الجزيرة:
2025-06-29@17:23:58 GMT

شبح الرجال الخضر الصغار يخيم على دول البلطيق

تاريخ النشر: 14th, May 2025 GMT

شبح الرجال الخضر الصغار يخيم على دول البلطيق

في عام 2016، قدم المخرج البريطاني غابرييل رانج فيلما وثائقيا صوَّر فيه سيناريو تخيليا لانتفاضة الأقلية الناطقة بالروسية في مدينة دوغافبيلس اللاتفية، بدعم من الكرملين، نتيجة سياسات التمييز الحكومي ضدهم، لتستخدم روسيا ذلك كذريعة لغزو لاتفيا.

استند الفيلم في بنائه الدرامي إلى سيناريو خيالي جاء بعد عامين فقط من ضم روسيا لشبه جزيرة القرم ذات الغالبية الروسية، وقبل الاجتياح الروسي الواسع للأراضي الأوكرانية في فبراير/شباط 2022 وضم نحو 20% من مساحتها حيث تعيش غالبية ناطقة باللغة الروسية.

واليوم، يتصاعد القلق في دوغافبيلس، ومدينة نارفا في إستونيا، ومناطق أخرى في ليتوانيا، من سيناريو حقيقي فوق أراضيها غير بعيد عما تكهن به غابرييل رانج في الفيلم الوثائقي "حرب عالمية ثالثة: داخل غرفة الحرب".

ولا تنحصر دوافع القلق تلك في مساعي إحياء الماضي السوفياتي أو في سعي موسكو لتوسيع رقعة الحرب في أوكرانيا واعتمادها سوابق تاريخية في المنطقة، بل تتعزز أيضا بفعل المناورات العسكرية الروسية-البيلاروسية المشتركة، وما يصاحبها من حشد مبكر، فضلا عن تزايد المخاوف بشأن "ممر سوالكي" الإستراتيجي.

(الجزيرة) نفوذ عبر "الشتات الروسي"

رغم مرور عقود على تفكك الاتحاد السوفياتي عام 1991، ما تزال موسكو تنظر إلى "تالين" و"ريغا" و"فيلنيوس" كجزء من الحديقة الخلفية، لكن وبحكم الجغرافيا والتاريخ لا تملك دول البلطيق خيار القطيعة الكاملة مع روسيا.

إعلان

وتحتل الدول الثلاثة مكانة استثنائية بالنسبة لدائرة النفوذ الروسي لكونها من جهة إحدى دول الجوار المرتبط بالحزام السوفياتي القديم ومن جهة أخرى تمثل اليوم جزءا من حلف شمال الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوروبي وما يطلق عليها من قبل الكرملين بـ"الغرب الجماعي".

وتتنوع مظاهر النفوذ الروسي في المنطقة بين إستراتيجية الضغط والتأثير في المجالات العسكرية والاقتصادية والإعلامية والإنسانية، ليشمل على وجه الخصوص الأقليات الناطقة بالروسية، وهو ما ينسحب على دول البلطيق.

ويظهر هذا النفوذ عبر أحزاب سياسية -مثل "الاتحاد الروسي" و"الحزب الاشتراكي الديمقراطي" (هارموني) في لاتفيا، بالإضافة إلى حزب "الوسط الإستوني"- التي تقدم نفسها كخط الدفاع الأول عن الأقليات الناطقة بالروسية وعن الثقافة الروسية بشكل عام.

وتشير بيانات -جمعتها الجزيرة نت من عدة مصادر بحثية- إلى أن نسبة الأقليات الروسية من بين السكان في إستونيا ولاتفيا تعد أكثر من 24%، بينما لا تتعدى نسبة 5.6% في ليتوانيا، كما تعتبر الروسية اللغة الأولى لـ30% من سكان إستونيا و34% من سكان لاتفيا.

لكن الحضور الروسي كان طاغيا بشكل أكبر في إقليم دوغافبيلس في لاتفيا، الذي ينحدر 50% من سكانه من أصول روسية، وتمثل الروسية اللغة الأم لـ75% من سكان هذه المنطقة التي تشهد من حين لآخر توترا، كما تمثل مسرحا للدعاية الروسية.

