في كتابه "التحدث إلى العدو: الإيمان، الأخوّة، وتفكيك الإرهاب"، يقدم عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي سكوت أتران قراءة جذرية لعقل الجماعات المتطرفة، بعيدًا عن الروايات الأمنية التقليدية.

من خلال أبحاث ميدانية معمّقة ومقابلات مع أعضاء من القاعدة، حماس، طالبان، والجماعة الإسلامية في إندونيسيا، يخلص أتران إلى أن ما يحرّك "الإرهابي" ليس بالضرورة العقيدة أو الفقر أو الاضطهاد السياسي، بل الروابط الاجتماعية والقيم المقدّسة التي يتقاسمها مع محيطه القريب: أصدقاء، عائلة، أو جماعة روحية.



يرى أتران أن التطرف ليس دائمًا فعلًا فرديًا نابعًا من عزلة، بل هو غالبًا نتاج ديناميات جماعية تعزز الولاء الداخلي والتماهي مع مجموعة صغيرة. فكما بيّنت تفجيرات لندن عام 2005، لم يكن المنفذون غرباء أو مجانين، بل شبابًا بريطانيين عاديين، يحتفلون ويعانقون بعضهم قبل تنفيذ الهجمات، مدفوعين بعاطفة الأخوّة والانتماء، لا بتعليمات من قادة القاعدة.

هذا التحليل يُفكك صورة "الخلايا النائمة" أو "العقول المغسولة"، ويقدم فهمًا جديدًا: إن من يقاتلون ويموتون، يفعلون ذلك من أجل بعضهم البعض، لا من أجل فكرة مجردة. الجماعات المتطرفة، كما يصفها أتران، ليست منظمات عسكرية هرمية، بل شبكات لامركزية، تتغير باستمرار، تتحرك بالفوضى المنظمة، وتبني قراراتها بناءً على التجربة والمشاركة العاطفية أكثر من التخطيط الاستراتيجي.

واشنطن تغيّر خطابها.. من القصف إلى التفاوض

في ضوء هذا الفهم، يبدو أن التحول الأخير في سياسة الولايات المتحدة، لا سيما في تواصلها مع جماعات مثل حماس والحوثيين، ليس مجرد اضطراب سياسي، بل تعبير عن إعادة نظر استراتيجية، حتى وإن كانت مدفوعة بحسابات انتخابية أو واقعية.

فمحادثات واشنطن مع حركة حماس من أجل إطلاق رهينة أمريكي، أو مع الحوثيين بعد وقف الضربات الجوية، لا تعبّر فقط عن براغماتية، بل قد تكشف إدراكًا ضمنيًا بأن القوة وحدها لا تحل معضلة الجماعات المسلحة. هذه الجماعات لا تنهار بقتل قادتها، بل قد تقوى بانهيار التسلسل الهرمي التقليدي، لأنها تتحرك أصلاً خارج منطق القيادة المركزية.

في ضوء هذا الفهم، يبدو أن التحول الأخير في سياسة الولايات المتحدة، لا سيما في تواصلها مع جماعات مثل حماس والحوثيين، ليس مجرد اضطراب سياسي، بل تعبير عن إعادة نظر استراتيجية، حتى وإن كانت مدفوعة بحسابات انتخابية أو واقعية.وهنا تبرز المفارقة: ربما فهم سكوت أتران ما فشل الأمنيون في إدراكه. حين تتحدث واشنطن إلى "العدو"، فهي لا تستسلم، بل تدخل أخيرًا إلى حقل الديناميات النفسية والاجتماعية التي تحكم هذا النوع من العنف. وهذا ليس ضعفًا، بل قد يكون بداية مرحلة جديدة: من النظر إلى "العدو" كمشكلة أمنية، إلى رؤيته كنتاج اجتماعي يمكن تفكيكه بالحوار، لا فقط بالقصف والعقوبات.

نورالدين لشهب: ترامب يتحدث مع الجولاني.. الحديث إلى العدو!

وفي هذا السياق، يُسهم الكاتب والإعلامي المغربي نورالدين لشهب بإضاءة سياسية لافتة، حيث كتب: "لقاء ترامب مع أبي محمد الجولاني والمفاوضات مع حماس.. إنه الحديث إلى العدو!! تتحدث أنباء صحافية شبه مؤكدة عن لقاء الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع ـ المصنف على قائمة الإرهاب الدولي ـ غدًا في الرياض. ناهيك عن المفاوضات التي تجريها الإدارة الأمريكية مع حماس، والتي توّجت بإطلاق سراح أسير أمريكي من غزة. التصنيف على قائمة الإرهاب في المنظور الغربي يعني أن الإرهابي عدو وجب التخلص منه. لكن يرى الخبراء والمخبرون أن العدو يمكن الحديث والتفاوض معه".

