رحلة ترامب للمنطقة العربية.. تساؤلات حول التكلفة والعائد
تاريخ النشر: 28th, May 2025 GMT
لم تكن زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأخيرة إلى دول الخليج هذا الشهر مجرد حدث دبلوماسي عابر، بل كانت إعلانا صريحا عن مرحلة جديدة في العلاقات الأمريكية-العربية في ظل ولايته الرئاسية الثانية. بعد أشهر قليلة من عودته إلى البيت الأبيض، اختار ترامب المنطقة العربية لتكون إحدى محطاته الخارجية المبكرة، في رسالة تعكس أولوياته الجيوسياسية وحساباته الاقتصادية.
أما أجندة ترامب المعلنة للزيارة، فتضمنت تعزيز التعاون الاقتصادي والأمني، وتوسيع اتفاقيات أبراهام للتطبيع، ومواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة. لكن يبدو أن هناك أجندة غير معلنة ترتبط بالسياسة الداخلية الأمريكية، إذ يسعى ترامب لتحقيق انتصارات خارجية مبكرة تعزز شعبيته داخليا، وتظهره كرئيس قادر على إبرام صفقات كبرى تخدم المصالح الأمريكية، خاصة في ظل التحديات الاقتصادية المتنامية والانقسام السياسي الحاد داخل الولايات المتحدة.
تأتي هذه الزيارة في لحظة فارقة تشهد فيها المنطقة تحولات عميقة واستقطابات حادة، وبينما احتفت بها الأوساط الرسمية في دول الخليج باعتبارها تتويجا للعلاقات الاستراتيجية مع واشنطن، أثارت تساؤلات جوهرية حول حجم المكاسب الحقيقية التي ستجنيها هذه الدول مقابل التكاليف الباهظة -ماليا وسياسيا ومعنويا- التي قد تترتب عليها.
في هذا المقال، نسعى لتقديم تساؤلات مشروعة حول حصيلة هذه الزيارة، بعيدا عن التهليل الإعلامي المبالغ أو النقد المتشائم المطلق.
تحيط بالزيارة معطيات جيوسياسية معقدة، أبرزها استمرار التوترات في المنطقة والتنافس المحتدم بين القوى العالمية على النفوذ. فالصراع في غزة وتداعياته الإقليمية، والتوترات المتصاعدة مع إيران، والتنافس الروسي-الصيني-الأمريكي على مناطق النفوذ في الشرق الأوسط، كلها عوامل شكلت الخلفية الاستراتيجية للزيارة. كما أن الاضطرابات في أسواق الطاقة العالمية الناجمة عن الصراعات المختلفة، دفعت ترامب للتركيز على تأمين إمدادات النفط واستقرار أسعاره كأولوية قصوى لاقتصاد بلاده.
أما عن تكاليف الزيارة اقتصاديا فقد تم إبرام صفقات واتفاقيات مالية ضخمة غير مسبوقة في تاريخ العلاقات العربية-الأمريكية، بلغت قيمتها الإجمالية أرقاما فلكية تفوق التوقعات، حيث وقّع الأمير محمد بن سلمان مع الرئيس الأمريكي اتفاقية الشراكة الاقتصادية الاستراتيجية، التي تضمنت التزامات سعودية بقيمة 600 مليار دولار، بينما بلغت اتفاقات قطر التزامات تتجاوز 1.2 تريليون دولار وفقا لبيان البيت الأبيض، وقد أعلن محمد بن زايد أن بلاده ستستثمر 1.4 تريليون دولار في الولايات المتحدة على مدى السنوات العشر المقبلة.
بحساب بسيط، تتجاوز قيمة الالتزامات والاستثمارات المعلنة من الدول الثلاث 3.2 تريليون دولار، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ العلاقات العربية-الأمريكية. ويثير هذا الحجم الهائل من الالتزامات المالية تساؤلات جوهرية حول تأثيرها على اقتصادات دول المنطقة
لم تقتصر تكلفة زيارة الرئيس الأمريكي على الجانب المالي فحسب، بل تعدتها إلى تكاليف سياسية ومعنوية قد تكون أكثر تأثيرا على المدى البعيد. فقد شهدت الزيارة تجاهلا شبه كامل للقضية الفلسطينية في البيانات الرسمية المشتركة، مع التركيز على السلام الإقليمي وتوسيع اتفاقيات أبراهام دون الإشارة إلى الحقوق الفلسطينية، كما أن الزيارة أسفرت عن التزامات من دول الخليج بالضغط على الفصائل الفلسطينية للقبول بمبادرة سلام جديدة لا تلبي الحد الأدنى من المطالب الفلسطينية التاريخية.
