د. نسيمة بنت محمد المشيخية

تذكر بعض الروايات أن فرعون مصر لم يصب بمرض لسنوات طويلة، فظنَّ نفسه فوق البشر، وتمكن منه الغرور حتى قال: "أنا ربكم الأعلى".

ويُفهم غالبًا أن هذه الرواية عبرة رمزية على أن الله سبحانه قد يُمهل الظالم ويؤخر عنه الابتلاء؛ ليزداد طغيانًا ويشعر بالقوة المطلقة، ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر.

وإن لم تثبت هذه الرواية نصًا، إلّا أن رمزيتها تُلهمنا بعظة بالغة: ليس كل نعمةٍ نعمةً، فدوام الصحة والقوة إذا لم يُقابل بتواضع وشكر، قد يتحول إلى استدراج خفي يقود إلى الهلاك؛ فالمرض الذي نراه ابتلاءً، قد يكون رحمة توقظ القلب، وتُعيد الإنسان إلى حجمه الحقيقي، وتمنعه من السقوط في وهم الكمال، وفرعون، كما تصوّره الرواية، لم يُبتلَ، فلم يتوقف، ولم يتفكر، ولم يتواضع… فهلك بطغيانه لا بضعفه.

هنا استوقفني المثل المصري الذي يقول: "سألوا فرعون: إيه فرعنك؟ قال: ما لقيتش حد يردني"، ويقال أيضًا بصيغة: "قال: لقيت الناس فرعنوني"، وهو مثل شعبي دارج يُستخدم للتعبير عن أن الطغيان أو التسلُّط لا يظهر فقط من فرعون نفسه؛ بل من سكوت الناس أو خضوعهم له، وهذا تحذير غير مباشر من خطورة الاستسلام؛ إذ إنَّ التاريخ لا يرحم المجتمعات، ولا الأُسر التي صنعت طُغاتها بأيديها ثم اشتكت من بطشهم.

في المجتمعات التي ينتشر فيها الظلم، لا يكون الطغيان نتاج فرد واحد فقط؛ بل هو انعكاس لبيئة اجتماعية تسمح له بالنمو والتمدد. وهناك 3 حقائق رئيسية تشرح كيف يتحوَّل الظلم إلى نظام، والطاغية إلى نتيجة طبيعية للصمت والخضوع:

السكوت على الظلم يشجع الظالم على التمادي؛ فحين يتعرض الإنسان للظلم ولا يعترض أو يُدافع عن حقه، فهو يرسل رسالة غير مباشرة بأنَّ ما حدث مقبول، أو على الأقل لن يُواجَه برد فعل. هذا السكوت يُشجع الظالم على التوسع في ظلمه، ويجعله أكثر جرأة وعدوانًا وبمرور الوقت، يصبح هذا الظلم أمرًا مألوفًا ومقبولًا اجتماعيًا، ويكفّ النَّاس عن مقاومته، مما يُنتج دورة مفرغة من التسلط والرضوخ. الخوف أو التملق قد يُحوّل الفرد إلى طاغية؛ إذ لا يُولَد الفرد طاغية؛ بل يتحول إلى طاغية عندما يُحاط بأشخاص يخافون منه أو يتملقونه بدافع المصلحة فالمديح الزائف، وكتم النقد، وتزيين الواقع، كل ذلك يغذي غرور الفرد ويبعده عن نبض الناس، ومع مرور الوقت، يفقد هذا القائد القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ، ويبدأ في تصديق أنه فوق المساءلة، فيتمادى في الاستبداد. الطغيان لا ينشأ من شخص واحد؛ بل من بيئة تسمح له بالتمدد. الطغيان ليس مرضًا شخصيًا، بقدر ما هو نتيجة خلل جماعي فالبيئة التي تفتقر إلى مؤسسات رقابية، والتي يُقصى فيها صوت العقل، وتُكبت فيها حرية التعبير، هي تربة خصبة للطغاة، حين يسود الخوف على الحرية، والتبعية على المشاركة، ويتحول المجتمع إلى مساحة مفتوحة للسلطة المطلقة، ويصبح الطغيان نظامًا لا فردًا فقط.

وتأثير الطغيان لا يتوقف على الطاغية وحده؛ بل يُدمّر المجتمع بأكمله؛ حيث إنه يزرع الخوف بدل الثقة؛ حيث فيسكت المظلوم، ويتكلم المنافق، وتُكافأ السلبية، ويقتل روح المبادرة؛ إذ يخشى الناس الإبداع أو النقد، فتجفّ منابع التطور. كما إن الطغيان يُفسد القيم؛ فيُمدَح الخنوع، ويُهاجم الصدق، ويضيع الحق. أيضًا الطغيان يُقسِّم المجتمع، من خلال زرع الشك والتخوين، وتفكيك وحدة الناس، علاوة على أنه يُطفئ الأمل، حين يُكافأ الظالم ويُقمع الشريف، يفقد الناس إيمانهم بالتغيير.

