بين أسوار الفاتيكان المرتفعة، وتحت قبّة كنيسة سيستنا، يُهيمن الآن سؤال واحد على أذهان الكرادلة والجمهور المتابع: من سيرث عباءة بطرس؟ من سيكون ذلك الرجل الذي سيجلس على عرش يهتزّ اليوم تحت وطأة العالم الحديث ومتغيراته، حيث غدت الكنيسة الكاثوليكية ميدانًا مفتوحًا للصراع بين الأصالة والتجديد، وبين العقيدة والتأويل.

في صباح 21 أبريل/ نيسان، وبينما كانت ساحة القديس بطرس لا تزال تحت وقع صدى دعاء الفِصح الأخير، انطفأ صوت البابا فرانشيسكو عن عمر يناهز الثامنة والثمانين.

كانت وفاة البابا لحظة فارقة أعادت فتح ملفّ الصراع الحاصل في هُوية الكنيسة. فالخلافة القادمة لا تتعلّق بمدى استمرار أو توقّف مسار رجل فقط، بل بمعركة حول هُوية الكنيسة نفسها.

فالهُوية الكاثوليكية كما صاغتها المجامع الكبرى – من نيقية إلى الفاتيكان الثاني – عاشت دائمًا على الحافة، في شدٍّ دائم بين "الثابت المقدّس" و"الطارئ التاريخي". وفي هذا السياق، يصبح السؤال عن البابا القادم اختبارًا جديدًا لذلك التوتّر الخلّاق.

ميراث فرانشيسكو

منذ لحظة انتخابه عام 2013، وقدومه المفاجئ من أقصى جنوب أميركا اللاتينية حاملًا رؤية تستمد جوهرها من شوارع بوينس آيرس الأرجنتينية أكثر من صالات المجامع، اختار التواضع، وتخلَّى عن القصر الرسولي ليسكن في دار الضيافة، ورفض ارتداء الزينة المذهّبة والأحذية الحمراء.

إعلان

لكن رمزية هذه البداية تحوّلت إلى مشروع شامل: كنسية للفقراء، مفتوحة على العالم، تقف إلى جانب المهمّشين.

ففي زمن تتكالب فيه الأصوليات والتيارات الشعبوية، رفع فرانشيسكو شعار "الرحمة لا الإقصاء"، وانفتح على أتباع الديانات الأخرى، وانتقد الرأسمالية، وركز في خطاباته على القضايا البيئية واللاجئين والمهاجرين حول العالم. وهو ما عبّر عنه في رسالته الأشهر "كن مسبّحًا" (Laudato Si’) التي شكّلت حجر الزاوية في اللاهوت البيئي المعاصر.

بيدَ أن هذه الإصلاحات لم تسلم من المعارضة. فقد تصاعدت أصوات غاضبة داخل الكنيسة، تتهم البابا بالتفريط في الثوابت، وبأنه يقرّب الكنيسة من الحداثة إلى حد التمييع. فكانت سنوات فرانشيسكو أشبه بمعركة مزدوجة: خارجية من أجل العدالة والسلام، وداخلية ضد جمود المؤسسة وروح البيروقراطية الكنسية.

ملامح المعركة المرتقبة داخل المجمع البابوي

وفاة فرانشيسكو أطلقت العد التنازلي لانعقاد مجمع الكرادلة (الكونكلاف)، وكما يصور الفيلم المتصدر حاليًا "Conclave 2024″ حيث يجتمع 135 كاردينالًا ممن لم يبلغوا سن الثمانين لاختيار البابا الجديد، فإن المجمع الذي يبدو شكلًا طقسيًا بحتًا يخفي وراءه صراعًا محتدمًا بين رؤيتين متناقضتين للكنيسة: الأولى تريد استكمال ما بدأه فرانشيسكو من انفتاح وتجديد، والثانية تسعى للعودة إلى الثبات اللاهوتي والانغلاق العقائدي.

المفارقة أن فرانشيسكو نفسه هو من عيّن أكثر من ثلثي الكرادلة الناخبين، وبهذا المعنى، فإن المجمع مشكّل – نظريًا – على صورته. لكنه لم يكن يومًا رجل الولاءات المطلقة، بل اختار تنوعًا متعمّدًا في أعضاء المجمع.