وقد أدت الزيارة إلى تعميق الانقسامات بين الدول العربية، إذ اقتصرت على ثلاث دول خليجية فقط، مما خلق شرخا واضحا في الموقف العربي، حيث عززت الزيارة نهج المحاور في المنطقة وقسمت الدول العربية إلى فئتين: حلفاء مقربين للولايات المتحدة، ودول أخرى أقل حظوة.
كما عززت الاتفاقيات الضخمة التي وُقعت خلال الزيارة حالة التبعية السياسية والاستراتيجية للولايات المتحدة، والذي جاء على حساب تنويع العلاقات الدولية، مما يضع دول المنطقة في موقف صعب مع قوى عالمية صاعدة مثل الصين وروسيا، مما قد يؤثر على مصالح هذه الدول مع القوى الصاعدة، خاصة في مجالات الطاقة والتجارة والاستثمار، ويجعلها رهينة للتقلبات في السياسة الأمريكية التي قد تتغير جذريا مع كل انتخابات رئاسية.
وقد شكل الملف الإيراني أحد المحاور الرئيسية للزيارة، حيث ضغط ترامب على دول الخليج لتبني موقف أكثر تشددا تجاه إيران، مما ينذر بتوتر إقليمي متزايد قد يكون له تداعيات خطيرة على أمن المنطقة.
وهذه تساؤلاتنا المشروعة..
أولا: تساؤلات اقتصادية
هل تتناسب الاستثمارات الضخمة في الاقتصاد الأمريكي مع استراتيجيات التنويع الاقتصادي طويلة المدى التي تتبناها دول الخليج للتحرر من الاعتماد على النفط، أم أنها ستكرس الاعتماد على عائدات النفط لتمويل هذه الاستثمارات؟
ألا يمثل توجيه مئات المليارات من الدولارات للاقتصاد الأمريكي تفويتا لفرص استثمارية أكثر جدوى في الاقتصادات المحلية أو الإقليمية؟
كيف ستتأكد الدول العربية من أن الالتزام الأمريكي بتوطين 50 في المئة من أنشطة التصنيع والصيانة العسكرية سيشمل تقنيات جوهرية وليس مجرد عمليات تجميع ثانوية؟
كيف ستتعامل الاقتصادات العربية مع خطر الانكشاف الاستراتيجي في حال تعرضت استثماراتها في الولايات المتحدة للتجميد أو المصادرة بسبب أزمات سياسية مستقبلية، خاصة في ظل الضبابية القانونية التي تحيط بقانون جاستا وغيره من التشريعات الأمريكية؟
كيف ستؤثر الاتفاقيات الاقتصادية مع واشنطن على قدرة الدول العربية على الانضمام إلى مبادرة الحزام والطريق الصينية والاستفادة من الفرص الاستثمارية والتجارية التي توفرها، وهل ستواجه ضغوطا أمريكية للحد من التعاون الاقتصادي مع بكين؟
كيف ستؤثر تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي على طبيعة التعاون الاقتصادي بين الطرفين، وهل ستعزز الشراكة أم ستعمق الفجوة التكنولوجية؟
كيف سيؤثر الالتزام بالشراء من السوق الأمريكية على برامج التكامل الاقتصادي العربي وجهود تطوير الصناعات المحلية البينية التي تنادي بها المنظمات العربية المشتركة؟
لماذا تغيب المشاريع المشتركة في مجالات البحث العلمي والابتكار عن أجندة التعاون، رغم أنها أساس بناء اقتصاد المعرفة المستدام؟
لماذا يغلب على هذه الصفقات الطابع الاستهلاكي (شراء أسلحة ومعدات) على حساب الاستثمارات الإنتاجية التي تضيف قيمة مستدامة للاقتصادات المحلية؟
ما مدى واقعية توقعات العائد المالي من الاستثمارات في الاقتصاد الأمريكي مقارنة بالفرص البديلة في الأسواق الناشئة أو في تطوير البنى التحتية المحلية؟
ما هو التأثير المتوقع للصفقات العسكرية الضخمة على المديونية العامة للدول العربية؟ وهل ستكون قادرة على الوفاء بالتزامات الدفع في ظل تقلبات أسعار النفط وتحديات التنويع الاقتصادي؟
