدكتور زكريا المحرمي الوضع السياسي الحالي في غزة وطهران واليمن وتداعيات الحرب بسبب النظام الصهيوني، بقوله على لسان الكاتب إدوارد سعيد إن "الصهيونية هي ابنة الاستعمار"، وذكر أن الرأسمالية حاضرة اليوم أمامنا ليست بفرض وجودها بالعنف وحسب، وإنما بطرائق أخرى وهي "الهيمنة"، وذكر مثالًا على ذلك احتلال الإمبراطورية البريطانية لثلاثة أرباع العالم بالحرب بالقوة ومن ضمنها عُمان قديمًا، وأن أول شكل من أشكال المقاومة الثقافية هو الإمام نور الدين السالمي الذي قاوم ثقافيًا بحيث استخدم لسان قومه ثقافيًا، وعلى المستوى الاجتماعي رفض دخول الغرب في المجتمع العماني كموضوع تأجير المنازل للبريطانيين، أو توظيفهم في بيت المال، وكذلك رفض العملة النقدية البريطانية.

وأضاف المحرمي: إن المجتمع العماني متنوع منذ القدم؛ فهو كـ"الفسيفساء" يضم الإثنيات المختلفة المتعايشة مع بعضها البعض، وأن الرأسمالية مرّت بأطوار عديدة متقلبة ولا يمكن اتهامها قطعيًا بأنها "الشر المطلق".

كما بيّن حبيب أن الرأسمالية أداة مفتوحة حالها كحال النظم الأخرى، وإذا كان لها حسنة واحدة فهي أفضل من العبودية والإقطاع، والشرط الأخلاقي هو الذي يُنجي الفرد من المناورات السياسية عن طريق المبدأ الثوري وهو شكل من أشكال المقاومة، وأضاف حلولًا لبقاء فكرة المقاومة هو رد الاعتبار للمقاومة الوطنية وتاريخها، والتصدي للهيمنة الرأسمالية، كذلك إنتاج خطاب معرفي جديد وراسخ عوضًا عن الاستهلاك، وإعادة المفاهيم الرئيسية التي صاغها النظام الغربي كالمساواة والعدالة، وإعادة الحركة للذاكرة الوطنية.

وأبدى الدكتور زكريا رأيه حول الرأسمالية الحالية في مجتمعنا، وهي "رأسمالية منصات التواصل الاجتماعي" التي أصبحت هي السوق، وللأسف تم دعمها من كل الجهات، وأدى هذا إلى "تشييع" العلاقات الاجتماعية، وصار المظهر هو الأساس، مما أدى إلى شعور الشباب بالاغتراب، فزادت حالات الاكتئاب والانتحار بين المراهقين، واقترح المحرمي حلولًا لتقليل هذه الظاهرة بالتعليم، وتعليم النشء على التفكير النقدي وتدريبهم على الصلابة الشخصية، وعلى مؤسسات المجتمع المدني تبنّي استراتيجيات مناسبة للارتقاء بمستوى المجتمع، كذلك نصح بالاتصال بالرموز والشخصيات الكبيرة التاريخية نظرًا لضرورتها القصوى في ترسيخ الهوية والمقاومة، وأن المقاومة الثقافية هي أقوى أشكال المقاومة لأنها تقود معركة الوعي.

وأضاف: "التراث العماني يجب أن يضعه الشباب موضع قوة، والاستعانة بالتراث واللحمة الوطنية والهوية الوطنية يمنح الشباب المقاومة".

وبيّنت المكرمة الدكتورة عائشة الدرمكية وضع المقاومة في الأحداث الحالية التي تجري حاليًا في فلسطين، عندما أمر "ترامب" بترحيلهم لدول مجاورة، نهضت المقاومة وانتفض العالم يقاوم ككل لرفض فكرة القمع والقتل والتهجير، وتضامن مع الشعب الفلسطيني، وبالرغم من وقوف العالم مع المقاومة، إلا أن المواطنة العالمية "المنظمات الدولية وتقاريرها" غضّت الطرف في الانتهاكات التي تطال المجتمع العربي، كما أشارت إلى موضوع "الذكاء الاصطناعي" بوصفه كهدف رأسمالي مدمّر للعقل البشري إذا تم الاستعانة به بشكل كامل، وعلى المدى البعيد سيلغي دور البشرية والإبداع المتفرّد، لأن وظيفته فقط هي تفكيك وإعادة صياغة، وليس له علاقة بالإنتاج الإبداعي، مما يخلق تشابهًا كبيرًا في المخرجات الفنية.

واختتمت الجلسة الحوارية بفتح باب النقاش للحضور بمداخلات مُثرية منهم، تم التحدث فيها عن الثقافة بين جوهر المقاومة وثقافة التأريض، وجوهر المقاومة الثقافية يكمن في إنتاج الفن القادر على مساءلة السلطة، وكذلك تم نقاش موضوع الإسلاموفوبيا الناتج من الغرب وكيف يتم تصحيحه، وطُرح سؤال مهم حول كيفية تعزيز دور المثقف وسط زحمة برامج التواصل الاجتماعي، وعن تأثر الأنظمة التعليمية الحالية بالنظام الغربي.

مقالات مشابهة

  • اختبارات اليوم الدراسيّ.. رؤية واعدة تواجه تحديات التنفيذ
  • "شباب هارفارد يقودون التغيير" يصل عُمان ضمن فعاليات "مختبر التعلم"
  • أكسيوس: هذا موقف ترامب من فكرة نتنياهو بشأن تغيير النظام الإيراني
  • الملك عبدالله الثاني… صوت العقل في عالم يضج بالحروب
  • وزير الري: ضرورة تعزيز قدرات الدول العربية في تعبئة تمويلات لمشروعات التكيف مع المناخ
  • إيلون ماسك معاون دجال.. عالم: الشركات تستغنى عن الإنسان وتستعين بالروبتات
  • كيف تتعامل الدول العربية مع التغيرات الاقتصادية والجيوسياسية؟
  • التقرير الأسبوعي لمجموعة QNB : «عدم اليقين» لم تؤثر على صمود الأوضاع المالية العالمية
  • دور الثقافة والفن في مواجهة الرأسمالية وإعادة فكرة المقاومة في العصر الحالي
  • أداء مذهل وتصميم رائع.. 5 موديلات قد تكون خيارك المثالي في عالم السيارات