وهذا ما يفسّر وجود تيارات متباينة داخله: من اليسار اللاهوتي التقدمي، إلى اليمين الكاثوليكي التقليدي. كما أن التوازن الجغرافي يلعب دورًا حاسمًا. فاليوم، لم تعد أوروبا تحتكر الصوت الكاثوليكي، بل صعدت أصوات من آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وهي مناطق يشهد فيها الكاثوليك تطورًا ديمغرافيًا وروحيًا.

إعلان

المشهد البابوي المقبل يتصدر فيه وجوه بارزة، لكل منها خلفيته اللاهوتية ورؤيته للكنيسة، وموقفه من إرث فرانشيسكو. لعل من أبرز هؤلاء الكاردينال الإيطالي ماتيو زوبي، الذي يلقّب بـ"فرانشيسكو الإيطالي" لقربه من المدرسة الفكرية للبابا الراحل.

في المقابل، يبرز اسم الكاردينال بييترو بارولين، أمين سر دولة الفاتيكان، كمرشح توافقي يجمع بين الكفاءة الدبلوماسية والخبرة الطويلة في دهاليز الحكم الكنسي. بارولين يتمتع بثقة غالبية الكرادلة، وقد قاد تفاهمات حساسة مع الصين وفيتنام، ويُنظر إليه باعتباره قادرًا على الحفاظ على وحدة الكنيسة دون خوض مغامرات إصلاحية جذرية.

ومن خارج القارة الأوروبية، يلوح اسم الكاردينال الفلبيني لويس أنطونيو تاغلي، الذي ينظر إليه كثيرون بوصفه الوريث الروحي لفرانشيسكو في العالم الآسيوي.

أما الكاردينال الغاني بيتر توركسون، فهو من أبرز المرشحين غير الأوروبيين، يتمتع بخبرة عريضة في مجالات العدالة والسلام، ويملك سجلًا قويًا في حوار الأديان. وإذا ما انتُخب، فسيكون أول بابا أفريقي منذ القرن الخامس، وهو ما قد يعكس التغير الديمغرافي الحاد في قلب الكنيسة.

في الجهة المقابلة، يقف التيار المحافظ ممثلًا بالكاردينال روبرت سارا من غينيا، والكاردينال ريمون بيرك من الولايات المتحدة. كلاهما معروف بتمسكه بالطقوس التقليدية، وبموقفه الصلب من قضايا كالشذوذ والليتورجيا، ويعبّران عن رغبة شريحة من الكرادلة في كبح المد الإصلاحي الذي أطلقه فرانشيسكو. وهناك أسماء مرشحين آخرين -الإصلاحيين منهم والمحافظين- لا تقل أهميتهم عن المذكورين.

الدعم الأميركي للتيار المحافظ وكاثوليك حركة MAGA

مع اقتراب انعقاد المجمع، برز إلى السطح تيار كاثوليكي محافظ متشدد، يُعرف بلقب "MAGA Catholics"، وهو تيار أميركي يميني يسعى لإعادة الكنيسة إلى مواقف أكثر تشددًا. وهو مزيج من الكاثوليكية المحافظة والحركة الشعبوية اليمينية المرتبطة بدونالد ترامب.

إعلان

هذه الحركة، التي تقودها شخصيات بارزة مثل ستيف بانون (المستشار السابق لدونالد ترامب) تعبر عن استياء عميق من البابا فرانشيسكو وتوجهه الإصلاحي. وتسعى هذه الحركة إلى إعادة الكنيسة إلى تعاليمها الأصلية، خصوصًا في قضايا الزواج والإجهاض والشذوذ، في وقت تشهد فيه الكنيسة تباينًا حادًا بين المواقف الليبرالية والمحافظة.

بحسب ما نشرته صحيفة "غارديان" فإن جهود كاثوليك MAGA تتمثل في التأثير على مستقبل الكنيسة الكاثوليكية عبر مجموعة من التحركات الإستراتيجية. فعلى الرغم من أن هذه الحركات قد لا تُسمى رسميًا "ضغطًا"، فإن أعضاء الحركة يعملون خلف الكواليس بشكل فعال.

