يمانيون | تقرير
أخذت التهديدات اليمنية طابعاً استراتيجياً متصاعداً، ليتحوّل أثرها من ضربات موجعة في البحر الأحمر إلى ارتدادات اقتصادية وأمنية مباشرة داخل عمق كيان الاحتلال، وسط اعتراف صريح من وسائل الإعلام الصهيونية بتأثير تلك الضربات على قطاع الصناعة الحيوي، وبداية تحول شامل في نظرة العالم إلى “إسرائيل” كمنطقة غير آمنة.

الصحافة الاقتصادية الصهيونية، وفي مقدمتها صحيفة “غلوبس”، أطلقت صافرات الإنذار من خطر داهم يهدد منظومة الموانئ الصهيونية. وكشفت الصحيفة أن ميناء حيفا تحديداً بات عرضة لعزلة تجارية دولية متزايدة، نتيجة التهديد اليمني المباشر بفرض حصار بحري واسع النطاق.

مسؤولون في الموانئ الصهيونية اعترفوا بشكل واضح أنهم يتلقون اتصالات واستفسارات من شركات شحن عالمية بشأن الوضع الأمني، وطلب ضمانات بعدم تعرض سفنهم للخطر. وهذا التطور، حسبما أوردت الصحيفة، ينذر بشلل اقتصادي وشيك قد يصيب ميناء حيفا، الذي يمثل أحد الشرايين الحيوية في شبكة الاقتصاد الصهيوني.

الذعر في مطار اللد.. والصناعات تتألم
إلى جانب الحصار البحري، يشير الإعلام العبري إلى تأثير مدوٍ للحظر الجوي الذي تفرضه القوات المسلحة اليمنية على مطار اللد المحتل (المعروف بـ”بن غوريون”). صحيفة “غلوبس” أكدت أن إلغاء الرحلات الجوية الدولية، ومنها رحلات الخطوط البريطانية إلى يافا المحتلة، لا يضرب قطاع الطيران وحده بل ينسحب تأثيره على كامل القطاع الصناعي، الذي يعتمد في إمداداته على حركة النقل الجوي.

الموقع العبري “يكودنيك” ذهب أبعد من ذلك، موضحاً أن شركات التأمين بدأت بتصنيف الكيان الصهيوني كمنطقة عالية الخطورة منذ لحظة إطلاق أولى الصواريخ اليمنية باتجاه العمق المحتل. وأكد أن الحظر الجوي فرضه اليمنيون فعلياً على المطار المركزي للكيان، دون أن يتمكن العدو من التصدي له أو مواجهته.

ولم يعد يُقرأ هذا التصعيد اليمني في سياق رد الفعل الآني أو التكتيكي، بل بات جزءاً من استراتيجية ردع متقدمة تنفذها صنعاء بدقة عالية وتخطيط بعيد المدى. الهجمات اليمنية على مطارات الكيان وموانئه لم تعد مجرد رسائل إنذارية، بل أصبحت أداة لفرض إرادة سياسية وموقف مبدئي واضح من العدوان الصهيوني الأمريكي على غزة واليمن معاً.

المحللون الصهاينة أنفسهم يعترفون بأن الردع اليمني تجاوز التوقعات، وأن منظومة “القبّة الحديدية” و”السهم” فشلت في حماية العمق الاستراتيجي للكيان من الضربات الجوية اليمنية.

ذعر في الداخل المحتل.. وغضب من حكومة نتنياهو
التهديدات اليمنية وسّعت من نطاق الاحتقان داخل كيان العدو. الصحف العبرية تتحدث عن سخط شعبي متزايد تجاه حكومة نتنياهو، التي باتت عاجزة عن حماية الاقتصاد الصهيوني أو تأمين الأجواء من الطائرات والصواريخ القادمة من اليمن. وطالب الإعلام العبري القيادة السياسية في تل أبيب بوقف سياسة الإنكار والتحرك العاجل لمواجهة التهديد اليمني المتصاعد، بعدما تُركت شركات الطيران وحدها في مرمى الخطر.