ما هي الاستراتيجيات المخطط لها لضمان بقاء الفوائد الاقتصادية داخل المنطقة بدلا من تسربها للخارج، خاصة في ظل تقديرات تشير إلى أن نسبة كبيرة من عوائد الصفقات العسكرية والاقتصادية يعاد تدويرها خارج اقتصادات المنطقة؟
ما هي الآليات العملية لتحويل الوعود بخلق آلاف الوظائف إلى فرص عمل حقيقية ونوعية تتناسب مع احتياجات سوق العمل المحلية وخصائص البطالة في دول المنطقة؟
ما هي الآليات الفعلية لضمان نقل التكنولوجيا المتقدمة من الشركات الأمريكية، خاصة في ظل القيود القانونية الأمريكية على تصدير التكنولوجيا الحساسة والقوانين الصارمة لحماية الملكية الفكرية؟
ما هي الشروط غير المعلنة لهذه الاتفاقيات الاقتصادية، وهل تتضمن قيودا على العلاقات التجارية للدول العربية مع منافسي الولايات المتحدة كالصين وروسيا؟
ما هي آليات تحديد أسعار الصفقات العسكرية، وهل تتم وفق أسعار السوق العالمية أم أنها تخضع لاعتبارات سياسية؟ وكيف يمكن قياس القيمة مقابل المال في الصفقات العسكرية الضخمة؟
ماذا تعني المعاملة التفضيلية للاستثمارات العربية في الاقتصاد الأمريكي، وما هي مزاياها الكمية على المستوى التطبيقي مقارنة بالاستثمارات الأجنبية الأخرى؟
هل تتوافق برامج التدريب والتوظيف المقترحة في الاتفاقيات مع خطط توطين الوظائف (السعودة، التوطين، التمصير) التي تتبناها الدول العربية، أم أنها ستعيد إنتاج نماذج اقتصادية تعتمد على الخبرات الأجنبية؟
هل تمثل هذه الاتفاقيات حقا شراكة اقتصادية متكافئة، أم أنها تكرس نمطا من العلاقة غير المتوازنة القائمة على الاستهلاك وليس الإنتاج، على التبعية وليس الشراكة؟
هل يمكن للدول العربية الاستفادة من التنافس بين القوى الاقتصادية العالمية لتحصيل شروط أفضل في اتفاقياتها الاقتصادية، بدلا من الاعتماد المفرط على شريك واحد مهما كان حجمه؟
ثانيا: تساؤلات سياسية
إلى أي مدى تتسق المكاسب السياسية المعلنة مع تطلعات الرأي العام العربي وأولوياته، وما مدى استعداد الحكومات لتجسير الفجوة بين الموقفين الرسمي والشعبي؟
إلى أي مدى ستؤثر التنازلات في القضية الفلسطينية على المكانة الرمزية والمعنوية للدول العربية، سواء عند شعوبها أو في العالم الإسلامي؟
إلى أي مدى يمكن اعتبار عدم التدخل الأمريكي في الشؤون الداخلية مكسبا سياسيا حقيقيا، أم أنه مجرد تكتيك مرحلي قد يتغير مع تغير المصالح الأمريكية؟
كيف ستتعامل الأنظمة العربية مع الضغوط المحتملة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل كشرط ضمني للدعم الأمريكي، وما هي الخطوط الحمراء التي لن تتنازل عنها في هذا الملف؟
كيف ستوازن الأنظمة العربية بين سعيها للحصول على الدعم الأمريكي وبين ضرورة الحفاظ على مصداقيتها أمام شعوبها التي لا تزال تنظر بعين الريبة للسياسات الأمريكية في المنطقة؟
كيف ستؤثر التحالفات الجديدة مع واشنطن على مواقف الدول العربية في المنظمات الدولية ومدى استقلاليتها في التصويت على القضايا المختلفة في الأمم المتحدة ومجلس الأمن والمنظمات الإقليمية؟
كيف سيتم موازنة الرغبة في الدعم الأمريكي مع الحاجة إلى الاستقلالية في القرار في القضايا المصيرية التي تمس الأمن القومي العربي؟
كيف يمكن تفسير الازدواجية في الخطاب الأمريكي بين دعم الديمقراطية وتجاهل قضايا الحقوق والحريات في دول المنطقة عند عقد الصفقات الاقتصادية والعسكرية الكبرى؟
كيف يمكن تقييم المكسب السياسي المتمثل في كبح النفوذ الإيراني، في مقابل مخاطر تصعيد الصراع الإقليمي وتحويل المنطقة إلى ساحة مواجهة؟