ويتابع لشهب ربطه الواضح بكتاب أتران: "يركّز كتاب سكوت أتران حول فهم الأسباب النفسية والاجتماعية التي تدفع الأفراد للانضمام إلى الجماعات المتطرفة، مثل القاعدة وحماس، ويجادل بأن الدوافع الأساسية ليست الفقر أو الجهل، بل الروابط الهرمية والاجتماعية القوية والقيم المقدسة. وفي سياق الحديث عن التواصل مع حماس أو هيئة تحرير الشام، يشير أتران إلى أن الحوار مع العدو ليس ضعفًا، بل ضرورة لفهم الديناميات النفسية والاجتماعية التي تحرك النزاعات. ويبرز أن الاعتراف بالقيم المقدسة للطرف الآخر يمكن أن يكون مدخلًا فعالًا لتقليل التوترات وفتح قنوات التفاوض".

ثم يختم لشهب بتساؤل نقدي لاذع: "هل قرأت الإدارة الأمريكية كتاب سكوت أتران؟! سؤال غبي.. الخبير والمخبر واحد في الدول الغربية."



من العدو الأيقوني إلى العدو المُعاش

تكمن خطورة قراءة أتران في أنها لا تبرّر العنف، بل تفضح ضيق الأفق الأمني والإعلامي في التعامل مع التطرف. الإعلام الغربي، والعربي أحيانًا، يختزل "الإرهابي" في صورة جاهزة: اللحية، السلاح، الشعار، دون أي فهم للسياق الاجتماعي الذي أنجبه.

من يحدد من هو الإرهابي، ومن هو المقاوم؟ ففي حين تصنّف قوى غربية جماعات مثل طالبان، حماس، الحوثيين ضمن لائحة الإرهاب، فإن هذه الجماعات نفسها، ومعها قطاعات واسعة من شعوبها أو من مؤيديها، ترى أنها حركات تحرر وطني، تقاوم الهيمنة الأجنبية أو الاحتلال، وتدافع عن سيادة بلدانها.لكن واقع الحال، كما يكشفه أتران، أن هذه الجماعات تنمو وسط المدارس، والأحياء، والمجتمعات المهمشة، بل أحيانًا على طاولة عشاء عائلي. هنا، تُصبح مقابلات واشنطن مع تلك الجماعات مؤشرًا على أن الخطاب الأمني لم يعد كافيًا، وأن العدو ليس دائمًا من خارجنا، بل مرآة لفشلنا الأخلاقي والسياسي.

الحديث مع العدو.. بداية فهم لا استسلام

إن بداية الفهم، كما يقترح العنوان، لا تعني المصالحة مع الإرهاب، بل المصالحة مع فشلنا في فهم شروطه الأولى. وهنا تكمن أهمية كتاب أتران، لا كدليل أمني، بل كمرآة سياسية وأخلاقية، تكشف أن الطريق إلى السلام لا يمر فقط عبر الحوارات عالية المستوى، بل عبر كسر الصور النمطية، وفهم ما يجعل فكرة الموت مغرية لشاب يشعر أن كرامته أُهينت.

العدو.. من هو؟ جدل المفهوم وسلطة التصنيف

وفي ختام هذا العرض، تبرز نقطة محورية لا يمكن تجاوزها عند الحديث عن "الإرهاب" و"العدو"، وهي طبيعة التصنيف نفسه: من يحدد من هو الإرهابي، ومن هو المقاوم؟ ففي حين تصنّف قوى غربية جماعات مثل طالبان، حماس، الحوثيين ضمن لائحة الإرهاب، فإن هذه الجماعات نفسها، ومعها قطاعات واسعة من شعوبها أو من مؤيديها، ترى أنها حركات تحرر وطني، تقاوم الهيمنة الأجنبية أو الاحتلال، وتدافع عن سيادة بلدانها.

هذا التباين في المنظور يُعيد فتح النقاش حول الطبيعة السياسية لمفهوم "الإرهاب"، والذي لا يخضع فقط لمعايير قانونية أو إنسانية موحدة، بل يتأثر بسياقات القوة والمصالح والهيمنة. فـ"الإرهابي" في نظر طرف، قد يكون "مناضلًا" أو "مقاومًا" في نظر طرف آخر.

وإذا كان كتاب سكوت أتران يركّز على تفكيك الديناميات النفسية والاجتماعية وراء العنف، فإنه يلمّح أيضًا إلى ضرورة فهم السياقات المحلية والرمزية التي تتحرك فيها هذه الجماعات، بما في ذلك سردياتها حول الشرعية والعدالة والدفاع عن الذات.