وما يجري اليوم هو تحول جوهري في توازن القوى في المنطقة. اليمن، المحاصر والمستهدف منذ سنوات بعدوان أمريكي صهيوني مباشر وغير مباشر، فرض واقعاً جديداً على الصهاينة وعلى العالم. لم تعد “إسرائيل” قادرة على لعب دور القوة التي تضرب دون أن تُضرب، بل أصبحت في وضع دفاعي غير مسبوق، أمام قوة يمنية ذات إرادة حديدية وامتلاك نوعي للردع.

إن دخول ميناء حيفا ومطار اللد في دائرة الاستهداف اليمني، واهتزاز قطاع التأمين والنقل الدولي في الكيان، يعني أن صنعاء استطاعت بالقوة وبالموقف أن تفرض نفسها كفاعل إقليمي غير قابل للتجاوز. ولم تعد رسائل التحذير اليمنية تُقرأ فقط في تل أبيب، بل باتت العواصم الغربية تدرك جيداً أن الأمن البحري والجوي في المنطقة لم يعد محكوماً بالإرادة الأمريكية أو الصهيونية وحدها.

الكيان في مواجهة “الإرادة اليمنية”
تهديد اليمنيين بالوصول إلى حيفا لم يعد مجرد تصريح إعلامي، بل بات حقيقة مقلقة لمراكز القرار الصهيونية. ومع كل صاروخ يُطلق من صنعاء، ومع كل طائرة مسيّرة تعبر الأجواء المحتلة، تتآكل صورة الكيان في العالم، ويهتز النظام الأمني الذي طالما ادعت “تل أبيب” تفوقه.

ما تقوم به اليمن اليوم هو إعادة كتابة معادلات الردع في المنطقة، وإثبات أن الشعوب الحرة قادرة على فرض كلمتها على القوى العاتية مهما امتلكت من ترسانة عسكرية أو دعم سياسي غربي.

لقد دخل الكيان في مرحلة القلق الوجودي من بوابة اليمن، وليس من غزة وحدها.. وصنعاء تقول بوضوح: ما دام العدوان قائماً، فإن الضربات قادمة، والردع يتعاظم، والطريق إلى حيفا مفتوح.

المصدر: يمانيون

إقرأ أيضاً:

الجولان في قبضة الاحتلال.. كيف يغذّي الاستيطان أطماع الكيان الصهيوني؟

الكتاب: الاستغلال الصهيوني لمنطقة الجولان المحتلة
الكاتب: إبراهيم عبد الكريم
الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق2024، (عدد الصفحات 191 من القطع الكبير).


هذا هو الجزء الثاني والأخير من القراءة الخاصة التي كتبها الباحث توفيق المديني لـ"عربي21"، في كتاب "الاستغلال الصهيوني لمنطقة الجولان المحتلة" للكاتب إبراهيم عبد الكريم، الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب (دمشق، 2024). في هذا الجزء، نواصل الكشف عن الأسس الاستراتيجية التي تجعل الكيان الصهيوني يتمسك باحتلال الجولان، مستعرضين تفاصيل الخطة الاستيطانية الجديدة (2022 ـ 2025)، وأبعاد الاستغلال الاقتصادي والعسكري للمنطقة، في ضوء سرد موثق ودقيق يفضح أطماع الاحتلال ويؤكد مركزية الجولان في المشروع الصهيوني.

الخطة الاستيطانية الجديدة المتعلقة بالجولان / 2022 ـ 2025

توالت معلومات عن نية حكومة نفتالي بينيت طرح خطة استيطانية متعلقة بالجولان، وصفت بأنها غير مسبوقة في مجالها، من حيث محتواها وأهميتها. وتولى بينيت بنفسه التمهيد لإعلان هذه الخطة، قبل ثلاثة أيام من إقرارها رسمياً في الحكومة، فكتب مقالاً نشره في صحيفة يسرائيل هيوم 23 ديسمبر 2021، جاء فيه حرفياً بصيغ تبجحية وتضليلية واضحة: في ليلة 14 كانون الأول 1981، فرضت حكومة مناحيم بيغن السيادة على هضبة الجولان، وسط إدانة شديدة من الداخل والخارج، وما بدأه بيغن قبل 40 عاماً، نواصله اليوم، فاليوم نحن نركز على تعزيز ونمو هضبة الجولان وخطة المليار شيكل للجولان (نحو 300 مليون دولار ـ الباحث)، التي ستوافق عليها الحكومة برئاستي في اجتماع احتفالي، هي واحدة من الخطط الرئيسية للحكومة للفترة المقبلة..