ما مدى تأثير الصفقات العسكرية الضخمة على معادلات القوة داخل المنطقة العربية نفسها، وهل ستؤدي إلى خلق اختلالات في موازين القوى بين الدول العربية؟
ما هي آثار انحياز دول المنطقة للمعسكر الأمريكي على علاقاتها مع قوى عالمية صاعدة مثل روسيا والصين، خاصة في ظل التنافس الجيوسياسي المتصاعد؟
ما هي تداعيات التحالف مع إدارة أمريكية متقلبة السياسات على استقرار المنطقة على المدى البعيد، في ظل الانسحابات الأمريكية المفاجئة من مناطق مختلفة كما حدث في أفغانستان وشمال سوريا؟
هل تعكس الزيارة نموذجا للشراكة الاستراتيجية المتكافئة، أم إعادة إنتاج لعلاقة الراعي والتابع التي طالما انتقدتها حركات التحرر العربية؟
هل تم التفكير في خطط بديلة في حال تغير السياسة الأمريكية بشكل جذري مع الإدارات المستقبلية، أم أن الاعتماد سيكون كليا على استمرار السياسة الحالية؟
هل تمثل الضمانات الأمنية الأمريكية بديلا فعالا عن بناء نظام أمن إقليمي مستقل، وما هي تكلفة كل منهما سياسيا واقتصاديا؟
هل ستؤدي الزيارة إلى تعزيز التنسيق العربي المشترك، أم أنها ستكرس نمط العلاقات الثنائية المباشرة مع واشنطن على حساب العمل العربي الجماعي؟
هل يمكن لدول المنطقة الحفاظ على علاقات متوازنة مع المعسكرين الأمريكي والصيني في آن واحد، أم أن نموذج الحرب الباردة الجديدة سيفرض عليها اختيار معسكر واحد؟
ثالثا: تساؤلات اجتماعية وثقافية
كيف يمكن تحقيق التوازن بين الانفتاح على الثقافة الغربية والحفاظ على الخصوصية الثقافية والقيمية للمجتمعات العربية؟
ما هي الآثار الاجتماعية والثقافية للانفتاح المتسارع على النموذج الأمريكي، وهل تم إجراء دراسات مجتمعية لتقييم هذه الآثار قبل توقيع الاتفاقيات؟
هل تتضمن الاتفاقيات آليات لحماية اللغة العربية من التراجع أمام زحف اللغة الإنجليزية في مختلف مجالات الحياة العلمية والثقافية والاقتصادية؟
ما هي الضمانات لمنع تحول التعاون الأكاديمي إلى استنزاف للكفاءات العربية وهجرة للعقول نحو المؤسسات الأمريكية؟
كيف ستواجه الدول العربية تحدي التصدع القيمي الذي قد ينشأ بين الأجيال نتيجة للتغيرات الثقافية المتسارعة؟
ما هي آليات تعزيز المناعة الثقافية لدى الأجيال الناشئة في مواجهة الاختراق الثقافي المصاحب للانفتاح الاقتصادي؟
ما هي آثار الاتفاقيات الاقتصادية ثقافيا وهل نضمن تصحيحا لصورة العرب والمسلمين في المناهج الأمريكية، أم أن التركيز سينصب على تحديث المناهج العربية؟
كيف ستؤثر الاتفاقيات على دور المؤسسات الدينية والتقليدية في المجتمع، في ظل تنامي الخطاب الداعي للحداثة والتحديث؟
هل تمت استشارة النخب الثقافية والتربوية والدينية المحلية في ضمان الآثار الثقافية، أم أنها صممت وفق رؤى سياسية واقتصادية بحتة؟
ما هي البدائل المقترحة لتحقيق التنمية الثقافية من خلال تعزيز التبادل بين الثقافات العربية نفسها، بدلا من الاعتماد المفرط على النموذج الغربي؟
هذه التساؤلات المشروعة موجهة للأنظمة والنخب وأيضا الشعوب، متمنيا كل خير لأمتنا العربية والإسلامية.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء الأمريكي ترامب الخليج الاقتصادية صفقات اقتصاد الخليج أمريكي صفقات ترامب مدونات مدونات قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مدونات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الولایات المتحدة الدول العربیة للدول العربیة دول المنطقة دول الخلیج فی المنطقة خاصة فی ظل مع واشنطن کیف ستؤثر کیف یمکن أم أنها