وهكذا، لا يقتل الطغيان شخصًا واحدًا؛ بل يُخنق به وطنًا بأكمله، ومن الواجب والحصن الأول ضد أي طغيان إذا كان ينمو في بيئة من الخوف والصمت، فإن الوعي هو الجدار الأول الذي يَحول دون تمدده.

الواجب الأساسي على المجتمع دعم مؤسسات الرقابة والمساءلة في كل وقت وحين وتفعيل دوره، والواجب الشخصي على كل فرد في المجتمع رفض الظلم بكل اشكاله، وإعلاء العدالة، وتجنب تمجيد الظالم والسعي لإعادته إلى حجمه الحقيقي، ولا يعود الإنسان إلى حجمه الحقيقي إلا بإدراك الضعف والمحدودية وأنه عابر في هذه الحياة؛ ليفهم أنه فَانٍ لا خالد، بالتنشئة الوالدية على التواضع لا الغرور؛ فالعظمة الأساسية في الأخلاق لا في السلطة، بالرقابة المستمرة والمحاسبة فالعقوبة تردع الغرور وتعيد الإنسان إلى الواقع، بزرع الوعي لا الخوف، وبالإيمان الحقيقي؛ فالسجود لله يُسقط وهم الألوهية الذاتية، فحين يعرف الإنسان حجمه وقدره ويفهم نفسه لا يطغى، ولا يتعالى، ولا يهلك بكبره، فالطغيان لا يُولد فجأة، بل يُربّى بصمت الناس، ويكبر بخوفهم، ويتضخم بتواطؤهم.

وأخيرًا.. إنَّ مقاومة الظلم تبدأ بكلمةٍ، بموقفٍ، باعتراضٍ، وبناء مؤسسات تحمي الحق وتكبح الطغيان، ولنعلم أن حفظ كل فرد ضميرَه، حُفظٌ للوطن.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

“داخلية غزة” : العدو الصهيوني يصنع الفوضى ويرعى شبكات لصوص المساعدات

الثورة نت/..

حمّلت وزارة الداخلية والأمن الوطني في قطاع غزة، اليوم الخميس، العدو الصهيوني المسؤولية عن نشر الفوضى في القطاع، ورعايته لشبكات اللصوص والبلطجية في السيطرة على شاحنات المساعدات.

وقالت الوزارة، في بيان، إن العدو الصهيوني يهدف من ذلك إلى حرمان أكثر من 2 مليون فلسطيني من الحصول على المساعدات بطريقة آمنة، لكي تستمر المجاعة في القطاع، في محاولة مكشوفة من العدو لإعفاء نفسه من المسؤولية القانونية في استخدام التجويع كسلاح في وقت الحرب.

وأوضحت أن العدو الصهيوني ينتهج سياسة لهندسة التجويع للشعب الفلسطيني، وصناعة فوضى المساعدات الإنسانية، عبر السماح بدخول محدود للمساعدات في ظل اشتداد المجاعة التي يعاني منها الفلسطينيون، وحصار مشدد ومنع تدفق المواد الغذائية الأساسية منذ شهر مارس الماضي.

ولفتت “داخلية غزة” إلى أن العدو الإسرائيلي يتبع سياسية استهداف منتسبي أجهزة الوزارة أثناء القيام بواجبهم في تأمين شاحنات المساعدات التي تشرف على توزيعها المؤسسات الدولية، كي لا تصل إلى مستحقيها بطريقة آمنة، وبذلك تستمر مظاهر الفوضى.

وأضافت: “أمام هذه السياسة الإجرامية التي استمرت خلال الشهور الماضية، آثرنا أن نعطي المساحة لمبادرات محلية كي تقوم بدورها في تأمين شاحنات المساعدات لدحض مبررات الاحتلال واتهاماته الكاذبة”.

وأشارت إلى أنه كان آخرها الدور الذي قامت به العائلات والعشائر في القطاع، غير أن العدو الإسرائيلي أقدم على استهداف شباب العشائر والعائلات الفلسطينية التي أخذت على عاتقها القيام بهذا الواجب، وارتقى منهم عشرات الشهداء، ما أحبط مبادرة العشائر والعائلات في القيام بدورها المجتمعي في هذه الظروف المعقدة.