سيتم استثمار مئات الملايين في البنية التحتية والتعليم وتطوير الطرق والوظائف والتكنولوجيا الفائقة هاي تك والطاقة الخضراء، والقائمة تطول.. نحن نسلط الضوء على الجولان ونقول بوضوح: نحن مع الجولان ونحن في الجولان. إنَّ  هضبة الجولان ليست مجرد رصيد استراتيجي ذي أهمية سياسية وأمنية، إنها أيضاً منزل ونمط مناظر لوطننا.... وحبي الخاص لهضبة الجولان ينبع من الطفولة، والرحلات على طول الهضبة وحقولها الخضراء، وبعد ذلك كجندي وقائد في الجيش مع ساعات طويلة من العمل. ومثل الكثيرين، لدي أيضاً ركن دافئ في القلب الهضبة الجولان القرار الذي سنتخذه في الحكومة ليس عملياً فقط، بل إن لدينا عنصراً تصريحياً مهماً. هضبة الجولان لم تعد محل نزاع، وهناك إجماع من اليمين واليسار تمثله حكومتنا أفضل من الجميع على أن الجولان لنا.

يلمس متابع السياسة الصهيونية الخاصة بالمنطقة المحتلة من الجولان، أن سلطات الاحتلال عمدت إلى استكشاف الإمكانيات الاقتصادية لهذه المنطقة، منذ الأشهر الأولى لوقوعها تحت سيطرتها وراحت تؤسس بنية اقتصادية مناسبة، ليس فقط الصالح القاعدة الاستيطانية هناك، بل أيضاً لوضعها بتصرف جهات داخلية أخرى.ويتفق وزراء الحكومة على أن الاستثمار يجب أن يتم في هضبة الجولان وتنميته. هذا تصريح بالغ الأهمية، وهو استمرار لإرث بيغن.. أرى أهمية وطنية في هضبة الجولان، فهذا عمل صهيوني من الدرجة الأولى. لذلك نحن بصدد إنشاء بلدتين جديدتين ـ أسيف ومطر ـ وتعتزم مضاعفة عدد السكان، وجعل المنطقة نابضة بالحياة ومزدهرة تدعو الأزواج الشباب لتأسيس منزل وعائلة.. أوصي الذين سئموا من الاختناقات المرورية؛ دعونا نعيش بشكل جيد. تعالوا إلى الجولان.

يقول الباحث إبراهيم عبد الكريم: "ثم جرى الكشف عن الخطة الاستيطانية الجديدة، خلال الجلسة الخاصة التي عقدتها الحكومة الصهيونية في مستوطنة كيبوتس مافو حمة جنوبي منطقة الجولان المحتلة يوم 26ديسمبر 2021.. وقد حضر هذه الجلسة وزراء الحكومة، باستثناء عيساوي فريج وزير التعاون الإقليمي من حزب ميرتس، الذي تغيب لأسباب أيديولوجية واحتجاجاً على قرار الموافقة على البناء الضخم في الجولان، ووزيرة التعليم يفعات شاشا بيتون التي تغيبت لأن ابنتها أصيبت بالكورونا. كما حضرها رئيس مجلس الجولان الإقليمي حاييم روكاح ورئيس مجلس كتسرين ديمي أبرتسيف ورئيس مجلس مجدل شمس المحلي دولان أبو صالح، الذي قال: نحن نحتاج إلى استثمارات وعمل حكومي للنهوض بمجتمعاتنا، ورئيس مجلس عين قنية وائل مغربي الذي قال: نحتاج إلى مشاريع وطنية تؤدي إلى نمو تجمعاتنا في الجولان أيضاً، على حد قوله..