إقرأ أيضاً:
الإدارة الأمريكية..المصداقية في مهب الريح
بعد مرور ستة أشهر على إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وظهور ملامح السياسة الخارجية في عدد من الملفات وخاصة القضايا العربية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية وحرب الإبادة التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي فإن هناك سؤالا مهما يتعلق بمصداقية هذه الإدارة والتناقضات التي ظهرت في أكثر من ملف.
فيما يخص القضية الفلسطينية فإن الإدارات الأمريكية منذ عام ١٩٤٨ وهي تنحاز إلى الكيان الإسرائيلي لأسباب تتعلق بتأثير اللوبي الصهيوني في واشنطن وقضايا فكرية عديدة مما جعل الكيان يعربد ويشن الحروب على الدول العربية وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني من خلال الاستقواء بالإدارات الأمريكية التي تدعم الكيان بالسلاح والمعونات الاقتصادية والدعم اللوجستي وتبادل الكثير من التقنيات علاوة على المعلومات الاستخباراتية. إذن على مدى عقود أدرك الكيان الصهيوني بأنه يستطيع شن الحروب وانتهاك قوانين الشرعية الدولية وعدم الانصياع لقرارات الأمم المتحدة.
إن الإدارات الأمريكية المتعاقبة ومنها إدارة ترامب هي التي جعلت الكيان يقوم بكل تلك الأفعال الوحشية ضد الشعب الفلسطيني، وهو الأمر الذي جعل نتنياهو وحكومته المتطرفة يتمادون في ارتكاب الأعمال الإجرامية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة وعموم فلسطين لأن الكيان يدرك بأن واشنطن سوف تقف مع الكيان الصهيوني ضد أي قرار يدين إسرائيل في مجلس الأمن الدولي، علاوة على تقديم الدعم العسكري بل وتهديد الدول التي تنشد الإنصاف والعدالة للشعب الفلسطيني. كما أن الإدارة الأمريكية الحالية قد أعطت الضوء الأخضر كي يواصل نتنياهو المجازر البشعة التي يندى لها جبين الإنسانية حيث يعاني مليونا فلسطيني في القطاع من شبح المجاعة ،خاصة الأطفال والنساء وكبار السن، حيث فقدت الكثير من الأرواح.
منذ دخوله البيت الأبيض في العشرين من يناير الماضي يواصل الرئيس الأمريكي ترامب تصريحاته المتناقضة، ولعل أكثر تلك التصريحات والتي دخلت مفهوم الخداع الاستراتيجي هو أن المفاوضات الأمريكية الإيرانية كانت تجري بشكل جيد بعد مرور خمس جولات ناجحة في كل من مسقط وروما، حيث لعبت الديبلوماسية العمانية دورا محوريا لخفض التصعيد والتوتر في المنطقة والتوصل إلى حل عادل ومنصف وملزم في قضية الملف النووي الإيراني، وفي لحظة أدهشت العالم شن الكيان الصهيوني الحرب غير المسوغة على الجمهورية الإسلامية الإيرانية ودخلت المنطقة والعالم في أجواء الحرب وما ترتب عليها من مشكلات كبيرة. والسؤال الموضوعي هنا هل يمكن أن يقدم نتنياهو على شن الحرب على إيران دون التنسيق مع الرئيس الأمريكي ترامب؟ الإجابة هو أن الكيان الصهيوني لا يقدم على أي خطوة دون التشاور مع واشنطن ومع ذلك لم يراع ترامب مناخ المفاوضات الإيجابي بل استخدم الخداع الاستراتيجي وانحدر إلى سلوك لا يليق بالرئيس الأمريكي الذي يقود أقوى دولة في العالم وتقود النظام الدولي الأحادي. وتكرر الخداع الاستراتيجي مرة أخرى في ضربة عسكرية غير متوقعة أقدمت عليها إدارة ترامب بقصف المفاعلات النووية السلمية الإيرانية دون وجود قرار دولي وهو قصف غير مبرر وله تداعياته الخطيرة.
