في عالم تتغير فيه قواعد التجارة والسياسة بسرعة مذهلة، لم تعد التحالفات تُبنى على الجوار الجغرافي فقط، بل باتت تُصاغ وفق معادلات المصالح، وتُرسم على خرائط جديدة للفرص الاقتصادية والاستراتيجية. وفي هذا السياق، تبرز أمريكا اللاتينية بوصفها فضاءً واعدًا لإعادة تعريف علاقات مصر الخارجية، لا سيّما على مستوى الشراكات الاقتصادية والتجارية غير التقليدية.

لطالما ظلت أمريكا اللاتينية، من منظور السياسة المصرية، منطقة بعيدة بالمعنى الجغرافي، وقريبة بالمعنى التاريخي والوجداني. فهي القارة التي احتضنت حركات التحرر، وواجهت الاستعمار بشجاعة، وتمردت على الهيمنة، تمامًا كما فعلت مصر في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. غير أن هذا القرب السياسي لم يُترجم – حتى وقت قريب – إلى علاقة اقتصادية فاعلة ومستدامة، وهو ما يبدو اليوم ضرورة قصوى في ظل ما يفرضه الواقع العالمي من تحولات.

تضم أمريكا اللاتينية أكثر من 650 مليون نسمة، وتمتد من المكسيك شمالًا إلى تشيلي جنوبًا، مرورًا بدول عملاقة مثل البرازيل، ودول غنية بالموارد مثل فنزويلا، وأخرى تمثل بوابات استراتيجية مثل بنما وكولومبيا. هذه القارة – رغم بعدها الجغرافي – تملك من الثروات الطبيعية، والتنوع الزراعي، والفرص الصناعية، ما يجعلها ساحة مثالية لبناء تحالفات اقتصادية متبادلة المنافع.

ولعل مصر، في سعيها لتوسيع دائرة شركائها التجاريين، عليها أن تنظر بجدية إلى هذه القارة، ليس فقط بوصفها سوقًا جديدة، ولكن أيضًا بوصفها حليفًا اقتصاديًا يمكن أن يخفف من وطأة التبعية للأسواق التقليدية في أوروبا وآسيا. ويمكن لمصر أن تكون – بحكم موقعها الجغرافي – نقطة عبور رئيسية للمنتجات اللاتينية إلى إفريقيا والشرق الأوسط، وفي المقابل تستفيد من موارد وأسواق أمريكا الجنوبية.

في هذا الإطار، تبدو فنزويلا والمكسيك نموذجين متكاملين للتعاون المحتمل. فنزويلا، رغم ما تمر به من أزمات اقتصادية وسياسية، تظل واحدة من أغنى دول العالم من حيث الموارد الطبيعية. تمتلك البلاد احتياطات نفطية هائلة، واحتياطات من الذهب والفحم والغاز والمعادن النادرة، بالإضافة إلى ثروة زراعية متنوعة تشمل البن والكاكاو والفواكه الاستوائية. ورغم التحديات الداخلية، فإن الانفتاح الأخير الذي تشهده البلاد، ورغبتها في إعادة بناء علاقاتها الدولية، يتيح فرصة حقيقية لمصر كي تكون شريكًا موثوقًا يسهم في إعادة إعمار الاقتصاد الفنزويلي، وفي الوقت ذاته يستفيد من موارده.

من جهة أخرى، تمثل المكسيك نموذجًا مختلفًا، فهي واحدة من أكبر اقتصادات أمريكا اللاتينية، وتتمتع بعلاقات قوية مع الولايات المتحدة وكندا، بحكم عضويتها في اتفاقية “USMCA”. كما تمتلك قطاعًا صناعيًا متقدمًا، وبنية تحتية حديثة، وتنوعًا في الإنتاج الزراعي والصناعي، يجعلها بوابة ممتازة للتجارة بين مصر وشمال القارة. التعاون مع المكسيك لا يعني فقط تبادلًا تجاريًا، بل هو دخول ذكي إلى سلاسل الإمداد العالمية، خصوصًا في قطاعات السيارات، الإلكترونيات، والأدوية.