في مستهل تلك الجلسة، أدلى رئيس الحكومة نفتالي بينيت، بتصريحات جاء فيها حرفياً: هذه لحظتنا، وهذه لحظة هضبة الجولان. لقد أدى مزيج من الظروف بحكومتنا إلى اتخاذ قرار دراماتيكي يقضي بتحويل الكثير من الموارد، أي مبلغ نحو مليار شيكل، لتعزيز البلدات الواقعة في هضبة الجولان. ويجب القول إن هضبة الجولان لنا..... وإن حقيقة أن إدارة ترامب اعترفت بذلك، وحقيقة أن الرئيس بايدن أوضح أنه لم يطرأ أي تغيير على هذه السياسة، يحظيان بأهمية أيضاً. وقد اكتشف العديد خلال آخر سنتين أن السكن في المنطقة الوسطى ليس بأمر حتمي، ومن هذه الناحية، قد تشكل هضبة الجولان خياراً رائعاً لمن يفضلون الهواء النقي والمساحات المترامية وجودة الحياة، لقد شاهدت قبل دقائق أطفال الروضة هنا، فهذا الوضع يحسد عليه. وهنا تدخل الحكومة على الخط، فمن خلال مصادقتنا على الخطة اليوم نحيي مرور 40 عاماً على تطبيق القانون هنا، وفي الحقيقة، هذه الخطوة تأتي متأخرة إلى حد كبير، إذ يشهد حجم البلدات هنا حالة من الجمود منذ سنين طويلة جداً.

وخلال الجلسة، قدم يائير بينس المدير العام لمكتب رئيس الحكومة الخطة الجديدة، ووافقت الحكومة بالإجماع عليها وتعليقاً على عدم حضور عيساوي فريج، وزير التنمية الإقليمية من حزب ميرتس، اجتماع الحكومة الاحتفالي، قالت زميلته في الحزب عضو الكنيست غيداء ريناوي الزعبي: هضبة الجولان يجب أن تكون جزءاً من أي اتفاق مستقبلي ومفاوضات سياسية، حتى لو كان الوضع في سورية حالياً لا يسمح بذلك (ص65).

الاستغلال الاقتصادي الصهيوني للجولان المحتل

يلمس متابع السياسة الصهيونية الخاصة بالمنطقة المحتلة من الجولان، أن سلطات الاحتلال عمدت إلى استكشاف الإمكانيات الاقتصادية لهذه المنطقة، منذ الأشهر الأولى لوقوعها تحت سيطرتها وراحت تؤسس بنية اقتصادية مناسبة، ليس فقط الصالح القاعدة الاستيطانية هناك، بل أيضاً لوضعها بتصرف جهات داخلية أخرى.

وعلى امتداد العقود الماضية، قامت الحكومات الصهيونية المتعاقبة بتوطيد هذه البنية الاقتصادية ودعمها، على نحو يشمل موضوعات توظيف الأراضي والاستثمارات في مجالات الزراعة والثروة الحيوانية والصناعة والسياحة والتنقيب عن النفط، وسواها... وكانت هذه الموضوعات، ولا تزال تشكل تعديات صهيونية سافرة على منطقة الجولان المحتلة ومواطنيها العرب، خارقة بذلك القانون الدولي العام وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة.

تختلف الأرقام المتعلقة بتقسيمات منطقة الجولان المحتلة وخصائصها، من مصدر الآخر، تبعاً لتواريخها.. فمثلاً يذكر ميخا ليفني وهو باحث متخصص بشؤون الجولان، بين مؤلفاته عنها كتاب شامل مصوّر بالألوان، بعد نحو 20 عاماً من احتلالها، أن هذه المنطقة تمتد على أرض مساحتها 1176 كم2 تتوزع كما يلي: الشمال 479 كم2 ـ الوسط307 كم 2 - الجنوب 276 كم2 - حرمون 104 كم2.. ويقدر ليفني أن نحو 12 كم 2 فقط أي نحو 1002 من هذه المنطقة المحتلة مخصصة للمستوطنات والطرق، وأن نسبة الأراضي المشغولة بالزراعة تبلغ 4-5%، أما الأراضي المعلن عنها كمحميات طبيعية فتصل إلى 12 ومع إدماج الحرمون ضمنها تصل النسبة إلى17. ويشير ليفني إلى تداخل مجالات الأنشطة، حيث يستخدم قسم كبير من المحميات الطبيعية للرعي أو لأغراض عسكرية أو للأمرين معاً، كما يستخدم قسم من المنطقة العسكرية أحياناً للرعي.

