عربي21:
2025-10-08@07:10:28 GMT

ثغور المرابطة والمرابط.. مشاتل التغيير (21)

تاريخ النشر: 4th, June 2025 GMT

صادف وأنا أكتب سلسلة المقالات حول "مشاتل التغيير" أن كانت المقالة الأخيرة حول عيون الأمة "الحارسة" و"المرابطة"، وقدمت مقاربة العيون التي تبدأ كلها بحرف "العين"، ولكن عالم المصادفات وتدبير إلهي ساقني إلى حضور محاضرتين للكاتب الفيلسوف الكبير الأستاذ الدكتور الشيخ طه عبد الرحمن الذي أمد المكتبة الإسلامية بمشروع فلسفي عميق، وكان من أواخر كتبه ما يتصل بموضوعنا الذي طرقناه في المقال السابق حول "المرابطة" و"ثغور المرابطة".

كانت محاضرته الأولى في إسطنبول "عن الأمة ومعنى الرباط"، ولعل هذا من المصادفات التي أراد به الله وتدبيره أن أعرض عليكم فكرة المرابطة في كتابه هذا.

ولكن قبل الشروع في هذا الواجب علينا أن نعرّف بهذا الكاتب الفيلسوف، والتعريف به من المعرفة، ومن ثم سيكون هذا تقديم معرفي، أكثر منه تعريف يتعلق بشخصه أو بمسيرته العلمية والفلسفية. أستاذنا الشيخ الفيلسوف هو صاحب تخصص في المنطق والفلسفة، وصاحب فقه وفلسفة ولغة، ومن ثم هو يدور في كل ما كتب حول مثلث تخصصه هذا (الفلسفة والمنطق واللغة)، إلا أنه من أهل من الذوق فانطبعت أفكاره بهذه الذائقة اللغوية والعمق الفلسفي والتحديد المنطقي.

قد يأخذ عليه البعض أنه لا يستدل كثيرا بالآيات القرآنية والسنة النبوية، ويقول مال هذا الرجل وقد طغت عليه الفلسفة والمنطق، وهؤلاء لا يفهمون منهج الشيخ الفيلسوف، فالقرآن والاستشهاد به على لسان كل من كتب وألّف، ولكن القرآن بالنسبة له زاد معرفي، ومنجم مفاهيم، وكلماته ومفرداته إذا وقع عليها في القرآن الكريم أخرجها إخراجا في المبنى والمعنى والمغزى، فإذا هي كيان جديد من فلسفة ليست كفلسفة سابقيه أو معاصريه
وهو ضمن عقلية وقيمة في الائتمان، دار معنى الائتمان في تخصصاته تلك، يقف عليها ويرابط فيها ويغنيها بتجديداته الإيمانية، فهو صاحب منهج في القيم والتقويم والتقييم، في طرق أبواب الفلسفة إلا ضمن الجوهر الأخلاقي، وما طرق باب المنطق إلا بحقيقته العقلية والخلقية والقيمية، وطرق أبواب اللغة الائتمانية -إن صح هذا التعبير- فانفتحت له فتوحات المعرفة فتحاور مع الألفاظ واجتنى منها المعاني، وتوقف عند المغازي، ليقدم سبكا جديدا للمعرفة والأفكار، فأضاف في كل ذلك مكنون المعاني، واستثمار المباني، وتفحص المغازي، في سياق روحية قرآنية تتفوق على مسألة الاستدلال بالآيات أو بالأحاديث، بل يقدم سبائك منظومات هي في الأصل موصولة بروح القرآن، متيقنا مرجعيته.

قد يأخذ عليه البعض أنه لا يستدل كثيرا بالآيات القرآنية والسنة النبوية، ويقول مال هذا الرجل وقد طغت عليه الفلسفة والمنطق، وهؤلاء لا يفهمون منهج الشيخ الفيلسوف، فالقرآن والاستشهاد به على لسان كل من كتب وألّف، ولكن القرآن بالنسبة له زاد معرفي، ومنجم مفاهيم، وكلماته ومفرداته إذا وقع عليها في القرآن الكريم أخرجها إخراجا في المبنى والمعنى والمغزى، فإذا هي كيان جديد من فلسفة ليست كفلسفة سابقيه أو معاصريه، وهي تقيم في تخصصه المنطقي، ليس كمنطق منقول بل هو منساب في تفكيره كأصل معقول ضمن القانون القيمي الأساسي "درء التعارض بين النقل والعقل"، فتخرج اللغة والألفاظ ضمن طريقة اختص بها طه عبد الرحمن في نظمه، في تعلق كريم بفلسفة اللغة.