وعلى ضوء ذلك فإن الستة الأشهر الأولى من فترة إدارة ترامب تميزت بالتناقضات والمواقف التي لا تتسم بالمصداقية والنزاهة حيث الدعم اللامحدود لنتنياهو الذي صدرت بحقة مذكرة اعتقال من محكمة الجنايات الدولية باعتباره مجرم حرب، علاوة على المظاهرات الشعبية داخل الولايات المتحدة الأمريكية التي تطالب ترامب بوقف المجازر التي ترتكبها إسرائيل على مدى ٢٢ شهرا، ومع ذلك تصدر تصريحات متناقضة من ترامب حول أهمية توصيل المساعدات لسكان القطاع، وفي الوقت نفسه يغض الطرف عن جرائم الاحتلال بل ويعترض على نية الحكومة الفرنسية الاعتراف بدولة فلسطين خلال انعقاد أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر القادم في مدينة نيويورك.
ويتكوف مبعوث الرئيس الأمريكي ترامب للشرق الأوسط وبعد موافقة حركة حماس وبقية الفصائل الفلسطينية على الاتفاق مع الوسطاء مصر وقطر خرج بتصريحات تحمل حماس مسؤولية تعثر المفاوضات، بل وهدد بإخراج المحتجزين من قطاع غزة من خلال طرق أخرى، وتخلى ويتكوف عن استغلال فرصة التوافق والتوقيع على الاتفاق بين الكيان الإسرائيلي وحركة حماس وإنهاء معاناة الشعب الفلسطيني.
كما أن الرئيس الأمريكي ترامب هدد الدول التي تتعاون مع دول بريكس بمزيد من الرسوم التجارية، وعلى ضوء ذلك كيف يمكن تخيل أن تكون الولايات المتحدة الأمريكية وسيطا نزيها حول القضية الفلسطينية وهي تتناقض في سلوكها والتصريحات؟ وأعطت نتنياهو وحكومته المتطرفة المزيد من الوقت حيث معاناة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة حيث كارثة الجوع.
ولا شك أن الموقف الفرنسي بالاعتراف بدولة فلسطين هو موقف إيجابي ومقدر وعلى باقي الدول الغربية كبريطانيا وألمانيا أن تتخذ الخطوة نفسها. كما أن المؤتمر الدولي حول فلسطين الذي عقد مؤخرا في نيويورك حول أهمية حل الدولتين يعد هو الإطار الصحيح الذي ينبغي على إدارة ترامب أن تدعمه. إن الصراع في الشرق الأوسط لن ينتهي ولن يكون هناك استقرار أو أمن للكيان الإسرائيلي حتى قيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود عام ١٩٦٧ وعاصمتها القدس الشرقية. هذا هو الحل السياسي الصحيح والواقعي وعلى الولايات المتحدة الأمريكية إذا كانت تنشد السلام الشامل لإسرائيل والمنطقة أن تضغط على الكيان الإسرائيلي للقبول بحل الدولتين. إن نضال الشعب الفلسطيني سوف يتواصل ولا يمكن للكيان المحتل أن ينعم بالسلام طالما يواصل احتلال الأراضي الفلسطينية ويحرم الشعب الفلسطيني من حقوقه المشروعة التي أقرتها الأمم المتحدة والشرعية الدولية، ومن هنا فإن الإدارة الأمريكية ومن خلال سلوكها السياسي الداعم لسياسة نتنياهو تكون مشاركة في المأساة الإنسانية وتخلت عن دورها القيادي في العالم ويكون ترامب قد أخل بوعوده الانتخابية حول ضرورة إنهاء الحروب في الشرق الأوسط والعالم والتفرغ للتعاون الاقتصادي.
