الحركات الدارفورية… هامش المناورة وثمن الحرب
تاريخ النشر: 6th, May 2025 GMT
خلقت الحرب الجارية في السودان منذ انطلاقها بوحشيتها المفزعة منذ عامين، كل ما يمكن أن يناقض منطق استراتيجيات السياسة وميزان القوة العسكرية، بما يعكسه هجين القوات المتقاتلة وتعدد اتجاهاتها وطبيعية تحالفاتها، وما ترتكبه من فظائع بناء على منطلقاتها الأيدولوجية، والأكثر من ذلك حالة الاستقطابات الإثنية (القبلية) والمناطقية التي وصلت إليها الحرب.
وتضم هذه الخريطة فيما تضم كيانات شبه عسكرية وقبلية دارفورية تعرف بالحركات المسلحة أو حركات الكفاح المسلح، كما أطلق عليها عقب ثورة ديسمبر 2019، التي دفعت بها إلى حيز الوجود السياسي في المركز ومن قبله العسكري ما ارتكب ضد مجموعاتها السكانية المصنفة بالقبائل الأفريقية من حرب تطهير عرقي. واستخدمت الدولة الدعم السريع في تطوراته المختلقة من جنجويد وقوات حرس حدود منذ ذلك الوقت. وقد عادت هذه الحركات مرة أخرى للتحالف مع سياسي الدولة نفسها (دولة 56) التي طبقت عليها سياسة الأرض المحروقة، ولكن اختلاف طبيعة هذه الحركات التي خرجت على سلطان الدولة كحركات احتجاجية مطالبية لرفع الظلم الذي مورس ضد الإقليم من المركز، والتعامل معه كهامش جغرافي وتنموي يعاني ساكنوه نبذًا اجتماعيًا وتعاليًا قبليصا (عنصريًا) من قبل سلطة المركز - المجموعات التي تهمين على السلطة فيه، لازمتها أزمة المواقف السياسية المبدئية مما عرضها للاستقطاب والاستغلال السياسي مستخدمة من كل الأطراف السياسية والعسكرية.
واستقبلت هذه الحركات بعد سقوط نظام البشير 2019 بحفاوة مشوبة بحذر بدواعٍ تاريخية واجتماعية بما أبدته الكيانات السياسية في المركز، على الرغم من دخولها كمنظومات سياسية من خلفية عسكرية تحمل عتادًا وخبرة من خارج الحدود. ولكنها كانت تميل إلى القوى العسكرية المناوئة للقوى المدنية والديمقراطية، ولشعارات الثورة نفسها التي أتت بها. ويمثل اتفاق جوبا أكتوبر 2020 منطلقها إلى المسرح السياسي، وصعدت من خلاله إلى التمثيل السياسي في أجهزة الدولة السيادية، ولم تنزع سلاحها بالدمج في الجيش القومي أسوة بقوات الدعم السريع. وأبرز هذه الحركات الدارفورية حركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي، والعدل والمساواة ذات الخلفية الإسلامية بزعامة جبريل إبراهيم، وكلا من الرجلين يتسنم منصبًا في حكومة الأمر الواقع استمرارًا لاتفاق سلام جوبا. فالأول كما هو معلوم أول حاكم لإقليم دارفور بسلطات استثنائية، والأخير وزيرًا لمالية الحكومة التي كان يسعى لحلها في الفترة الانتقالية تنفيذًا لسياسات تنظميه الإسلامي القديم. وتضم هاتان الحركتان تحت جناحيهما ما تناسل من جيوب حركات ومجموعات عرقية تمثل لافتات لوجوه غير واضحة الملامح في المشهد السياسي الدارفوري قبل القومي. فما الذي يجعل على خصوصية قضية دارفور التي حملت شعاراتها ثورة ديسمبر المجيدة، أن تلجأ قيادات حركاتها المسلحة إلى معسكر قطع طريق الفترة الانتقالية متضامنة مع كل ما اعتبرته في الماضي القريب يمارس ضدها إقصاء متعمدًا على أسس من الانحياز العرقي والجهوي؟ هل لأن هذه الحركات التي اتخذت من الصراع المسلح خلال عقدين، وبالتالي افتقدت إلى أي رؤية أو برامج سياسية تجعل منها حركات مؤهلة للتحول الى نمط الممارسة السياسية الديمقراطية، ولهذا أصبحت أقرب الى المكون العسكري لطبيعتها القتالية؟
وقد ازدادت مشكلة دارفور في مرحلة ما بعد الثورة تعقيدًا في المعادلة السياسية ونسبة لتداخلاتها الداخلية والخارجية مع قضايا ذات طبيعة دولية، وانتقال أطراف الصراع فيها بين أعداء الأمس (الدعم السريع) حلفاء اليوم (الجيش)، وتغيير موازين القوى على طول مدى نيران الحرب. ولم يكن الانفصال مطلبًا صريحًا لهذه الحركات التي حملت السلاح أو سياسية عملوا على تنفيذها عسكريًا، ولكن مخاطر مثل هذه الدعوات المنفلتة قد تمثل خطرًا داهمًا في ظل وجود دعوات مشابهة في أطراف السودان الأخرى. ولأن هذه الدعوات لا يمكن بحال قياسها على ما يعنيه في حال انفصال جزء من وطن وإلى ماذا سيؤدي في المدى القريب والبعيد. وعليه وجود دافور الآن هو الوجود العسكري الصارخ واقعيًا مما أوجد شعورًا عامًا بخطر استمرار الحرب دون توقف ما لم تستقطع دارفور أو تمحى من الوجود بالمعنى الحرفي، كما يطالب دعاة استمرار الحرب. الأمر الذي وجد تعميمًا غذته عاهات الحرب في التفكير الشعبي مما يشكل ضغطًا على القرار الرسمي.
