رغم أن الشاعرة والروائية صفاء أبو خضرة تنتمي إلى جيل الشباب، فإن تجربتها الإبداعية تفوق العشرات من نظيراتها اللواتي ولجن هذا الميدان، فقد نظمت أولى قصائدها وهي في التاسعة من عمرها بعنوان "أحب وطني"، واشتعلت الأسئلة الباحثة عن إجابات بعدما صفعتها معلمة الرياضيات لأنها استبدلت مسألة رياضية بقصيدة، وأصبحت ترى الأشياء على نحو مغاير لما يراه الآخرون.

فنتاجها الإبداعي، الشعري والروائي، ثري بالمعاني، جمعت فيه خلاصة رحلتها أو تبحّرها في كتاب الله، وشغفها بالقراءة؛ فهي من المبدعين الذين أضناهم الوجد نحو ولوج مواقع المعرفة المتنوعة، لتكون ذخيرة مستقبلية.. حواراتها وشخصياتها لا تتشح بالسواد، بل تعكس مخزونها الثقافي الواسع، ولغتها المطواع تقدم وجبات معرفية تعلي من شأن العقل، وتفتح بوابة التأويل، وترفع الكلمة إلى أصدق المشاعر.

وفي حديثها لـ"الجزيرة نت" وصفت دماغها بأنه "بئر نفطية قابلة للاشتعال عند أي شعلة"، وقالت "أعاني من لدغة الكتابة، ولعنة الأساطير.. وأحلم بخطف أبطال الروايات إلى زنزانة واحدة، أجمعهم مع الفلاسفة لأرى من يفوز"، مشيرة إلى أنها أتقنت القرآن الكريم في سن مبكرة، وتعلقت بالشعر الصوفي للخلاص من طوفان الأسئلة.

إعلان

ووصفت قصائدها بأنها خيول تحفر المسافات، وقصيدة النثر بأنها امرأة مشاغبة، لينة وعصية على الكسر، تشبهها، فيما تكتب الرواية لتمارس حريتها وتفتح الأبواب لشخوصها.

"اليركون" وحكاية الجدات

أما رواية "اليركون"، فالشخصية المتخيلة فيها هي "الروائي"، فيما الشخصيات الأخرى حقيقيون، تحدثتُ بلسانهم، وتألمت بألمهم، وعانيت كوابيسهم، ورحلت معهم في البعيد، لكني تمكنت من العودة -ولو مجازا- إلى المكان الذي شممت رائحة ترابه، وتذوقت زيته، أمام مرآة الكتابة التي عكست من خلالها ذكريات جدتَي (مريم ورشيدة)، لأنهما عاصرتا البلاد قبل النكبة، والنكبة ذاتها.

فجدتي رشيدة، ابنة قرية "إجريشة"، لم تتوقف لحظة رجفة يديها، ولا رنة صوتها، وهي تحدثني عن نهر "العوجا" (اليركون) -وهو الاسم الكنعاني لنهر العوجا، وليس كما يدعي الكيان الصهيوني بأنه اسم توراتي- وصفت لي النهر حتى لفحت نسمات الهواء ماءه وبللت وجنتي. إنه التماهي في الكتابة، بل والتقمص الروحي للأشياء.

هكذا، عندما أكتب، ألبس جلد شخصياتي، وأشبههم في مواقفهم وتصرفاتهم، حتى إن صوتي يصبح صوتهم، وإلا سأكون قد كررت نفسي وسلبت نصيبهم من الوجود. فلكل شخصية طريقتها وصورتها ووجهة نظرها المختلفة.

ومن هنا، جاءت لغة الرواية متعددة الأصوات؛ فيها المد والجزر، والكر والفر، والعودة والهروب والرجوع، والحضور والغياب، والصخب والهدوء، وكثير من العاطفة الجياشة، ما بين الحنين إلى بلاد لم أرها إلا في صوت جدتي الحزين، وإصرار جدي الصاخب على العودة، وحرصه على مفاتيح بيته في يافا، وتنهيدة والدي وشوقه لزيارتها. ولدي مصادري الأخرى المسموعة من أشخاص عاصروا البلاد، سواء من عائلتي أو ممن يعيشون في فلسطين، وعاصروا المدن التي تم تهجير أهلها وهدمها.

كما استفدت من ذاكرة التاريخ الشفوي الفلسطيني، وهي شهادات حية، واستمتعت لعشرات، وقرأت كتبا كثيرة، وبحثت طويلا دون توقف. حتى بعد انتهائي من كتابة الرواية، حاولت أن أكون صادقة وجازمة فيما كتبت، لأن التاريخ، وإن كان كاذبا في كثير من تفاصيله، إلا أنني أعرف من أين أصطاد سمكة حقيقية غير ملوثة.