في كتابه "الهوية الوطنية الروسية والسياسة الخارجية"، يربط عالم السياسة الروسي إيغور زفيليف علاقة موسكو الوثيقة بجوارها من دول البلطيق بالشتات الروسي أو "العالم الروسي" الذي يقوم على فكرة الهوية الذاتية كما يراها فلاديمير بوتين، وهو مجال النفوذ الثقافي واللغوي العابر للحدود الجغرافية والعرقية الروسية.

لكن من الناحية السياسية والأمنية، فإن الفكرة السائدة وفق زفيليف، هي جعل هذا الفضاء ما بعد الحقبة السوفياتية منطقة عازلة، ونظريا يمثل ممر "سوالكي" تجسيدا ممكنا لهذه الفكرة.

إعلان "سوالكي".. ثغرة الناتو في أوروبا

بالمقارنة مع دولتي إستونيا ولاتفيا، فإن ليتوانيا تعد الدولة الأقل ارتباطا بروسيا من بين دول البلطيق من حيث التركيبة الديمغرافية ومن ثم أيضا التأثير السياسي، حيث لا يمثل الناطقون بالروسية قاعدة انتخابية مؤثرة.

لكن خبراء يرون أن التهديد الروسي الرئيسي يتمثل في الخطر العسكري القادم من جيب كالينينغراد المجاور، وهو ما تؤكد عليه أيضا إدارة أمن الدولة في ليتوانيا في تقرير لها نشر في مارس/آذار عام 2023.

وجغرافيا، ترتبط منطقة كالينينغراد وبيلاروسيا بممر "سوالكي" الذي يبلغ طوله 65 كيلومترا وتقل فيه نسبة السكان، وهو يمثل في الوقت نفسه الحدود الفاصلة بين ليتوانيا وبولندا.

وتعني فرضية استيلاء روسيا على هذا الممر بكل بساطة فصل دول البلطيق تماما عن الاتحاد الأوروبي.

وتنقل مجلة "إكسبراس" الفرنسية في تقرير لها عن الجنرال بن هودجز الذي عمل قائدا سابقا للقوات الأميركية في أوروبا، أنه يتعين على أعضاء حلف الناتو الإدراك أن جميع نقاط ضعف إستراتيجية الناتو ووضعه العسكري تتجمع في ممر سوالكي، ومن هنا فإن القوات الروسية تهدد السلامة الإقليمية للحلف بأكمله.

يمثل هذا الممر الإستراتيجي ذو الأهمية البالغة مصدر توتر محتمل في المستقبل، ويعود ذلك إلى قرار اتخذته ليتوانيا عام 2022 على خلفية الحرب الروسية الأوكرانية، بمنع عبور البضائع الخاضعة لعقوبات الاتحاد الأوروبي عبر أراضيها إلى مقاطعة كالينينغراد الروسية، وهو ما اعتبرته موسكو خطوة غير قانونية وحصارا للمقاطعة كما حذرت ليتوانيا من تبعاته الخطيرة وتعهدت برد عليه.

وينظر الآن الى حشد القوات الروسية في بيلاروسيا كتهديد مباشر لليتوانيا وباقي دول البلطيق.

شاحنة تعبر لافتة تدخل ليتوانيا عبر "ممر سوالكي" وهو نقطة الاتصال الوحيدة بين دول البلطيق وبقية دول الناتو والاتحاد الأوروبي (شترستوك) ماذا يحدث في بيلاروسيا؟

يقوم الكرملين بحشد قواته في بيلاروسيا تمهيدا لمناورات "زاباد 2025" المشتركة مع جارتها وحليفتها، وتجرى هذه التدريبات كل 4 سنوات منذ عام 2009. وفي آخر تدريب شارك أكثر من 200 ألف جندي، وكانت المناورات الأكبر منذ انهيار الاتحاد السوفياتي.

إعلان

وقد أعقب التدريبات الأخيرة اجتياح  الجيش الروسي لأوكرانيا، لذلك تثير هذه التعزيزات العسكرية على مقربة من حدود حلف الناتو المخاوف من عدوان محتمل في المستقبل قد يشمل بولندا أو دول البلطيق، ولا سيما ليتوانيا.