ارتبط احتلال منطقة الجولان في المنظور الصهيوني، بمشكلة العمق الاستراتيجي للبلاد وهو المنطقة الواقعة بين الخطوط الأمامية ومنطقتها الحيوية التي يعني سقوطها تصفية للسيادة، وفي حالة الكيان تصفيته، ويمكن تحديدها بأنها المنطقة الممتدة من عكا مروراً بحيفا ويافا تل أبيب وصولاً إلى القدس، التي تجتمع فيها غالبية السكان والمنشآت الأرضية وغالبية مؤسسات السلطة..وحسب التصنيفات الصهيونية العامة، تبلغ الطاقة الأرضية للمنطقة المحتلة من الجولان ويقصد بها المساحات التي تستغل في مختلف الأوضاع والنشاطات البشرية والاقتصادية والعسكرية وغيرها ـ بين 620 ـ 635 ألف دونم (620 ـ 635  كم 2)، تتوزع على خمسة أقسام، هي:

1 ـ الأراضي المخصصة لرعي الماشية / 300 ألف دونم = 300 كم 2.
2 ـ الأراضي التي تشرف عليها سلطة حماية الطبيعة / 100 ألف دونم.
3 ـ الأراضي المخصصة للزراعة / 80-90ألف دونم.
4 ـ الأراضي المخصصة للمواطنين العرب / 90 ألف دونم.
5 ـ الأراضي المخصصة للمناورات العسكرية مناطق النار 5-55ألف دونم، على أقل تقدير.

يستشف من مساحات الأقسام الخمسة المذكورة أن الاحتلال يستفيد، بصورة مباشرة، من نحو 86% من الطاقة الأرضية لهذه المنطقة. في حين يترك للعرب في الجولان مساحة محدودة جداً نحو ١٤، لمعيشتهم والممارسة أنشطتهم الاقتصادية المختلفة، التي تتعرض للضغوط والمضايقات، مما يجعل هذه الأنشطة دون الحد الأدنى المطلوب.

يقول الباحث إبراهيم عبد الكريم:"طبقاً للمبدأ الصهيوني المعروف؛ أكبر مساحة ممكنة من الأرض مع أقل عدد من العرب، عُدّت المنطقة المحتلة من الجولان منطقة نموذجية للاستيطان، في المنظور الاحتلالي، لما ترتب على الاحتلال عام 1967من تغيرات سكانية. وكانت هذه المنطقة ولا تزال توصف بأنها واعدة، بالمعيار الصهيوني لاستقبال المزيد من المستوطنين وللتوسع باستغلالها في مجالات شتى.. فقد كان في منطقة الجولان قبل الاحتلال، نحو 172 قرية، ونحو 150 مزرعة مسكونة.. (ص81).

الاستغلال العسكري والأمني الصهيوني للجولان المحتل

ارتبط احتلال منطقة الجولان في المنظور الصهيوني، بمشكلة العمق الاستراتيجي للبلاد وهو المنطقة الواقعة بين الخطوط الأمامية ومنطقتها الحيوية التي يعني سقوطها تصفية للسيادة، وفي حالة الكيان تصفيته، ويمكن تحديدها بأنها المنطقة الممتدة من عكا مروراً بحيفا ويافا تل أبيب وصولاً إلى القدس، التي تجتمع فيها غالبية السكان والمنشآت الأرضية وغالبية مؤسسات السلطة.. وتتجلى معالم هذه المشكلة في المنظورين العام والذاتي، بصغر مساحة البلاد، وقصر المسافة بين المنطقة الحيوية والحدود الشرقية والشمالية للبلاد، وطبيعة التشكيل الجغرافي ـ السياسي للبلاد والوضعية الخاصة للتجمعات اليهودية والعربية في فلسطين المحتلة.