يلتقي العديد من الشخصيات المؤثرة من الحركة مع الكرادلة المحافظين لتوجيههم نحو انتخاب البابا الذي يتماشى مع قيمهم التقليدية، في محاولة لخلق بيئة مؤيدة لهذه المواقف قبل بداية انتخابات البابا المقبل.

إلى جانب هذه التحركات السياسية الإستراتيجية، تعتمد الحركة أيضًا على تأثيرها الإعلامي الواسع. حيث يوظف ستيف بانون منصاته الإعلامية، وخاصة البودكاست War Room، لتوجيه انتقادات لاذعة ضد البابا فرانشيسكو.

من خلال هذه الحملات الإعلامية، تسعى حركة كاثوليك MAGA إلى تعزيز رسالتها بين الكاثوليك التقليديين وجذب انتباههم إلى ما يرونه تدهورًا في المبادئ الكاثوليكية في ظل البابوية الحالية.

أما من الجانب المالي، فإن الكاثوليك MAGA يمتلكون أيضًا تأثيرًا كبيرًا. بما أن الحركة تدعم مرشحين ومبادرات تتوافق مع رؤيتها، فإنهم يستخدمون قوتهم الاقتصادية لدعم الشخصيات داخل الكنيسة التي تدعم مواقفهم.

وهذا التأثير المالي يمكن أن يكون حاسمًا في تقوية مواقفهم داخل الفاتيكان، إذ يحتاج البابا المقبل إلى دعم اقتصادي كبير من المؤسسات الكاثوليكية في الولايات المتحدة.

من جانب آخر، تنظم الحركة فعاليات شعبية ودينية تهدف إلى تحفيز الكاثوليك المحافظين على المشاركة السياسية واللاهوتية. على سبيل المثال، نظمت مجموعة Catholics for Catholics فعاليات دينية في مارالاغو، مع التركيز على تعبئة الناخبين الكاثوليك في الولايات المتأرجحة لدعم المرشحين الذين يتبنون مواقف الحركة.

إعلان

ونجد مؤخرًا تتويجًا للموقف الأميركي في التّصريح الساخر لترامب بقوله: " أود أن أكون البابا، هذا خياري الأول"، ثم أبدى دعمه للكاردينال الأميركي تيموثي دولان المعروف بمواقفه المحافظة، معتبرًا أنه "كاردينال ممتاز من نيويورك"، إلا أنه يُعتقد أن احتمالية فوز دولان ضئيلة مقارنة بغيره من الكرادلة.

رغم امتلاكهم نفوذًا ماليًا وإعلاميًا، فإن توازن القوى داخل الكلية الكاردينالية، الذي مالت كفته للإصلاحيين بفضل تعيينات فرانشيسكو، يجعل فرص نجاحهم محدودة. ومع ذلك، فإن مجرد وجودهم النشط في كواليس المجمع يضغط باتجاه انتخاب بابا يتجنب السياسات الإصلاحية التقدمية التي ميزت فترة فرانشيسكو.

في الختام يبقى السؤال: هل سيستمر السباق البابوي في تعزيز الإصلاحات التي أطلقها فرانشيسكو، أم ستعود الكنيسة إلى ثوابتها التقليدية بدعم أميركي؟ من سيختار البابا هذه المرّة؟ الكرادلة أم دونالد ترامب؟ الجواب سيُفصح عنه الدخان الأبيض.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات

إقرأ أيضاً:

أول بابا أمريكي يعتمد التكنولوجيا اللاسلكية.. ساعة آبل على معصمه

في أول قداس رسمي له، لفت البابا ليو الرابع عشر الأنظار ليس فقط بخطابه الروحي، بل أيضًا بـ ساعة ذكية من نوع Apple Watch على معصمه، ما أثار موجة من التكهنات والأسئلة حول مدى انفتاح البابا الجديد، البالغ من العمر 69 عامًا، على التكنولوجيا الحديثة، وما إذا كان سيصبح أول بابا "رقمي" في تاريخ الفاتيكان.

ساعة ذكية… أم إجراء وقائي؟

البعض يرى أن استخدام البابا لساعة Apple Watch قد يكون مدفوعًا بدوافع صحية بحتة، حيث تتيح هذه الساعة تتبع معدل ضربات القلب وتنبيه المستخدم في حال سقوطه، وهي ميزة شائعة بين كبار السن، حيث يقدمها الأبناء والأحفاد لكبار السن كوسيلة للحماية والاطمئنان.