إن إدراك هذه الفروقات لا يعني تبرير العنف، لكنه شرط أولي لفهمه، ومن ثم تفكيكه، بعيدًا عن الاختزال الإعلامي أو التصنيف الأيديولوجي. فربما تبدأ الحلول السياسية الحقيقية حين نعترف أن مصطلح "العدو" نفسه ليس دائمًا مفهوماً ثابتًا، بل هو انعكاس لصراعات أعمق في الرؤية والمصالح والتاريخ.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب كتابه الحوار العرض حركات تحرر امريكا كتاب حوار عرض حركات تحرر كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة النفسیة والاجتماعیة هذه الجماعات إلى العدو مع حماس

إقرأ أيضاً:

النيجر تواجه تمدد الجماعات المسلحة في ظل فراغ أمني

تشهد النيجر، منذ إطاحة الرئيس محمد بازوم في يوليو/تموز 2023 وتولي المجلس العسكري السلطة، تحولات عميقة في المشهد الأمني والسياسي.

فبينما يرفع قادة الانقلاب شعار "استعادة السيادة" بعد طرد القوات الفرنسية والأميركية، تتوسع رقعة نشاط الجماعات المسلحة غرب البلاد، لتجعل من منطقة الساحل واحدة من أسرع بؤر العنف نموا في العالم.

ففي سبتمبر/أيلول الماضي، التقت مجلة "أفريكا ريبورت" خلية صغيرة من مقاتلي جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" قرب منطقة تيلابيري على الحدود مع بوركينا فاسو.

ووصل المسلحون على دراجات نارية لجمع ما وصفوه بـ"الضرائب" في ظل غياب شبه كامل للجيش. وقال أحد قادة المجموعة "جنود الدولة لا يعنون لنا شيئا نحن نحكم هنا".

وبعد أيام فقط، شهدت المنطقة سلسلة هجمات منسقة أودت بحياة عشرات الجنود والمدنيين، في مؤشر على تصاعد ثقة المسلحين وقدرتهم على التحرك بحرية.

انسحاب الغرب وتفاقم الخسائر

بين عامي 2014 و2023، قُتل نحو 3 آلاف شخص في هجمات مسلحة رغم وجود القوات الفرنسية والأميركية.

ولكن بعد طرد هذه القوات بين 2023 و2024، تضاعفت الخسائر. ويقول جوزيف سيغل مدير الأبحاث في "مركز أفريقيا للدراسات الإستراتيجية" -لأفريكا ريبورت- إن عدد القتلى المرتبطين بالعنف الجهادي ارتفع 4 أضعاف خلال عام واحد، ليصل إلى 1655 قتيلا، مع زيادة بنسبة 49% في أعداد المدنيين القتلى.

وروت سافية (أرملة من منطقة تاهوا) للمجلة أنها فقدت زوجها عام 2022 على يد مسلحين، ثم شهدت بعد عامين مجزرة جديدة بقريتها على يد عناصر يُشتبه بانتمائهم لتنظيم "الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى".

وتقول "منذ تولي المجلس العسكري الحكم، لم تعد هناك دوريات أو قواعد قرب القرى الإستراتيجية".

رئيس النيجر الجنرال عبد الرحمن تياني (رويترز)خطاب السيادة وتحالف الساحل

وفي أول خطاب متلفز له بعد الانقلاب، برر الجنرال عمر عبد الرحمن تياني استيلاء الجيش على السلطة بأنه لحماية سيادة البلاد، متهما الشركاء الغربيين بالفشل في مواجهة الإرهاب.

إعلان

ولاحقا، انسحبت النيجر من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) وانضمت إلى تحالف دول الساحل (مع مالي وبوركينا فاسو) معلنة أن مكافحة الإرهاب هي الهدف الأول للتحالف.

لكن محللين يرون أن قدرات الجيش محدودة، وأن النخبة الحاكمة تركز على حماية العاصمة نيامي أكثر من حماية القرى الحدودية.

ويقول خبير أمني مقيم في نيامي لمجلة أفريكا ريبورت "هناك جنود أكثر لحماية مقاعد السلطة، في حين تبقى المجتمعات الحدودية مكشوفة للهجمات".

مقالات مشابهة

  • أستاذ علوم سياسية لـ"حديث القاهرة": تخوفات حماس من تراجع إسرائيل عن الاتفاق
  • العميد مجدى شحاتة: «المهمة بلا عودة» كانت بداية لصفحات مشرقة فى كتاب المجد العسكرى المصري
  • النيجر تواجه تمدد الجماعات المسلحة في ظل فراغ أمني
  • نتنياهو: نهاية الحرب في غزة قريبة.. وفشلنا في هزيمة حماس
  • الأردن بين التحديات والتحولات: قراءة في كتاب “Jordan: Politics in an Accidental Crucible”
  • اللواء مجدي شحاتة: صمود المصريين بعد هزيمة 67 كان الشرارة الأولى لنصر أكتوبر
  • 7 نصائح للقراءة السريعة.. حافظ على الفهم واكسب الوقت
  • من العراق إلى تونس.. قراءة معمقة في بنية الاستبداد العربي.. كتاب جديد
  • قراءة إسرائيلية في أفق نجاح مفاوضات وقف الحرب.. ترامب كسر كاحل نتنياهو
  • واشنطن: اجتماعات جارية بشأن اتفاق إسرائيل وحماس