وبحسب المحلل المتخصص في الشؤون العسكرية والأمنية، بيتر سوتشو، فإن هناك عدة مؤشرات ميدانية تشير إلى تحرك عسكري محتمل. وقد أوردت مجلة "ناشونال إنتريست" هذه المؤشرات في النقاط التالية:

رفعت موسكو إنفاقها الدفاعي إلى أكثر من 6% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بنسبة 3.6% قبل أن تشن غزوها لأوكرانيا قبل أكثر من 3 سنوات. زاد المجمع الصناعي العسكري الروسي من وتيرة الإنتاج، ووسع خطوط التصنيع، كما افتتح منشآت جديدة. الحشد العسكري الروسي لا يقتصر على بيلاروسيا، بل تعمل موسكو على توسيعه على الحدود مع فنلندا، العضو في حلف الناتو. تسارع وتيرة التوسع بشكل ملحوظ لا سيما في منطقة القيادة العسكرية في لينينغراد على حدود إستونيا ولاتفيا وفنلندا.

وكانت الصحيفة حذرت نقلا عن وكالة الاستخبارات الدفاعية الدانماركية في فبراير/شباط 2025 من هجوم روسي محتمل وواسع النطاق على دول البلطيق وبولندا في غضون 5 سنوات، إذا ما تراجعت قدراتها على الرد.

وقد يشمل ذلك، وفق المصدر ذاته، أنشطة شبه عسكرية في منطقة "نارفا" الحدودية شرق إستونيا، التي تضم عددا كبيرا من السكان من أصل روس، مثلما لا يستبعد خبراء أن يكون التحرك الروسي نحو منطقة دوغافبيلس في لاتفيا.

ويضع المحلل بيتر سوتشو احتمال أن يعيد الكرملين استخدام الإستراتيجية ذاتها التي اعتمدها في ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، عبر نشر قوات شبه عسكرية روسية تعرف باسم "الرجال الخضر الصغار".

التدريبات العسكرية المشتركة "زاباد-2021" للقوات المسلحة للكرملين وبيلاروسيا في قاعدة مولينو العسكرية (الفرنسية) الحشد المضاد

في مارس/آذار2025، أعلنت ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا بالإضافة إلى بولندا مجتمعة عن نيتها الانسحاب من اتفاقية حظر الألغام المضادة للأفراد، المعروفة باسم "اتفاقية أوتاوا"، بحجة تزايد التهديدات العسكرية للدول الأعضاء في حلف الناتو والمجاورة لروسيا وبيلاروسيا، وقد انسحبت ليتوانيا ولاتفيا بالفعل من الاتفاقية.

إعلان

وستعمل هذه الدول على زيادة إنتاج الألغام الأرضية، حيث من المرجح حسب المراقبين، أن تستخدم هذه الأسلحة الفتاكة على طول المناطق الحدودية التي تشهد تحصينات متزايدة.

بخلاف ذلك تسارع دول البلطيق في اتخاذ عدة قرارات من أجل الوصول الى الجاهزية الكاملة لصد أي هجوم في المستقبل.

وفي هذا السياق، أصدرت الحكومة في ليتوانيا قرارا بإعادة الخدمة العسكرية الإلزامية لأول منذ عام 2008، ومن المقرر أن يبدأ العمل به العام المقبل مع زيادة عدد الشباب المدعوين إلى التدريب السنوي من 5 آلاف إلى 7 آلاف. وتريد أيضا توظيف المنظمات شبه العسكرية التطوعية مثل "اتحاد الرماة" العريق للتحايل على الكلفة المرتفعة لإعادة التسليح.

طائرات مروحية تابعة للقوات الجوية الألمانية في ليتوانيا خلال التدريبات العسكرية "غريفين لايتنينغ 2025" (الفرنسية)

لكن ليتوانيا ستتمتع كذلك بدعم عسكري مهم يتمثل في بناء ألمانيا أول قاعدة عسكرية خارجية لها في هذا البلد، لتكون بذلك القاعدة العسكرية الأولى لألمانيا في الخارج منذ الحرب العالمية الثانية، بكلفة تعادل 1.1 مليار دولار، وفق ما ذكرت وزارة الدفاع في ليتوانيا.