أيهما أفضل؟.. ساعة Huawei Watch Fit 3 مقابل Apple Watch 9ساعة آبل Apple Watch Series 10 تعود للبيع بسعر قياسي منخفض قيمته 299 دولارا فقطآبل تحتفل بـ10 سنين على إطلاق Apple Watch بدبوس ذهبي محدود.. اعرف إزاي تحصل عليهالبابا المهتم بالساعات… هل هو "Watch Enthusiast"؟

وفقًا للخبير في مجال الساعات نيك جولد، فقد ارتدى البابا ليو Apple Watch حتى قبل انتخابه كاردينالًا، كما تم رصده سابقًا وهو يرتدي ساعات كلاسيكية، مثل Rolex GMT-Master II ذات الإطار أحمر يُعتقد أنه ظهر من تحت كم البابا في أول ظهور علني له بعد انتخابه.

كما ارتدى البابا  ساعة Wenger Swiss Military 7223X التي انتشرت بشكل كبير بعد التكهن بأنها كانت على معصم البابا، مما أدى إلى نفادها من الأسواق.

فيما يعتبر هذا الاهتمام بالساعات يشير إلى أن ليو الرابع عشر ليس غريبًا عن عالم التكنولوجيا أو التصميمات الحديثة.

امتلاك ساعة آبل يعني امتلاك آيفون؟

نظرًا لأن ساعة Apple Watch تحتاج إلى iPhone لإعدادها ومزامنتها، فإن ذلك يفتح بابًا لتساؤل منطقي:هل يمتلك البابا آيفون؟، إذا كانت الساعة من اختياره الشخصي، فالأرجح أن الجواب هو نعم. أما إذا كانت هدية من أحد الأقارب أو المقرّبين، فقد يكون هناك من تولى إعدادها له.

مقارنة تاريخية

البابا فرنسيس كان يرتدي ساعة Swatch بلاستيكية بسيطة لا تتعدى قيمتها 66 دولارًا.

أما البابا ليو الرابع عشر، أول أمريكي يتولى منصب البابا، فيبدو أنه يتبنى أسلوبًا أكثر حداثة، لا سيما مع تقنيات يمكن أن تعزز أداءه اليومي وتواصله مع محيطه.

الخلاصة  بابوية بثوب عصري

قد يكون ارتداء ساعة ذكية في حد ذاته تفصيلًا بسيطًا، لكن في السياق البابوي، هو رمزٌ لتحول أكبر. ال

 قد يعلن بابا ليو الرابع عشر عهدًا جديدًا من الانفتاح التكنولوجي في الفاتيكان، مستفيدًا من أدوات العصر دون أن يتخلى عن قدسية الدور الروحي الذي يؤديه.

طباعة شارك آبل apple watch البابا ليو الرابع عشر

مقالات مشابهة

  • زيلينسكي: من المحتمل لقاء بابا الفاتيكان الجديد الأحد المقبل
  • روبرت بريفوست أول أميركي على كرسي الفاتيكان
  • نشرة المراة والمنوعات| بابا الفاتيكان الجديد أعاده.. اعرف سر ارتداء الحذاء الأحمر في الكنيسة الأم.. تحذير عاجل من 5 أطعمة غير متوقعة تصيبك بمرض خطير.. ماسك الطماطم ليلا لعلاج البشرة
  • بابا الفتيكان الجديد أعاده.. اعرف سر ارتداء الحذاء الأحمر في الكنيسة الأم
  • البابا ليو الرابع عشر يلتقي الصحفيين لأول مرة
  • بابا الفاتيكان ليو الرابع عشر يعقد أول مؤتمر صحفي له منذ تنصيبه
  • بابا الفاتيكان الجديد يدعو لوقف فوري للحرب في غزة وإمدادها بالمساعدات
  • مقاطع فيديو وميمات.. الشقيق الأكبر للبابا الفاتيثكان الجديد يطارده بفضائحه | تقرير
  • ماذا قال البابا لاوون في أول اجتماع رسمي له مع الكرادلة؟
  • أول بابا أمريكي يعتمد التكنولوجيا اللاسلكية.. ساعة آبل على معصمه