لقد انكشف الكيان الصهيوني بشكل فاضح أمام المجتمعات الغربية واصبح الكيان منبوذا، وعدد من قيادته مطلوب للعدالة والبعض الآخر غير مرغوب في دخوله لعدد من الدول الغربية. كما أن الإدانات من منظمات حقوق الإنسان ومن منظمات الإغاثة واضحة ضد الكيان الصهيوني الغاصب، والذي يعد أبشع احتلال عرفه التاريخ الحديث بارتكابه جرائم بشعة ضد الشعب الفلسطيني والشعوب العربية خلال سبعة عقود.
إن أمام الإدارة الأمريكية مسؤولية أخلاقية وقانونية وإنسانية لوقف مجازر الاحتلال وضرورة وقف تلك المأساة التي تنقل للعالم عبر شاشات التلفزة وشبكات التواصل الاجتماعي حول العالم، ومن المعيب أن تتفرج دولة عظمى كالولايات المتحدة على تلك الإبادة الجماعية، وهي تتشدق بقضايا حقوق الإنسان والحريات والعدالة والمساواة والتي ينص على دستور الولايات المتحدة الأمريكية. كما أن الكونجرس الأمريكي عليه التزام أخلاقي، وهناك عدد من أصوات النواب تدين سلوك الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة . كما أن المجتمع المدني في الولايات المتحدة الأمريكية يقوم بدور إيجابي في فضح الممارسات الإجرامية الإسرائيلية.
ويمكن القول ومن خلال متابعة لإدارة ترامب بأن التناقض السياسي هو سيد الموقف وأن استخدام الخداع الاستراتيجي هو من السقطات الكبيرة التي لا تليق بسياسة دولة عظمى ينبغي أن يكون لها دور منصف وعادل يتماشى مع الأسس التي قامت عليه الدولة الأمريكية والآباء المؤسسون. الولايات المتحدة الأمريكية ينبغي أن لا تقبل بأن يورطها الكيان الصهيوني في مواقف متناقضة ويضعها في مواجهة أخلاقية وقانونية حتى مع الشعب الأمريكي، وحتى إذا كانت هناك مصالح كبيرة وتعاطف أمريكي تاريخي مع الكيان الصهيوني لكن هذا لا يعني السير بشكل ممنهج وغير عقلاني مع ممارسات نتنياهو وحكومته المتطرفة، أو إذا كان ترامب يعترف بان ما يحدث في قطاع غزة للشعب الفلسطيني هو أمر فضيع ولا يحتمل، فإن عليه أخذ الخطوة الشجاعة لوقف تلك الحرب لإنقاذ ملايين الأرواح، أما إذا كانت تلك التصريحات تدخل في إطار التناقض الذي يواصله منذ ست أشهر فإن إدارته تكون قد سجلت فشلا كبيرا في إدارة ملفات السياسة الخارجية لتقع الإدارة الأمريكية في فخ سياسة نتنياهو المتطرفة التي أصبحت عدد من الدول الغربية تتنصل منها وتدعو إلى إدانتها. المبعوث الأمريكي ويتكوف بدلا من بذل جهوده الديبلوماسية لإنهاء الحرب في قطاع غزة وإنهاء الكارثة الإنسانية والإبادة الجماعية التي يرتكبها الكيان الصهيوني بدا بتصريحات مستفزة يتحدث فيها عن خطط التطبيع والسلام المزعوم وهو تناقض صارخ لا يتماشى مع المناخ المتوتر في المنطقة. وعلى ضوء ذلك فإن الجهود الديبلوماسية لا بد أن تتواصل حتي الوصول إلى اتفاق ينهي الحرب وأكبر المآسي الإنسانية في قطاع غزة التي شاهدها العالم وهو في حالة ذهول من كم الحقد والكراهية والإجرام التي يحملها نتنياهو وعصابته المتطرفة.