ويأتي بناء القاعدة في إطار الاتفاق الألماني الليتواني في ديسمبر/كانون الأول عام 2023 الذي يقضي بنشر 4800 عسكري و200 موظف مدني ألماني كما ستضم القاعدة 2000 مركبة، حسب وزارة الدفاع الألمانية.

وفي إستونيا، اختارت الحكومة نهج الزيادة في الضرائب وتوسيعها لتشمل أيضا المتقاعدين من أجل تمويل خطط الدفاع عن البلاد، وهو ما سيوفر إيرادات بحوالي 800 مليون يورو وفق صحيفة "ديلي تلغراف" البريطانية، ستوجه معظمها إلى القوات المسلحة، أي ما يعادل نسبة 5% من الناتج المحلي الإجمالي للدولة مقارنة بنسبة 3.7% حاليا.

وبحسب الصحيفة البريطانية، فإن "ضريبة الدفاع غير المسبوقة هذه، تشكل مثالا صارخا على الجهود المطلوبة للوصول إلى حالة الاستعداد للحرب".

قوات إستونية تابعة لحلف الناتو في قاعدة تابا العسكرية (رويترز) حلف شمال أوروبا

تذهب عمليات الحشد داخل دول البلطيق إلى أبعد من ذلك مع دعوة صحيفة "آي كيو" في ليتوانيا دول البلطيق ودول الشمال الأوروبي إلى التفكير في تكوين حلف بديل عن "حلف شمال الأطلسي"، تحسبا لمواقف الإدارة الأميركية المتأرجحة والمشككة في سياسات الدفاع المشتركة.

إعلان

وترى "آي كيو" أنه في ظل الانزلاق الواضح لحلف الناتو نحو التفكك بعودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، فإن الحلف الجديد الذي أطلقت عليه "حلف شمال أوروبا"، سيكون أكثر قدرة على تقييم "التهديد الروسي بشكل مناسب".

يختلف التصور المؤسس لـ"حلف شمال أوروبا" عن فكرة "التحالف الطوعي" المفتوح الذي كان دعا له وزير الخارجية البريطاني كير ستارمر في مارس/آذار الماضي من أجل حشد الدعم العسكري لحماية أوكرانيا.

يضم الحلف الجديد المقترح علاوة على دول البلطيق الثلاث، دول فنلندا والسويد والدانمارك والنرويج وبولندا وألمانيا والمملكة المتحدة، بحجم سكاني يقدر بنحو 220 مليون نسمة وبناتج محلي إجمالي يفوق 10 تريليونات دولار.

وتقول الصحيفة الليتوانية "يمكن لحلف شمال أوروبا أن يكون قدوة في مساعدة أوكرانيا وأن يصبح حلا احتياطيا في حال انهار حلف شمال الأطلسي فعليا".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات الاتحاد الأوروبی على دول البلطیق حلف شمال أوروبا فی لیتوانیا حلف الناتو أکثر من وهو ما

إقرأ أيضاً:

آخر الرجال على الأرض: المثقف بين الصمت والمقاومة

في مشهد خاطف من فيلم إمبراطورية الشمس، يقف الطفل جيم غراهام مدهوشًا وهو يشاهد وهج القنبلة النووية الأولى، ويتمتم:
“كان الأمر كأن الله يلتقط صورة.”
لحظة دمار شاملة تحوّلت في عينه إلى مشهد جمالي مبهر. لم يكن يدرك أن ما رآه هو موت خاطف في ومضة نور، يختلط فيها الرعب بالدهشة

اليوم، يبدو المثقف العربي كجيم: يرى الضوء، يدرك الكارثة، لكنه عاجز عن تحويل الرؤية إلى فعل جماعي أو صرخة واعية.
منذ أن أصبح العالم أحادي القطب، تراجع الدور الذي كانت تلعبه الأخلاق ، وتفوقت القوة على العدالة، وصارت إسرائيل تُرعى كطفل مدلل، بينما خسر العربي صوته وتوازن رؤيته.
تحوّلت الحروب إلى سرديات، والردع صار ناعمًا، تكنولوجيًا، يتسلل ويضرب الوعي لا الجسد.
وفي ظل تفكك النظام العربي، وانحياز العالم لمن يملك القنبلة لا القضية، يظهر سؤالنا الجوهري:
ماذا بقي للمثقف العربي؟ وهل يمكن للكلمة أن تصمد أمام ضوء يُبهر حتى الضمير؟