إعلان

وتقول صفاء أبو خضرة "أما المكان، فكان بطله مدينة يافا وقرية إجريشة فيها، وأيضا مخيم إربد شمال الأردن، فهو المكان الذي ولدت ونشأت فيه، وجل أحداث الرواية تدور فيه".

صفاء أبو خضرة: في رقصة "الفلامنكو" تعبير صارخ عن الحرية؛ حر بلا قيود، فيه من التحدي والكبرياء والشموخ (الجزيرة) النثر امرأة مشاغبة

وترى أبو خضرة أن "قصيدة النثر امرأة مشاغبة، وهي لينة وعصية على الكسر. إنها تشبهني فعلا، أو هكذا أدعي"؛ فديواني البكر "ليس بعد" أبصر النور في عام 2002، وترنحت القصائد فيه بالحب بكل تجلياته، تنظر إلى البعيد بلا ثقوب سوداء، وطرق مشرعة صوب الحياة، كأنها خيول تحفر جلد المسافات، وتطلق شرارات حفرها، وتحرق كل ما هو بشع في الحياة. إنه الحب، أسمى آيات الكون.

وجاء ديواني الثاني "كأنه هو"، فولادته كانت عسيرة في عام 2008، وقد شكل نقلة مختلفة تماما عن تجربتي السابقة. كان للقصائد طعم مر، والكلمات تعوي وتنبح وتصرخ وتصدح… لم يكن الوجع فيها وديعا، ولا الحب فيها صافيا من غير خدوش، لأن الحياة مثل سلم درجاته غير متطابقة، ولذلك تكون الصعوبة بمكان في تسلقها. فكان ديوانا مزدحما بالوجع والحنين، ولهذا تصدرت الديوان جملتي: "هل يتسعني البحر بكل عنائي أم سيطفو على سطحي؟".

وفي مقطع من الديوان:

أردتُ أن أسيلَ كلحنٍ على صدر غيمة

وأصطاد نجومًا بضوء القلب

وأجمع أطيافًا بسلال الروح
أردتُ أن أشتهي ما أشتهي

لكني عدتُ كوكبًا سارَ دهرًا ونام

أنهضُ كأنّي أصبع الريحِ تعلنُ ثورتها

أغمضُ الحجرَ متصدّعةً من خشية صوت

أحب الفن بكل تجلياته، لكني وجدت -والحديث لصفاء أبو خضرة- في رقصة "الفلامنكو" تعبيرا صارخا عن الحرية؛ حرا بلا قيود، فيه من التحدي والكبرياء والشموخ. فعندما تدق الراقصة بكعبها العالي الأرض، وترفع رأسها إلى السماء، لا نعرف حينها ماذا ترى.. المهم كيف نراها؛ لكأنها تقول للسماء "أفرغي زرقتك كلها، فلم تعد تتسعني الأرض".

إعلان

ويتخلل المجموعة قصة عنونتها بـ"فلامنكو"، متخيلة فيها الراقصة الإسبانية الشهيرة "ماريا باخوس"، التي تميزت رقصاتها بطابع فلسفي عميق؛ فالرقصة ليست مجرد حركات، بل أعمق.

فالمجموعة القصصية "فلامنكو" تضم 19 قصة، متنوعة بين العاطفية والوطنية والاجتماعية، وأبطالها أحرار دون تدخلي؛ فقد أدخلتهم بيت القصص، وتركت النوافذ مشرعة لهم.

صفاء أبو خضرة: هذه الرواية "أنيموس" قتلتني وأحيتني في آن واحد (الجزيرة) أنيموس.. رواية قتلتني

وحول رواية "أنيموس"، قالت صفاء أبو خضرة إنها ليست الأولى، لكنها الأولى التي قامت بطباعتها، فقد سبقتها روايتان مخطوطتان لم تجرؤ على نشرهما.

"إنها ظاهرة الحلم الذكوري.. حكاية التشظي، والخط الرفيع بين الموت والحياة، والعقل والجنون، والكفر والإيمان، والأنوثة والذكورة".

"هذه الرواية قتلتني وأحيتني في آن واحد"، فطبيعة عملي تخرطني في المجتمع صوتا وصورة؛ أدخل معاناة الآخرين بصوتهم إلى جهاز الحاسوب، لكني في الداخل أشم رائحة تتعلق بروحي، ولا أستطيع التخلص منها إلا بالكتابة.

فقصة طفل في الرابعة من عمره، فقد ذكورته بسبب مشرط الجراح، فكان لمصيره طرق وعرة جدا، وكان لمخيلتي نصيب كبير في تعبيدها. إنه التهشم في الذات، عندما تتحول الحياة إلى مشرط.

