الفكر ليس غربياً ولا صينياً ولا يونانياً ولا شعوبياً، ولو صحّ افتراض صفة الغربي، لما صحّ من سلفنا قراءة أرسطو واستلهامه، ولما صحّ للصيني أن يقرأ فلسفة اليونان، ولا صحّ لأحدٍ منّا أن يتعامل مع التكنولوجيا بزعم غربيتها. فالفكر لا يحمل جنسيةً ولا جواز سفر ولا بوليصة تأمين، ولذا لا يحتاج إلى تأشيرات دخول، والعبرة ليست بالنظريات مفردةً وإنما بمهارة تطبيقها وإلا لما تسنى للجرجاني أن يطرح نظرية التخييل، وهي مستمدة أساساً من أرسطو، ولكن الجرجاني طوّرها ووظفّها بغير ما فعل أرسطو، ولم يتعذر ذلك على الجرجاني بسبب جنسية الفكرة من حيث النشأة، وهكذا هو الفكر كالهواء تستنشقه كل رئة سليمة، ويتحول عندها لأوكسجين يمد الجسم بطاقاته الحيوية.


على أن الفكر إذا تجسّد في منتجات فكرية مثل الفلسفة والكتابة النظرية خاصةً، تحركت المشاعر المضادة للفكرة نفسها، لتكون مضادة لمصدر الفكر ولمكان تجسّدها، ومن ثم ستجنح الظنون أن التعامل معها يشبه التعامل مع المستعمر، الذي هو غازٍ ومعتدٍ، وكأن الفكر حالةٌ استعماريةٌ وغزو يسمونه بالغزو الفكري، وأكثر من أشاع فكرة الغزو الفكري هم منظرو الإخوان المسلمين لسبب تحزبي، بمعنى الاستقطاب السياسي، واستخدم سيد قطب مصطلح (جاهلية القرن العشرين)، ليشمل في هجومه نظريات فكريةً في علم النفس والفلسفة، وكل ما هو غربي رغم أنه نفسه يلبس اللباس الغربي، وكأن اللباس ليس علامةً ثقافية وقيمةً اقتصادية، ويوحي بالتماهي التمام مع المستعمر بما آن ذاك اللباس لم ينتشر إلا بعد انتشار الاستعمار، أما الفكر فيدّعون أنه يمسخ الهوية الإسلامية، وبالتالي هو عندهم غزوٌ فكري، على نقيض سلف الأمة في عصورها المبكرة، التي تعاملت مع الفلسفة اليونانية بحرية معرفيةٍ وفكرية، لدرجة أنهم أطلقوا صفة المعلم الأول على أرسطو، وجعلوا الفارابي المعلم الثاني بوعي تام بأن الفكر لا جنسية له ولا عرقية.
كاتب ومفكر سعودي
أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض

أخبار ذات صلة د. عبدالله الغذامي يكتب: متعة الشعر وشقاء الناقد عبدالله الغذامي.. رؤية حول مفهوم المنهج في النقد

المصدر: صحيفة الاتحاد

كلمات دلالية: الغذامي عبدالله الغذامي

إقرأ أيضاً:

د.مصطفى البرغوثي يكتب .. لم تنته الحرب

#سواليف

كتب .. د. #مصطفى_البرغوثي

رسمياً هناك وقف لإطلاق النار في قطاع #غزة، وهناك عدم إطلاق نار في #الضفة_الغربية، ولكن #الحرب التي بدأتها إسرائيل في أكتوبر/ تشرين الأول 2023 لم تنته، فجيش الاحتلال الإسرائيلي ما زال يحتلّ 53% من قطاع غزّة، وما زال يشن عمليات #القصف_الجوي والمدفعي على شرق القطاع، وقد خرق اتفاق وقف إطلاق النار على باقي المناطق 286 مرّة، وأودى بحياة ما لا يقل عن 245 فلسطينياً وجرح ما يزيد على 620 مدنياً.

وتتعمّد #إسرائيل عدم تنفيذ باقي بنود اتفاق وقف النار، إذ لم تسمح إلا بدخول 43% من #شاحنات_المساعدات الإنسانية، ومنعت دخول الآليات الضرورية لإزالة الركام، وتعطّل أيضاً وصول المواد والأجهزة الطبية الضرورية لإنقاذ حياة عشرات الآلاف، وتستمر في إغلاق معبر رفح، ولم تنفذ أي انسحاب إضافي من المناطق التي يحتلها جيشها. كذلك تتعمّد إسرائيل مواصلة احتلال جميع المناطق الزراعية في القطاع، وتحرم غزّة المياه النقية ومصادر الطاقة، وتحاصر البحر لمنع الصيادين من الحصول ولو على نزر يسير من الأسماك التي يمكن أن تسد رمق بعض الجياع في القطاع.

مقالات ذات صلة من أكثر الألغاز غموضاً على مدى 88 عاماً.. الكشف عن سجلات أميليا إيرهارت بأمر من ترامب 2025/11/16

وتتعرض الضفة الغربية، بما فيها القدس، لاستباحة مزدوجة من جيش الاحتلال وعصابات الإرهاب الاستيطانية التي تعيث فساداً في كل أنحاء الضفة، وتحرق البيوت والحافلات والمركبات، وتدمر المزارع والمصانع وتقتلع الأشجار، وقد منعت فعلياً المزارعين من جني معظم محصول الزيتون لهذا العام، وحتى اللحظة أدت اعتداءات المستوطنين الإرهابيين الذين سلحهم الوزير الإسرائيلي الفاشي بن غفير بما لا يقل عن مائة ألف قطعة سلاح، إلى قتل عشرات وترحيل ما لا يقل عن 60 تجمّعاً سكانياً في الضفة الغربية.