من الحرب التقليدية إلى الحرب المركّبة – انفجار مزدوج في الجغرافيا والوعي

مقالات ذات صلة عمتي “أم غالب الغرير” مدرسة في الإستقلال الإقتصادي 2025/06/28

لم تغب الحرب التقليدية عن المشهد كما قد يُخيّل للبعض. فالمواجهة الإيرانية الإسرائيلية الأخيرة جاءت لتؤكّد أن الأسلحة التقليدية ما تزال في قلب المعادلة، بل أصبحت أكثر فتكًا وتطورًا.
فقد شهدنا قصفًا متبادلًا بين الطرفين، شاركت فيه الولايات المتحدة بدورها، مستخدمة أحدث طائراتها وأقوى قنابلها التدميرية، في عمليات عسكرية صاخبة ومدروسة.

لكن رغم ضجيج القنابل، لم تكن هذه الحرب صراعًا عسكريًا صرفًا. لقد أصبحت الحرب اليوم هجينة، تتجاوز ميدان المعركة إلى الفضاء السيبراني، والمنابر الإعلامية، وحتى داخل اللاوعي الجمعي.

إسرائيل تمارس القصف بالصواريخ حين تشاء، لكنها تمارس أيضًا الردع الناعم:
تفاوض لتخدير خصمها، تُطبّع لتُشرعن وجودها، وتُنتج سرديات ثقافية تشوّه المقاومة وتُلبس الاحتلال ثوب ملاك.

وهكذا، يتحوّل الصراع من حرب على الأرض إلى حرب على الإدراك.
في هذا السياق، لم يعد المثقف العربي في منأى عن القصف، بل صار بدوره هدفًا رمزيًا لحرب تُعيد تشكيل الحق والحقيقة، حتى دون رصاصة واحدة.

الاستشعار المشلول: حين يعرف العقل ولا تتحرك الإرادة

في معظم العواصم العربية، الخطر الإسرائيلي مفهوم، لكنه غير مُعالَج. تدرك الأنظمة والنخب أن إسرائيل لم تعد فقط “دولة”، بل مشروعًا وظيفيًا للتفوق، والتفكيك، والهيمنة الإقليمية. لكن هذه المعرفة لا تتحوّل إلى فعل.

بعض الدول ترى إسرائيل شريكًا أمنيًا، وأخرى تتعامل معها بمنطق الضرورة. وبين هذه وتلك، ضاع الموقف الجماعي، وتآكلت فكرة الردع العربي.

منذ سقوط المشروع العربي المشترك، غابت استراتيجية المواجهة، وحلّت مكانها حسابات ضيقة:
– “ما دامت لا تمثل تهديدًا مباشرًا، فإن كثيرًا من الدول تُرجئ المواجهة أو تُفضل إدارة العلاقة معها بمنطق الضرورة”.
– أو “الخطر الحقيقي هو إيران، لا تل أبيب”.

وهكذا، تحوّل العدو إلى شريك اقتصادي أو استخباري، وتراجع الإجماع القيمي الذي كان يُوحد العرب على مستوى الوعي الشعبي.

في المقابل، تغلغلت إسرائيل في الإعلام، والتعليم، والتكنولوجيا، ونجحت في فرض سردية جديدة تُظهرها كواحة استقرار وسط “عالم عربي فوضوي”.

الاستشعار موجود، لكنّه استشعار مشلول: كمن يرى الحريق ولا يُطفئه، أو كمن يعرف طريق النجاة لكنه مشغول بالركون إلى السراب.

والمثقف؟
إن لم يكن صوته في هذه اللحظة تحريضًا على الاستفاقة، فهو شاهد زائف على زلزال أخلاقي لم تُرصد شدته بعد.
“وإذا كانت الأنظمة قد اختارت الصمت أو الحذر، فإن السؤال يتوجه إلى من بقي له ضمير الكلمة: المثقف.