المخيم والأسئلة الأولى

وتقول أبو خضرة "تعرفت على حاضري من خلال الماضي الذي حدثتني عنه جدتي ووالدي، فكان ارتباطي به ارتباطا متخيلا منذ البدء، وله معنى آخر غير الذي تعنيه الأمكنة".

ولدت في المخيم، فنبتت منه أسئلتي الأولى، فكنت أرهق كل من حولي بها؛ فثمة أسئلة تستعصي عليها الإجابة، وأخرى تجعل من البكاء حقلا رطبا. فتبنيت ذكريات مؤلمة من تلك الحكايات، ومن تلك الأسئلة بدأت مشواري، وحملت على عاتقي مسؤولية كبيرة، حملت وطنا أشتاقه دون توقف".

القرآن أثرى لغتي

وتستطرد "عندما كنت أسمع والدي في الفجر يرتل القرآن، كنت أشعر بقلبي يتكسر وينشج. فسر والدي الأمر بالإيمان، وفسرته والدتي كذلك، لكن اللغة كانت تشق صدري فتفتتني. ومن هناك اكتشفت انجذابي للغة العربية، وعشقي وافتتاني بها. أثّرت لغته في لغتي، فكثير من قصائدي يتضح فيها التناص مع الآيات. كنت أتوقف كثيرا أثناء قراءته أمام الصور المدهشة، الإعجازية، التي لا يمكن لكائن بشري أن يكتبها.

إعلان

أما الشعر الصوفي، فكان مرحلة "من ضمن مراحل كثيرة؛ فمنه إلى الأساطير، فالروايات، فالفلسفة، حتى أصبحت لدي في كل زاوية من غرفتي كتب متنوعة، وتحول الأمر من الشغف إلى الهوس".

صفاء أبو خضرة: ما أفعله أنني أنصت.. أترك شخصياتي تختار طريقها، معاناتها، حبها، شغفها، لا أقودها إلى شيء بل تقودني (الجزيرة) الكتابة مؤلمة

وتصف الكتابة بـ"المؤلمة"، إلا أنها تكتب لتكون حرة. فقبل اكتشاف الفكرة، تطارد فراشات الليل، وأصوات القطط، وزقزقة الضوء حال بزوغه، ونشيج الغروب حال هروبه من نهار متعب. تبحث عن ملامحها في المرايا، تمزق أوراقا بيضاء فارغة، وتمشي في الشوارع مترنحة… "حتى تأتيني الفكرة، أقبض عليها، أضمها، أعصرها، وأبدأ طقوسي وأقدم نذوري.. حينذاك، أغيب عن الوجود، وأبدل وجهي وملامحي وثيابي وزمني ومكاني".

وتقول: ما أفعله أنني أنصت.. أترك شخصياتي تختار طريقها، معاناتها، حبها، شغفها، لا أقودها إلى شيء بل تقودني. أعزف على وتر الحزن والتمرد والحدس، ولدي وتر غريب، أرى ما يسبق، وربما هذا ما يجعلني متعبة دائما بأفكاري وهواجسي، وحالمة فوق أي تصور.

وحول ما يجري في غزة، ترى أبو خضرة كأننا ابتلعنا جميعا سما خدر أفواهنا وأخرسها أمام كل هذه المجازر والإبادة والبشاعة والإجرام.. "تزيد أسئلتي: ماذا ننتظر؟ وهل هناك موت أكثر من هذا الموت؟ متى ستتوقف قافلة الموت…؟ هل ستتوقف فعلا؟ وتمنيت لو أن الأطراف المبتورة تنبت مجددا، والأرواح التي سبقتنا إلى السماء لها خيار العودة".

لذلك أقول كشاعرة:

من يشتري مني روحي

فالأرضُ اليومَ مقفلةٌ!

من يشتري مني مقلتي

فأرضي اليوم مقفرةٌ

من يشتري مني قلبي

فمقلتي اليوم لا تبصر

يرى الناقد مهدي نصير أن رواية "اليركون" عالية ومتقنة في لغتها، التي تمزج بين اللغة الفصيحة السلسة والمفردات واللهجة المحكية (الجزيرة) الرواية وثيقة تاريخية

ومن جانبه، يرى الناقد مهدي نصير أن رواية "اليركون" توثق سرقة نهر العوجا الفلسطيني، عبر سرد تهجير عائلة "لميس"، الراوية الرئيسة، عن عائلتها الكبيرة التي هُجرت من أرضها ومزارعها وبياراتها في يافا والجريشة وبيار عدس، كنموذج للتهجير والتدمير والإبادة.