ردًّا على واقع الضعف الكبير في العمق الاستراتيجي، بادر أقطاب المؤسستين العسكرية والسياسية الصهيونية ، منذ وقت مبكر، إلى البحث عن سبل معينة من شأنها أن تقلل هذا الضعف وتمحور ذلك البحث حول تأمين ما يسمى العمق الاستراتيجي المستحدث الاصطناعي الذي يعوض الافتقار إلى بعض العناصر في العمق الاستراتيجي الطبيعي، ومن تلك السبل؛ احتلال أراض عربية جديدة، وضمناً منطقة الجولان، استناداً إلى ما تمتلكه الجولان من خصائص فريدة يمكن للاحتلال استغلالها وتوظيفها في مجالات عدة، بينها المجال العسكري والأمني.

وعلى هذه الخلفية لجأ الاحتلال الصهيوني  إلى استغلال منطقة الجولان لأغراض عسكرية وأمنية، إضافة للأغراض الأخرى، على نحو يسخر هذه المنطقة في سياق ما يسمى الحفاظ على الأمن القومي للدولة.

يقول الباحث إبراهيم عبد الكريم:"من المعروف أن للموقع الجغرافي لمنطقة الجولان أهمية كبيرة عبر التاريخ، برزت في الأوضاع البشرية للمنطقة، وفي أنماط العمران والأحوال الاقتصادية، كما برزت في كونها منطقة عبور القوافل والجيوش والشعوب منذ القدم، ومسرح صراع دائم على مر العصور.

إذ تقع هذه المنطقة في أقصى جنوب غربي سورية على امتداد حدودها مع فلسطين المحتلة، وتأخذ شكلاً متطاولاً من الشمال إلى الجنوب على مسافة 75 - 80كم، بعرض متوسط يتراوح بين 18 - 20 كم.. وتقع كتلة جبل الشيخ في شمالي الجولان، وتفصله عن البقاع الجنوبي في لبنان. ويفضل وادي اليرموك في الجنوب بين الجولان ومرتفعات عجلون والأردن الشمالية الغربية. أما في الغرب فتطل منطقة الجولان على سهل الحولة وبحيرة طبرية في فلسطين بجروف قاسية. في حين يقع وادي الرقاد في الشرق بين الجولان ومنطقة حوران.

وفي المنظور الصهيوني، تكمن أهمية موقع منطقة الجولان من وجود هذه المنطقة على تماس مباشر مع كل سوريا (الأم) ولبنان وفلسطين والأردن، ما يجعل لها أهمية خاصة في السيطرة والإشراف على الأراضي الممتدة لمسافات واسعة في هذه المناطق، والسيطرة والإشراف أيضاً على مصادرها المائية ومنابع الأنهار ومجاريها، فضلاً عن العوامل الجغرافية الأخرى التي تعطي منطقة الجولان ميزة للجهة التي تسيطر عليها، وذلك بتداخل كبير مع التقديرات الصهيونية لمختلف الوجوه الأخرى المتعلقة بالأهمية الجغرافية لهذه المنطقة(ص 130).

في محاولة لتسويغ رفض الانسحاب من منطقة الجولان، تتعامل الأوساط العسكرية الصهيونية مع جغرافية هذه المنطقة بمفاهيم ومعايير أمنية عسكرية أساساً، وتضفي على موقعها سمات خاصة تزيد التعنت الصهيوني، فيقتصر موقف الجيش على مصطلحات مهنية، مثل خط إيقاف التقدم وشبكة دفاعية وحقل للنيران وأرض للمعارك ومكان المرابطة المدرعات ومنطقة مناسبة للقيام بسلسلة مناورات. ويجري التركيز على مستوى الارتفاع الكبير للجولان عن الجليل الخرائط ـ لاحقاً.