موقع المثقف العربي في 2025

في مشهد من فيلم Empire of the Sun، يقف الطفل جيم غراهام مذهولًا أمام وهج القنبلة النووية، ويهمس:
“كان كأن الله يلتقط صورة.”

هكذا تتحول الإبادة، حين تُقدَّم من موقع القوة، إلى حدث جمالي.
وفي 2025، قال وزير الأمن القومي الأمريكي عن الضربة على مفاعل فوردو:
“لقد كانت ضربة رائعة.”
وكأن المشهد العسكري لا يُقاس بالخسائر، بل بجودته التقنية ودهشة الصورة.

هنا يأتي دور المثقف. فوظيفته ليست فقط أن يكتب، بل أن يفضح الزيف الجمالي للسرديات المهيمنة، ويعيد تعيين البؤرة الأخلاقية في عالم تُعاد فيه كتابة القتل بلغة الضوء، والتطبيع بلغة المصالح، والتبعية بلغة الواقعية.

في زمن فقدت فيه الدول العربية بوصلتها، وتحول كثير من الإعلاميين والخبراء إلى مروّجين لخطابات القوة، يصبح المثقف مطالبًا بأن يكون ضميرًا ناقدًا لا تابعًا، وموجهًا لتوجه وطني عاقل لا منفعلًا ولا انعزاليًا.

المثقف ليس حليف سلطة، ولا خصمًا تلقائيًا لها، بل صاحب مسافة نقدية، حارس للمعنى حين تغيب المعايير، وراصد لما يُقال نيابةً عن “الوطن”، بينما الوطن في مكان آخر.

قد لا يحمل طائرات أو نفوذًا، لكنه يحمل ما تخشاه قوى الردع:
السؤال، والتحليل، والقدرة على إيقاظ الوعي الجماعي.

ما تبقّى من المقاومة… ضوء لا يُرى، وكلمة لا تُقصف

في زمنٍ تغيّرت فيه وجوه الحروب، لم تعد المقاومة سلاحًا يُشهر، بل وعيًا يتماسك.
تراجعت الشعارات الكبرى، وصمتت المنابر التي كانت تهتف باسم “التحرير”، وامتلأت الساحة بأصوات عالية، لكنها تخلو من الصدى الحقيقي.

ثمة نوع من الخطاب يُحب أن يُسمي نفسه “مقاومة”،
لكنه في كثير من الأحيان لا يتجاوز بلاغة العتب، أو نبرة الغضب التي لا تهز ساكنًا.
وما يُخشى اليوم، هو أن تتحوّل “الممانعة” إلى أداء لغوي جميل، يعزف خارج التاريخ، بينما الأرض تتغير والخرائط تُرسم بأدوات أخرى.

هذا ما وصفه بعض المفكرين بـ “بلاغة المقاومة”: كلمات أنيقة، لكن دون جذر أو أثر؛
تُشبه غيمة لا تمطر، أو صرخة لا تُفزع.
وفي المقابل، ما أحوجنا إلى مقاومة ناعمة لكن عميقة، صامتة لكن صادقة، تُعيد ترتيب الحواس قبل أن تطلب الفعل.

لقد تفككت السرديات الكبرى، تلك التي كانت تُغذي الحلم الجماعي:
حكاية التحرر الوطني، ونداء القومية، وحتى مشروع النهضة الإسلامية.
ولم يبقَ للمثقف إلا أن يتحرك بين الشظايا، باحثًا عن سردية جديدة لا تُخدر، بل تُنير.
لا نحتاج إلى أوهام جديدة، بل إلى وعي يقظ، يُقاوم من داخل اللغة، ومن داخل الضمير.

المثقف المقاوم اليوم ليس بالضرورة ثائرًا،
لكنه من يحفظ للكلمة معناها، وللموقف ظلاله، وللذاكرة طهرها.
هو من يعيد ترتيب الأبجدية في زمن نُزعت منه المعاني، ويقول لا دون أن يصرخ،
ويصمد دون أن يحمل سلاحًا، لأن ما يملكه لا يُقصف: المعنى، والكرامة، والأسئلة التي لا تموت.