التكامل بين مصر من جهة، وفنزويلا والمكسيك من جهة أخرى، لا يقتصر على تبادل السلع والخدمات، بل يمكن أن يمتد إلى نقل الخبرات، وإنشاء مشاريع مشتركة، وإقامة مناطق لوجستية، وربما صناديق استثمارية ثنائية في مجالات الطاقة، التعدين، الزراعة، والتصنيع الغذائي. ومصر التي تسعى لتأمين أمنها الغذائي، وتوسيع صادراتها الصناعية، يمكنها أن تجد في الأراضي الخصبة في فنزويلا، والمناخ الصناعي في المكسيك، فرصًا حقيقية لبناء مستقبل اقتصادي جديد.

لكن هذه الرؤية لن تتحقق إلا عبر إرادة سياسية واضحة، وتحرك مؤسسي مدروس. لا بد من إعادة تنشيط المكاتب التجارية المصرية في أمريكا اللاتينية، وتعيين ملحقين تجاريين ذوي كفاءة، وتوقيع اتفاقيات تجارة تفضيلية، والعمل على تسهيل النقل البحري والجوي، وربط موانئ مثل الإسكندرية والعين السخنة بموانئ المكسيك وفنزويلا مباشرة، لتقليص الزمن والتكلفة، وكسر حاجز البُعد الجغرافي.

كما يُنتظر من رجال الأعمال المصريين – بالتنسيق مع الغرف التجارية واتحاد الصناعات – أن ينظروا إلى أمريكا اللاتينية باعتبارها شريكًا استراتيجيًا، لا مجرد سوق مؤقتة. وتوفير الحوافز، والمعلومات، وتسهيل التواصل، سيكون من مهام الدولة، التي إن أحسنت التخطيط، ستخلق لشركاتها بيئة تنافسية عالمية حقيقية.

إن ما يجمع مصر بأمريكا اللاتينية – تاريخيًا وحضاريًا – كثير، لكن ما يمكن أن يجمعهما مستقبليًا في الاقتصاد والتجارة، أعظم وأكثر. في زمن يبحث فيه الجميع عن بدائل، تبدو التحالفات “الجنوبية” خيارًا واقعيًا وملحًا. والمكسيك وفنزويلا ليستا فقط بلدين في قارة بعيدة، بل يمكن أن تكونا حجر زاوية في خريطة مصر الاقتصادية القادمة… إذا أُحسن النظر، وأُحسن التحرك.

طباعة شارك أمريكا اللاتينية أمريكا الجنوبية البرازيل الأرجنتين

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: أمريكا اللاتينية أمريكا الجنوبية البرازيل الأرجنتين أمریکا اللاتینیة یمکن أن

إقرأ أيضاً:

أحمد سالم يكتب: طريق دمنهور – دسوق كارثة أخرى في الانتظار

البقاء لله.. لا عزاء يواسي حرقة قلب 18 فتاة لقيت مصرعها على الطريق الدائري الإقليمي بالمنوفية، بسبب كوكتيل من الإهمال واللا مسؤولية.. لا كلمات تصف ما يشعر به المصريون من مرارة وغُصة كلما تخيلنا هذا المشهد الدامي وتكررت أمام أعيننا صورة 18 نعش تحمل 18 حُلم يافع ما بين طالبة الإعدادي صاحبة الـ 96 % وطالبة الهندسة المكافحة، وطالبة التمريض المتفوقة، وعروسة الجنة التي قبضت آخر 130 جنيه من ثمن فستانها قبل أن تُقبض روحها وتتلاشى أحلامها ويخطفها الموت .. ولا نقول إلا ما يرضي ربنا "إنا لله وإنا إليه راجعون".

لكن ما يرضي ربنا أيضًا هو أن لا نسكت كثيرًا في مواجهة مسببات كل هذه الكوارث التي تنال من أرواح وأبدان المصريين، حتى صارت كثير من الطرق برازخ إلى القبور، ونعم .. من العظيم استحداث شبكات طرق جديدة، لكن الأعظم من ذلك تهيئة الطرق المأهولة في الدلتا والصعيد لتواكب كل هذه التغيرات، وتستوعب هذا الضغط الكبير من الاستهلاك.

في خطوة مهمة، بدأت القاهرة تسيير الأتوبيس الترددي على الطؤيق الدائري، وفي خطوة أعادتها إلى الوراء مرة أخرى، رأينا الحارة المخصصة للأتوبيس الترددي مكتظة بسيارات الميكروباص في مشهد يكشف عن غياب وعي مجتمعي وغياب رقابة حكومية في نفس الوقت، مليارات من الجنيهات يتم استهلاكها في مشروعات ضخمة، ثم تُفشلها قلة الرقابة والإدارة والحوكمة الصحيحة .. من يتحمل ذلك.