وكانت ذريعة التمسك بالجولان للدفاع عن مناطق البلاد شائعة في الخطاب الأمني الصهيوني، واستقطبت توجهات المستويات السياسية والعسكرية. وقد عبر إيغال آلون منظر حزب العمل الصهيوني في سنواته الأولى عن ذلك، بقوله: إن الهضبة الجولان، والمنحدر جبل الشيخ أهمية حيوية، ليس فقط من أجل الدفاع عن مستوطنات وادي الحولة ضد الرمايات السورية، بل أيضاً للحاجات الاستراتيجية الشاملة في الإشراف على الجولان، فهذا الأمر يتعلق بالدفاع عن الموارد الأساسية لمياهنا، وبالدفاع عن الجليل الأعلى والأسفل، وبالدفاع عن نهر الأردن الأعلى والأوسط، ووادي الحولة وبحيرة طبرية والوديان المحيطة بها ووادي بيسان. ولا تزال هذه الرؤية تشكل حتى الآن الناظم للتوجهات المتعلقة بأهمية موقع الجولان في الاستراتيجية الصهيونية.

من الواضح أن تعدد أشكال الاستغلال الصهيوني للمنطقة المحتلة من الجولان، استيطانياً واقتصادياً وعسكرياً وأمنياً، يعني أن الاحتلال مشروع رابح صهيونياً، بالمعايير الحالية، فالأمر يتعلق بعائدات هائلة، يتعذر قياسها ذات مضامين جارية واستراتيجية.ولتسويق التصورات التي يضعونها، دأب المهتمون الصهاينة على معالجة المسألة من منطلقات أمنية، وكرروا التذكير بما أطلقوا عليه الأوضاع الخطيرة التي عانتها البلاد قبل احتلال الجولان عام 1967، والتي كانت تتفاقم جراء الاستخدام العسكري السوري لعامل الارتفاع الجغرافي للمنطقة بالنسبة لمنطقة الجليل. وحول هذه النقطة كشفت وثائق لاحقة أن الكيان الصهيوني كان يفتعل الأحداث عمداً لتهيئة الظروف لاحتلال الجولان. وقد تحدث عن هذا الأمر، مثلاً، واحد من أبرز المؤرخين الجدد الصهاينة، يدعى أفي شلايم، في كتابه الجدار الحديدي ضمن فقرة بعنوان الأعراض السورية The Syrian Syndrome بقوله: كانت الجبهة السورية هي الجبهة الإشكالية الوحيدة في عقد الستينات من القرن العشرين. وكانت هناك ثلاثة مصادر رئيسة للتوتر مع سورياالمنطقة المجردة والمياه، ونشاطات المنظمات الفدائية الفلسطينية، وكان الاثنان الأخيران هما الأهم. فقد غذيا التوتر الذي انفجر على شكل حرب شاملة في نهاية المطاف عام1967.

وكان رئيس الوزراء ليفي إشكول الذي كان مديراً سابقاً لشركة ميكوروت للمياه منغمساً بمشكلة المياه، وقد شارك شخصياً في مناقشات عديدة، ووافق على أن الحلم الصهيوني لا يمكن أن يتحقق دون السيطرة على مصادر المياه، فدون مياه لن تكون هناك زراعة والزراعة كانت أساس وجود الشعب اليهودي في البلاد كما قال. وكان جنرالات الجيش، بالطبع، أكثر اهتماماً بالجانب العسكري من الجانب الاقتصادي للنزاع على المياه، وكانت لديهم حسابات قديمة عديدة لتصفيتها مع السوريين. وحسب شلايم، شكك العميد يسرائيل ليئور، المساعد العسكري لإشكول، بأن سلسلة العمليات والعمليات المضادة التي لا تنتهي سوف تفضي إلى حرب شاملة، حيث قال: لقد جرت في الشمال حرب خطيرة إلى حد ما بشأن المصادر المائية، وقد قاد الحرب رئيس الأركان يتسحاق رابين، مع الضابط المسؤول عن القيادة الشمالية دافيد اليعازر.