الخاتمة:

في عالمٍ تتساقط فيه الأقنعة، ويتراجع فيه أثر الكلمة أمام وقع المدافع وأرقام الأسواق، لم يعد المثقف العربي ذلك “النبي” الذي يقود الأمة، بل بات في كثير من الأحيان شاهداً حائراً، أو صوتاً مكسوراً في منفى داخلي أو خارجي. وكما تُظهر زينة حلبي في كتابها “تقويض المثقف العربي”، فإن صورة المثقف قد تآكلت بفعل الهزائم المتراكمة، وانكسارات الحلم الجماعي، حتى غدت وظيفته اليوم أقرب إلى الرثاء منها إلى التبشير.

وفيما تنشغل قوى إقليمية قريبة كتركيا وإيران بتكريس مشاريعها القومية في قلب عالم تحكمه المصالح وتغيب عنه العاطفة، لا تزال القوى الصاعدة، شرقية كانت أم جنوبية، تحاول أن تُعيد إنتاج ذاتها في مواجهة التهديدات الوجودية. وفي ظل هذا المشهد، لا يبقى أمام العربي إلا أن يلتفت إلى الداخل، لا استسلاماً، بل بحثاً عن جذورٍ تؤسس لنهضة حقيقية، وأن يعيد بناء مشروعه الوطني بعيداً عن الشعارات الموروثة، معتمداً على ذاته، وعلى وعيه بتاريخ طويل من المحن والفرص الضائعة.

ربما آن أوان الخروج من حالة الانتظار الطويل — انتظار المنقذ، أو القوة الخارجية، أو الإجماع المستحيل — نحو تأسيس وعي جديد، ينبت من الأرض، ويخاطب العصر لا أوهامه.

كما قال جيم غراهام، الطفل الناجي في إمبراطورية الشمس:
كان الأمر كأن الله يلتقط صورة…
لم يكن الله غائبًا، ولا لاهيًا عن آلام البشر،
بل ترك لنا المبادرة بالفعل، وجني الثمرة، وتذوق حلاوتها، وربما مرارتها.
نحن من لا يفهم حكمته في لحظة الألم.
فهل يا ترى سنقوم بدورنا، كما أراد لنا أن نقوم به؟
في لحظة الخوف، ومع تصاعد القنابل، لم يرَ جيم مجرد انفجار، بل لحظة كثيفة بالمعنى، لحظة لا يفهمها إلا من يحدّق في قلب المأساة.
كان جيم يرى النور ولا يعرف أنه موت، أما المثقف اليوم، فيراه ويعرف… لكنه يواجه السؤال الأثقل: ماذا بعد المعرفة؟

كذلك هو المثقف: لا يملك طائرات ولا نفوذ، لكنه يملك ما لا يُقصف: السؤال، الذاكرة، والموقف.
الصورة التي يلتقطها ليست ضوءا عابراً، بل كشفًا أخلاقيًا.
وما دامت هناك عينٌ تُسمي الضوء وتكشف مصدره، فثمة أمل في استعادة الرؤية.
لأن المثقف، وإن كان آخر الواقفين، لا يزال يرفع الكاميرا في وجه المدفع.

سعيد ذياب سليم

مقالات مشابهة

  • آخر الرجال على الأرض: المثقف بين الصمت والمقاومة
  • هل سيدنا الخضر نبي أم ولي؟ يسري جبر يفجر مفاجأة
  • لماذا تعلّم موسى من الخضر رغم أنه نبي؟.. يسري جبر يوضح
  • حزب “الخضر” الألماني يطالب بحظر تصدير الأسلحة لكيان العدو الصهيوني
  • اختتام اختبارات المرحلة الثانية من الاولمبياد العلمي السوري للصغار واليافعين
  • المنتخب الوطني للسيدات يواصل التحضيرات المكثفة استعدادًا لـ”الكان”
  • بعد وعيد ترامب لمدريد.. جنرال أمريكي يدعو لنقل القاعدة العسكرية الأمريكية في إسبانيا إلى المغرب
  • رضوى الشربيني تثير الجدل بتصريح جرئ عن الرجال
  • خبير عسكري: الغرب يعيد ترتيب أوراقه العسكرية لهذه الأسباب
  • السفارة الروسية في لندن: بريطانيا حملت راية المواجهة مع روسيا في قمة الناتو