وشكل اندلاع الحرب في الخامس عشر من أبريل/نسيان 2023 اختبارًا وتحديًا كبيرًا للحركات الدارفورية في الموقف من الصراع بين الطرفين، ولديها مع كل طرف موقف من العداء الصريح أو الضمني. وأعلنت منذ البداية موقفها الحيادي من الصراع الجاري بذريعة إنها لم تأت إلا للسلام، وانسحبت بقواعدها غربًا باتجاه دارفور. ولم يلبث هذا الموقف أن تغير وعادت للتحالف مع الجيش للقتال ضد الدعم السريع، وهو موقف له حساباته السياسية والاقتصادية أكثر من دواعيه العسكرية أو الوطنية البحتة كما تقوله الشعارات أكثر من خبايا السياسة. ونتج عن هذه التحالف مع الأذرع المسلحة تقدمًا ميدانيًا للجيش وتراجعًا للدعم السريع مع ما تورده التقارير من انسحاب متفق عليه. ولم تكن هذه الإضافة في ميزان القوة أن تتم دون ثمن واستحقاقات ملزمة للمشاركة في السلطة والقرار وتبادل للمناصب وكل ما تقدمه التحالفات السودانية الشائعة في تقديم الإغراءات وتبادل مزايا السلطة ونهب لثروات البلاد. فقد كشفت تصريحات مني أركو الأخيرة التي عبرت عن استياء مما يحدث في مدينة الفاشر من حصار امتد لعامين، وما فهم منه تخليًا من الجيش عن دوره في التدخل، وبالتالي ترك دارفور للدعم السريع المسيطر عليها، شعور الحركات بالتمييز الممارس ضدها من الحليف الجديد الذي استخدمها في المناورات العسكرية والسياسية، وبخس من ثمن وقيمة مشاركتها في القتال المباشر.
وهكذا وجدت الحركات الدارفورية المسلحة التي شاركت الدولة في حربها مستبعدة لذات المفاهيم التي دعتها إلى حمل السلاح من تهميش وإقصاء يمارس عليها من حليف (دولة المركز) استنجد بها بعد نتائج المعارك العسكرية في سقوط للمدن والقواعد العسكرية، هزائم لحقت بجيش منظم. ولما كان سير المعارك غير محسوم لأي من الطرفين ظل موقف الحركات التي لا تنتمي انتماء أصيلًا لأي طرف ولا تملك القوة الكافية بما يسمح لها بتشكيل كيان مستقل يجعل من دورها متأرجحًا بين الاستمرار في مغامرة التحالف الطارئ غير الموثوق أو العودة إلى مناطقها ومواجهة الدعم السريع منفردة دون الجيش، وهو أمر بعيد عن التوقع إن لم يكن بحسابات المناورات والتوازان السياسية فبحقائق الواقع. فأقصى ما حمل الحكومة على التحالف معها المشاركة والقتال في مناطق بعينها في البلاد وليست دارفور حيث انتزعت عن سلطة الدولة وتنتمي إليها الحركات.
ولكن هذه الصراعات التي بدأت تطل برأسها في مشهد الحرب بين فرقاء لا يجمع بينهم هدف مشترك إلا الحرب التي ستضطرهم إلى فض التحالف الهش، أو الاستمرار في الموقع الهامشي سياسيًا من الدولة التي تتحكم بالحرب وترسم حدود حلفاءها وفقًا للصور النمطية التي شكلت بنية الدولة السودانية في مكوناتها الاجتماعية والترابية. وبوجود هذه الحركات في أكثر من كيان سياسي تكونت في مرحلة ما بعد (صمود، حكومة الدعم السريع الموازية) وغيرها من تنظيمات مدنية خارج الحدود بتأثيرها المحدود ممثلة بأفراد كوجوه أكثر منها كيانات فاعلة مما لا يحقق لها مستقبلًا أو موقعًا في مرحلة ما بعد الحرب بالقدر الذي تتمناه أو تصوره وفقا لأجنداتها.
[email protected]
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الدعم السریع الحرکات التی هذه الحرکات أکثر من
إقرأ أيضاً:
محنة التعريفات الجزئية الملتبسة..
مهدي رابح
حسبو محمد عبد الرحمن، القيادي في المؤتمر الوطني، نائب رئيس الحركة الإسلامية ونائب رئيس الجمهورية واللواء في جهاز الأمن.. كل ذلك سابقاً طبعاً، وحاليا احد قيادات الدعم السريع وعقولها المدبرة.