على نفس الطريق الذي وقعت عليه الحادثة، لم يكن الموت واعظًا لأحد، فلا زالت سيارات الميكروباص تسير عكس الإتجاه، وسيارات أخرى تقطع الطريق في ملفات عشوائية غير عابئة بسرعة أو اتجاه، وكأن العشوائية أصبحت أسلوب ومنهج، وما يثير العجب أن الطريق الذي كان كفيلًا به أن يُسلم للمسؤولين أو المرور أو يُغلق لحين معالجة أسباب الحادث، رصدته عدسات المارة والسائرين اليوم ليوثقوا ما يعتريه من عشوائية وما يخفيه من كوارث مرورية فادحة.

لنا تجربة مريرة نكاد نعيشها يوميًا، في طريق دمنهور – دسوق الواقع في نطاق محافظة البحيرة، الطريق الرابط بين أكبر مدينتين في البحيرة وكفر الشيخ، والذي دأب الأهالي على تعريفه بـ طريق الموت، هذا الطريق المار بـ 8 قرى آهلة بالسكان من الجانبين، لا يكاد يوجد بيت إلا وفقد قريب له على هذا الطريق، والكارثة ليست في طبيعة الطريق الذي تمر عليه كل أنواع المركبات بداية من النقل الثقيل وحتى التوك توك والتروسيكل في حارة واحدة تخدم الإتجاهين في مشهد عبثي أقرب لألعاب المغامرات على الإنترنت.. الكارثة الأكبر تكمن في حالة الإهمال الذي يعانيه الطريق على مدار سنوات عدة، وإسناد أعمال الطريق لأكثر من شركة لم تراعِ حقه ولم تراعِ حتى آدمية المارين عليه.

في زيارة للرئيس السيسي لافتتاح مشروعات بمحافظة كفر الشيخ، استوقفه مشهد هذا الطريق فأمر على الفور بإصلاحه – وفق مستند متداول – وكان لنا بشأن الطريق جولات مع المسؤولين – في غياب تام وكلي لأعضاء مجلسي النواب والشيوخ – وفي الحقيقة فإن الوعود من كل المسؤولين كانت مُرضية لكنها غير مجدية، والتحجج بالتكاليف كان حجر عثرة ما بيننا وبين تنفيذ إصلاحات الطريق أو ازدواجه، كل الأصوات وصلت إلى كل الآذان ودُقت كل نواقيس الخطر .. لكننا في النهاية عرفنا الطريقة والسبيل الوحيد لإنجاز هذا العمل .. لن يتحرك أحدهم لتنفيذ ما أشار إليه الرئيس السيسي وانبح به أصوات الأهالي إلا عند وقوع كارثة !  

لم نيأس يومًا في المطالبة بحق التنقل الآمن، رغم ما نفقده من أرواح على هذا الطريق، أملًا في نظرة أخرى منصفة وعادلة، وجديرة بأن يخلدها مئات الآلاف من المواطنين المنتفعين بهذا الطريق، حتى لا نعيش رهن كارثة أخرى في الإنتظار.

طباعة شارك طريق دمنهور – دسوق محافظة البحيرة كفر الشيخ

مقالات مشابهة

  • ميزانية الأهلي تتجاوز 8 مليارات جنيه.. شوبير يكشف رقما غير مسبوق
  • يقضي بتخفيض الرسوم الجمركية المتبادلة.. بريطانيا تعلن دخول الاتفاق التجاري مع أمريكا حيز التنفيذ
  • إسحق أحمد فضل الله يكتب: (خلق سودان جديد)
  • الأهلي يعلن افتتاح فروع جديدة للأكاديمية في كندا وأمريكا
  • أحمد الأشعل يكتب: 30 يونيو… لحظة الخلاص وميلاد الجمهورية الجديدة
  • القنصل الإيراني: التبادل التجاري بين العراق وإيران لم يتوقف خلال القصف الإسرائيلي
  • مصر وإسبانيا تبحثان تعزيز التعاون الزراعي وتوسيع التبادل التجاري في المنتجات الغذائية
  • إسحق أحمد فضل الله يكتب: (تهويمات)
  • أحمد سالم يكتب: طريق دمنهور – دسوق كارثة أخرى في الانتظار
  • إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث للغد 2)