وتستمر عمليات #التنكيل_الوحشي بالأسرى، بما في ذلك #التجويع، والتعذيب، والضرب الوحشي، وحتى الاغتصاب، بالإضافة إلى حرمان العلاج والرعاية الطبية. بل تُحرم عائلات الأسرى السفر للقاء أحبتها الذين أبعدهم الاحتلال بعد عقود من الأسر في سجونه.

ولم تعد إسرائيل تحترم أي صلاحية أو سلطة للسلطة الفلسطينية التي جُردت من قدراتها الاقتصادية ومعظم دخلها، وسُلبت صلاحياتها الأمنية والمدنية، وهي تقف عاجزة عن حماية أي فلسطيني من اعتداءات جيش الاحتلال وعصابات الإرهاب الاستيطانية.

وتتصاعد الاعتداءات على المقدّسات الإسلامية والمسيحية، وتُخنق القطاعات الاقتصادية والخدمات الصحية والتعليمية بألف حاجز عسكري وما لا يقل عن مائتي بوابة عسكرية تحول القرى والمدن إلى معازل وبانتوستانات صغيرة وسجون.

#الحرب_لم_تنته، بل تتصاعد على الشعب الفلسطيني، على حريته، وحقه في تقرير المصير، على حقه في الأمن والأمان، وعلى مصادر رزقه ودخله، على أرضه ومياهه وأشجاره وأطفاله. ولم تتخلّ المنظومة الحاكمة الإسرائيلية، التي اضطرت إلى إحناء رأسها لعاصفة العزلة الدولية، عن هدفها السري، والمعلن، بالتطهير العرقي لكل الشعب الفلسطيني، سواء في غزّة، أو الضفة الغربية.

ولذلك، فإن الحراك التضامني العالمي مع الشعب الفلسطيني يجب أن يتصاعد، لا أن يتراجع. ويجب أن يتذكر الجميع أن هدف الحراك التضامني ليس مجرّد وقف حرب الإبادة، بل إنهاء كل منظومة الاحتلال والأبارتهايد والتمييز العنصري، وتحقيق الحرية الحقيقية والكاملة للشعب الفلسطيني. ولذلك أيضاً يجب إعادة طرح السؤال الأهم للشعب الفلسطيني: ما استراتيجية مواجهة هذه الحرب المفتوحة عليه وعلى مستقبله ومستقبل أبنائه، بل على روايته وتاريخه وحقه في الحرية وتقرير المصير؟ وكيف يمكن للشعب الفلسطيني مواجهة كل هذه المخاطر والانقسام، بل الانقسامات الداخلية، تنخر صفوفه دون توقف؟

ولماذا كل هذا التقاعس عن إنهاء الخلافات التي لا معنى لها، والتوحد في قيادة وطنية موحدة، تفعّل طاقات الشعب الفلسطيني وتمنحه الأمل والثقة بنضاله الوطني؟ لماذا لا يواجه مشروع ترامب في الأمم المتحدة الذي يريد فرض الوصاية الأجنبية مرة أخرى على الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع، ويريد فرض خطة تدجين عليه، وعلى روايته وتاريخه، ومناهجه الدراسية، وحقوق أسراه وعائلات شهدائه، بهدف إخضاعه لاستسلام مُذل يتنكر لنضاله ولتاريخه ولحقوقه الوطنية؟ لماذا لا يواجه برؤية فلسطينية موحدة ومدعومة عربياً، وخصوصاً من الوسطاء؟ رؤية ترفض الوصاية، وتؤكد أن إدارة غزّة ستكون فقط بيد الفلسطينيين، وترفض فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، وتؤكد أن القوة الدولية يجب أن تكون قوة حفظ سلام ومراقبة لوقف إطلاق النار تضمن انسحاب إسرائيل، وليس قوة احتلال جديدة تتشارك مع الاحتلال الإسرائيلي في السيطرة على القطاع.

لم يعد الأمر يحتمل أنصاف الحلول، أو مهادنة مشاريع المتواطئين مع إسرائيل في سعيها إلى اقتلاع حق الشعب الفلسطيني في النضال من أجل حريته ومقاومة الظلم الذي يتعرّض له. الحرب على الشعب الفلسطيني لم تنتهِ، بل دخلت واحدة من أخطر مراحلها، ولا يملك الفلسطينيون رفاهية الانتظار أو التأجيل أو إنكار الواقع، ولا يحق لهم مواصلة انتظار المتقاعسين عن القيام بواجبهم، أو الذين تخلّوا عن إيمانهم بحقوق شعبهم.

مقالات مشابهة

  • جامعة هارفارد تحقق في علاقات وزير الخزانة السابق بإبستاين المدان بجرائم جنسية
  • إسحق أحمد فضل الله يكتب: (صورة ذهن)
  • العيسوي يكتب لوالدته في ذكرى رحيلها
  • جلسة صوت الفكر بالجبل الأخضر تناقش الأهمية الاقتصادية للأشجار والنباتات
  • د.مصطفى البرغوثي يكتب .. لم تنته الحرب
  • إسحق أحمد فضل الله يكتب: (نقوش على جدار ذاكرتي)
  • عبد السلام فاروق يكتب: الصحافة والأدب
  • وزير الخارجية: ناقشنا مع تشاد سبل تعزيز العمل المشترك لمواجهة الفكر المتطرف
  • د. عصام محمد عبد القادر يكتب: لغة المرآة
  • د. عادل القليعي يكتب: الذكاء الاصطناعي.. وحقوق الملكية الفكرية!