هذه الشخصية المفصلية في الأزمة الحالية لن تجد لسيرتها أثرا تقريبا في الخطاب السائد من كلا طرفي الحرب، بل لن تجد لها أثرا حتي في الخطاب الذي يناهض استمرارها ويسعى لإيقافها..
والسؤال الذي يفرض نفسه هو لماذا؟
في تقديري لأن ذلك يتناقض مع السرديات التبسيطية السائدة حاليا، ويكشف حجم التعقيد الذي تتسم به ازمتنا وصعوبة تعريفها تعريفا صحيحا، بكافة مستوياتها..
وبذلك أعني، وفي المستوى الأول، أن الحرب الحالية هي دون شك صناعة إسلاموية بامتياز بدأت منذ استيلاء الاسلامويين على الحكم بانقلاب عسكري عام 1989م، وبناءهم لنظام سياسي قائم على الاستبداد والقمع والفساد والافلات من العقاب، ثم نهبهم لثروات السودان وتدمير وتسييس مؤسساته وعلي راسها القطاع الامني والعسكري والعمل علي زرع الفتنة بين مكونات المجتمع المختلفة بتزكية الدوافع الاثنية والجهوية، وانشائهم لقوي مسلحة موازية أبرزها الدعم السريع نفسه.
وهو ما يفسر الوجود القوى للاسلامويين في صفوف الأخير وان كان أقل تأثيرا من وجودهم في الجانب الآخر، اي اصطفافا مع الجيش.
أي أن هذه الحرب هي صناعة إسلاموية لم تبدأ باطلاقهم الرصاصة الأولي في 15 ابريل 2023 ولن تنتهي غدا صباحا.
المستوي الثاني هو أن أحد عناصر هذه الحرب الاساسية هي تقاطع المصالح المادية و الصراع على الثروات بين مجموعات محدودة من النافذين. فهي نتاج لانفجار التناقضات والتنافس المتصاعد داخل الكارتيل الاحتكاري اللصوصي، الذي انقلب على ثورة ديسمبر بانقلاب أكتوبر 2021… والذي ضم بجانب بعض الانتهازيين من المدنيين، قيادات الجيش والدعم السريع والاسلامويين وبعض الحركات المسلحة، التي انضمت لهذا لكارتيل بعد الثورة..
اما المستوى الثالث فهو التدخل الخارجي، وبالاخص لدول الجوار الإقليمي، والذي اتخذ طابعا سافرا ظهرت ملامحه منذ عام 2019م، وما نتج عنه من مجزرة بشعة ضد المعتصمين أمام القيادة العامة وما تلي ذلك من انقلاب ثم تمويل ودعم طرفي الحرب حتى اليوم.. فهو صراع غير معلن بين قوى إقليمية تسعى استراتيجيا للسيطرة على السودان عبر وكلائها – ابرزها بالطبع قيادات الجيش والدعم السريع – من أجل تأمين نصيبها من تدفق مياه النيل وتعظيمه أو وضع يدها على منافذ تطل على البحر الأحمر أو على الثروات الطبيعية الهائلة التي تعج بها هذه البلاد المكلومة، او بالمقابل، وفي حال بع الدول الجارة، منع الدول المنافسة لبلوغ الأهداف المذكورة أعلاه.
إن التعريف الصحيح للأزمة يساهم في إيجاد الحلول الصائبة والمستدامة، أي تلك التي تتجاوز الوقف المؤقت والهش للقتال إلى آفاق بناء الدولة.. تلك الدولة التي لم تحظى بها الشعوب السودانية اصلا منذ الاستقلال، اي الدولة التي توفر الأمن والاستقرار والحرية والكرامة لكافة أفرادها بالتساوي.
وذلك يتطلب أن نحدد كل العناصر التي تقف حجر عثرة أمام تحقيق ذلك – أي الوصول إلى سلام مستدام يمهد لبناء الدولة المنشودة – علي رأسهم الاسلامويين كعنصر مشترك ثابت، لكن أيضا قيادات الجيش والدعم السريع والحركات المسلحة وتجار الحرب من جهة ومن الجهة الأخرى القوي الاقليمية التي تتحمل وزر هذه المأساة بنفس القدر.
ان اي مقاربة للحل لا تتضمن كيفية التعامل مع العناصر الأخرى لمعادلة الدمار التي تحدث في السودان يعني تطاول أمد الحرب وتعمّق آثارها الإنسانية المروِّعة .
بإستعارة مقولة غرامشي الشهيرة يمكننا أن نختم بالقول إن
“السودان القديم انتهى والسودان الجديد تأخّر في الظهور … وما بين العتمة والضوء تولد الوحوش.”
وهي في حقيقة الأمر وجوه أو رؤوس متعددة لوحش واحد، ظل يتغذى علي الجهل والفقر والعنف والفساد والظلم الاجتماعي لمدى ستة عقود. ولن يقضي عليه قطع رأس واحدة لأنه سينمو في مكانه رأس جديد كما التنين في الأسطورة السومرية القديمة.