إعلان

ووصف في حديثه لـ"الجزيرة نت" الرواية بأنها عالية ومتقنة في لغتها، التي تمزج بين اللغة الفصيحة السلسة والمفردات واللهجة المحكية، والتراويد، والأهازيج، والأمثال، والصيغ الشعبية المتداولة وتوثيقها، وكذلك في شخصياتها ورواتها وحبكتها، واستنادها إلى وثائق تجعل من السرد الروائي وثيقة للتاريخ والمستقبل الفلسطيني.

وبسؤالنا عن شخصية "لميس"، أوضح نصير: "إنها الشخصية الرئيسة، وقد أطلقت عليها هذا الاسم إحدى عماتها، تيمنا بالفلسطينية لميس التي استشهدت بتفجير سيارة خالها، الروائي الشهيد غسان كنفاني، عام 1972 في بيروت. وهي حفيدة العائلة الفلسطينية التي اقتلعت من ضفاف نهر العوجا، وولدت في مخيم إربد شمال الأردن، ودرست الصحافة، وهاجرت إلى أميركا بأمل أن تتيح لها الجنسية فرصة لزيارة فلسطين.. زارتها فعلا، ولكن كأسيرة، إذ سلمتها أميركا للكيان الصهيوني بعد اغتيال زوجها غسان، عالم وأستاذ الآثار الفلسطيني وابن يافا، لتقضي عشر سنوات في الأسر".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات

إقرأ أيضاً:

ختام مهرجان بطولة العالم لخيل الجزيرة في الرياض

هاني البشر – الرياض
برعاية كريمة من نائب أمير منطقة الرياض صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن عبدالرحمن بن عبدالعزيز اختتمت اليوم في مدينة الرياض فعاليات مهرجان بطولة العالم لخيل الجزيرة 2025 بتتويج الفحل ” الفهد ” بذهبية الأفحل . اشتمل المهرجان على بطولة العالم لخيل الجزيرة وبطولة المملكة الدولية لجمال الخيل العربية الأصيلة بنسختها الرابعة بمشاركة ما يزيد من ” 200 ” رأس من نخبة الجياد العربية. يقام المهرجان تحت إشراف مركز الملك عبدالعزيز للخيل العربية الأصيلة بمشاركات من دولة مختلفة حيث يعد حدثاً بارزاً يجمع بين الأصالة والتراث والتاريخ كما تعتبر الجزيرة العربية موطن الخيل العربية ثم انتشرت في أنحاء العالم ويسجل التاريخ الاهتمام الكبير للخيل العربية وأهميتها بالمملكة. توشحت بذهبية المهرات عمر سنة المهرة عليا العرب – ذهبية الأمهار عمر سنة للمهر اس كي سيف – ذهبية المهرات ( 2-3 ) سنوات للمهرة عليا الشامخ – ذهبية أمهار ( 2-3 ) سنوات للمهر شقران سما نجد – ذهبية الأفراس للفرس مودة راية العز – ذهبية الفحول للفحل الفهد. بطولة العالم لخيل الجزيرة 2025 توشحت ذهبية المهرات أعمار سنة للمهرة شامة الخالد – ذهبية الأمهار أعمار سنة للمهر سيف الوادي – ذهبية المهرات ( 2-3 ) سنوات للمهرة عيناء الخالد – ذهبية الأمهار ( 2-3 ) سنوات للمهر اس ان سراج – ذهبية الأفراس للفرس دي فنار – ذهبية الفحول للفحل سلام أكمل. أما بطولة الخيل سعودية الأصل والمنشأ ذهبية المهرات للمهرة ديباج – ذهبية الأمهار للمهر مناف المزموم – ذهبية الأفراس للفرس دهيمة عذبة – ذهبية الفحول للفحل فهد العارض.

مقالات مشابهة

  • الكيمياء تكشف عن أول علاج بالبخور في الجزيرة العربية قبل 2700 سنة
  • الجزيرة وشباب الأهلي.. «مسك الختام» في «أدنوك للمحترفين»
  • ختام مهرجان بطولة العالم لخيل الجزيرة في الرياض
  • الحديدة تتنفس خضرة ونوراً .. غرس 10 آلاف نخلة وإنارة شوارع المدينة بالطاقة الشمسية
  • في محكمة الأسرة.. حالات يجوز فيها رفع دعوى طلاق للضرر
  • ليلة مميزة تحتفل فيها أسماء جلال بعيد ميلادها الـ30
  • دراسة: استخدام نبات الحرمل في الجزيرة العربية قبل 2700 عام
  • الجزيرة نت ترصد حقيقة المعادن النادرة في جزيرة غرينلاند
  • الكاتب سمير أيوب: اليمن يعيد فلسطين إلى واجهة العالم ويكسر احتكار الرواية الصهيونية