ذكرت وزارة الداخلية بغزة، أن “العدو لم يرق له أي مظهر من مظاهر النظام في مجتمعنا بقطاع غزة، ويعمد على الفور لإفشال كل محاولات ومبادرات إحلال النظام بغض النظر عن الجهة التي تقوم بذلك، في مسعى واضح لإبقاء حالة الفوضى هي السائدة في القطاع”.

ولفتت إلى أن سماح العدو بدخول عدد قليل من شاحنات المساعدات وسيطرة اللصوص والبلطجية عليها برعاية العدو، لا يغير من واقع المجاعة المنتشرة في قطاع غزة شيء.

ودعت المجتمع الدولي لممارسة أقصى درجات الضغط على العدو الإسرائيلي من أجل وقف استهداف الطواقم المدنية المكلفة بتأمين خط سير شاحنات المساعدات، والسماح بتدفقها بكميات كافية وتوزيعها عبر مؤسسات الأمم المتحدة صاحبة الخبرة الطويلة في هذا المجال؛ كي تصل إلى مستحقيها.

وأفادت وزارة الداخلية، بأن سياسة العدو في رعاية اللصوص والبلطجية للسطو على شاحنات المساعدات، دفع عشرات آلاف المواطنين للنزول إلى الشوارع والاضطرار لقطع مسافات طويلة جداً وتعريض أنفسهم للخطر في محاولة لسد جوع أطفالهم، ما يتسبب بتلف جزء من تلك المساعدات بسبب التدافع والزحام.

وأوضحت أن ذلك جاء في الوقت الذي يقوم فيه العدو باستهدافهم بشكل مباشر وارتكاب المجازر بقتل العشرات يومياً قرب المسارات المؤدية لدخول المساعدات، كما جرى أمس واليوم من مجازر في شمال القطاع ووسطه وجنوبه.

وأكدت أن ادعاء العدو الإسرائيلي بتوزيع المواد الغذائية من خلال ما يسمى “مؤسسة غزة الإنسانية” سيئة الصيت والسمعة، هو مجرد وهم وخداع للرأي العام، في الوقت الذي يقتل فيه المئات من المواطنين خلال محاولتهم الحصول على ما يسد جوعهم من المؤسسة المذكورة التي أنشأها العدو لأغراض مشبوهة وأهداف أمنية تخدم مخططاته الإجرامية.

وحذرت “داخلية غزة” من استمرار عمليات الإسقاط الجوي للمساعدات لما تمثله من خطورة على حياة المواطنين بسبب الاكتظاظ الشديد وانتشار خيام النازحين في كل مكان، وهي الطريقة التي يريدها العدو لخلق مزيد من الفوضى بركض عشرات الآلاف خلف صناديق المساعدات ووقوع إصابات في الأرواح وأضرار في الممتلكات؛ معتبرة أن ذلك يأتي في إطار تسويق الوهم لخداع الرأي العام العالمي والدولي.

وذكرت أن الشرطة والأجهزة الأمنية ستواصل القيام بواجبها في ملاحقة شبكات اللصوص والبلطجية عملاء العدو، واتخاذ الإجراءات الميدانية المشددة بحقهم في ظل حالة الطوارئ التي نعيشها.

ودعت وزارة الداخلية بغزة، أبناء الشعب الفلسطيني في محافظات قطاع غزة لتجنب التواجد في مسارات دخول شاحنات المساعدات؛ حرصاً على حياتهم ومنعاً للفوضى التي يحاول العدو ترسيخها في المجتمع؛ ولكي يفرض الشعب على العدو تغيير المعادلة ووقف استهداف طواقم التأمين لضمان وصول المساعدات لجميع المواطنين في مناطق سكنهم بطريقة آمنة.

مقالات مشابهة

  • المجتمع الدولي أمام اختبار حقيقي لإيقاف جرائم السعودية بحق المدنيين في المناطق الحدودية
  • صنعاء تحت قبضة الخوف.. اعتقالات حوثية تكشف تصفية حسابات داخلية
  • دياز يصنع هدفاً في الظهور الأول مع بايرن ميونيخ
  • مظاهرات كسر الصمت.. فلسطينيو 48 يرفضون حرب الإبادة والتجويع في غزة
  • البرهان يصنع مفاجأة في حلة كوكو
  • بين الخوف والحاجة: صراع على معبر زيكيم من أجل المساعدات في غزة
  • خصيات اجتماعية: يقظة الشعوب في مواجهة الطغيان مرتكز النهوض الحضاري
  • “داخلية غزة” : العدو الصهيوني يصنع الفوضى ويرعى شبكات لصوص المساعدات
  • القومي لحقوق الإنسان يعقد أول اللقاءات التشاورية مع النشطاء والمنظمات
  • قومي حقوق الإنسان يعقد لقاءً تشاوريًا موسعًا مع النشطاء ومنظمات المجتمع المدني