ويعلق شلايم على هذا بالقول: كان لدي إحساس داخلي قلق بشأن هذه المسألة، وبدا لي طوال الوقت، أن رابين كان يعاني مما أدعوه الأعراض السورية، وحسب رأيي، إن جميع أولئك الذين خدموا على طول الخطوط الأمامية للقيادة الشمالية، تقريباً، متأثرون بـ الأعراض السورية، فالخدمة على هذه الجبهة، في مواجهة العدو السوري، تؤجج مشاعر كراهية استثنائية للجيش والشعب السوريين، وكان رابين وإليعازر عدوانيين في عملياتهما الحربية بشأن المياه في الشمال، وأصبحت الحوادث المتعلقة بهذه المياه وبالسيطرة على المناطق المجردة جزءاً لا يتجزأ من الروتين اليومي، وكانت استراتيجية التصعيد على الجبهة السورية أهم عامل منفرد في جر الشرق الأوسط إلى الحرب، في حزيران عام ١٩٦٧، على الرغم من الحبكة التقليدية المتعلقة بالموضوع التي تحدد العدوان السوري بأنه السبب الرئيسي للحرب.

في ختام هذا الكتاب المهم الغني بالمعلومات المستقاة من المصادر الصهيونية، من الواضح أن تعدد أشكال الاستغلال الصهيوني للمنطقة المحتلة من الجولان، استيطانياً واقتصادياً وعسكرياً وأمنياً، يعني أن الاحتلال مشروع رابح صهيونياً، بالمعايير الحالية، فالأمر يتعلق بعائدات هائلة، يتعذر قياسها ذات مضامين جارية واستراتيجية. وهو ما يغذي عملية تمسك سلطات الاحتلال الصهيونية  بهذه المنطقة، ورفضها المطلق للانسحاب منها طوعاً، واستشراسها في طلب الاعتراف الدولي باحتلالها لها، إذ أن زوال الاحتلال عنها، يعني خسارة كبيرة، جراء فقدانها الميزة الاستراتيجية للجغرافية السياسية الأمنية لها وللمردود المالي والاقتصادي الناجم عن السيطرة عليها.

ولا شك أنه حين تسترد سوريا منطقة الجولان المحتلة، سيضاف إلى سجل التاريخ السياسي للمنطقة حدث نوعي، يتمثل بإنجاز استراتيجي غير مسبوق، من حيث أهميته ودلالاته، لأن الأمر، والحالة هذه، يتلخص بكسر الأسباب والذرائع للتمسك بهذه المنطقة، وبتحطيم غطرسة القوة الصهيونية، بفعل الإرادة العربية السورية القادرة حتماً على فرض ذاتها مهما بلغت التحدِّيات.

إقرأ أيضا: الجولان في قبضة الاحتلال.. مشروع استيطاني أم فشل استعماري؟ كتاب يجيب

مقالات مشابهة

  • الكيان الصهيوني وتاريخ النازية
  • حكومة السوداني :الكيان الصهيوني تجاوز كلّ الاعتبارات الإنسانية والقانونية في حربه على غزة
  • الحظر على ميناء حيفا : تهديد غير مسبوق للملاحة شمال الكيان
  • صنعاء تُغلق الأجواء وتفتح جبهة الاقتصاد .. الكيان الصهيوني تحت الحصار الجوي
  • اعلام الاحتلال: تراجع في شحنات ميناء الخليج وأحواض السفن في حيفا بعد التهديد اليمني
  • الجولان في قبضة الاحتلال.. كيف يغذّي الاستيطان أطماع الكيان الصهيوني؟
  • اليمن يستهدف عمق الكيان ب 41 صاروخا باليستيا
  • من صنعاء إلى موسكو .. التكتيك اليمني يتحول إلى نموذج عالمي في مواجهة الجيوش التقليدية
  • حصار اليمن ينهك الاقتصاد الصهيوني.. خبراء: العمليات العسكرية تُفكك منظومة كيان العدو من الداخل