أَنا البَحرُ في أَحشائِهِ الدُرُّ كامِنٌ    فَهَل سَأَلوا الغَوّاصَ عَن صَدَفاتي

فأقام صدفات ولآلئ اللغة في لوحات فنية راقية، وأتى لها بالتعريفات غير المطروقة، ليتعامل مع صدفاتها كمنظومة كلية قي سبك جديد ومغزى عميق.

ونقول لهؤلاء الذين يقفون عند الظاهر ولا يعرفون الغوص والتقاط اللآلئ؛ إن القرآن بالنسبة للشيخ الفيلسوف في عظامه ودمائه وليس على لسانه، وهو يلتزم الحكم "عرفت فالزم". إن رباطه على ثغور الفلسفة والمنطق واللغة رباط عظيم لا يحسنه كل أحد، فاستثمر كل ذلك في بناء وهندسة معمار فريد يقوم على أساس راسخ ومتين مؤسس ورصين، وهو أمر يتعلق بالبناء المنطقي. بين الإشهاد والائتمان والميثاقية يبدو لنا مفهوم الأمة في مسلك جديد ناهض بها، وفي معنى المرابطة للقيام بكل ما من شأنه التزام الميثاق والائتمان عليه في سياقات الإشهاد الأول، وقد لازمه تلميذه الأثير الفيلسوف الأستاذ الدكتور مصطفى المرابط وله نصيب من اسمه في معاني الاصطفاء والمرابطة.

وقد تحدث الشيخ الفيلسوف عن الأزمة وواقع الأمة في محاضرته الماتعة مفتتحا إياها بسؤال على منوال سؤال شكيب أرسلان: لماذا يُذل المسلمون ويُعز غيرهم؟ فإذا كان سؤال أرسلان يعبر عن الإشكال المعرفي في القرن العشرين المرتبط بالتقدم والتخلف؛ فإن سؤال الذلة والعزة يرى أنه يعبر عن إشكال الإرادة في القرن الواحد والعشرين، مؤكدا أنها معاقد العزة والذلة.. إما العزة وإما الذلة ولا وسط بينهما، ويتأسف على حال الأمة التي خرجت من مجال العزة بالمرة، وأطلت عليها مظاهر الذلة ممثلة في الجزية والتبعية والذيلية، ومشيرا إلى أن أسباب الوقوع في الذلة كثيرة معروفة؛ والإشكال فيها والأشكال الدالة عليها أظهر من أن تُذكر.

ويقدم الشيخ الفيلسوف تعريفا للذلة على أنها آفة تصيب إرادة الإنسان إلى حد العطالة والبطالة والموت والاستقالة، وفي قبالة ذلك تكون الإرادة والميثاق التي تمثل هوية الإنسان؛ الذي يعرفه تعريفا أخلاقيا أو باعتباره كيان وكائن ميثاقي. والمواثقة عنده هي عهد شهادة الله علينا؛ ويقدم تعريفا آخر للذلة بأنها تعطل القدرة عن المواثقة من نفسه أو مع غيره، وإذا كان الأمر كذلك فهو عاجز يقينا عن مواثقة ربه. والذلة في الأمة بهذا المعنى تعني العجز عن الوفاء بعهدها وتمكينها من تحقيق التزاماتها ونقض الميثاق الإلهي. ولا يكتفي الشيخ بالتوصيف ولكن يقدم العلاج متسائلا عن كيف تعود الأمة لعهدها وميثاقها بعد التبدل، فتتبين نوع وحجم التبدل وكيفية العودة للميثاق عقلا وإرادة.

وفي هذا السياق يتحدث الشيخ الفيلسوف عن الميثاقية بنية الشريعة المنزلة.. فالإسلام دين الميثاق والميثاقية الخاصية التي يتحقق بها الانتقال من حالة الى حالة وتفصل بينهما، ويكون التحول الميثاقي من الحالة الجزئية إلى الحالة الكلية، فكما تقع الذلة على الجميع أفرادا وجماعات ومؤسسات كانت التوعية بالذلة، وأحوالها، ومسالك العزة وتحصيلها على النحو ذاته. قبلة العودة الى المواثقة تشترط الإيمان والعزم الذي يمثل تمام الاستقبال للقبلة والخروج من الذلة، ومعاهدة الساعي لتوحيده المواثق لربه. مبدأ التوفية والوفاء بميثاق المرابطة يخرج من حالة امتلاك العالم إلى الائتمان عليه والوفاء له، وتحول إلى حالة المرابطة.. ثغرا يرابط فيه ليقاوم كل أسباب الذلة ويمكّن لكل مسالك العزة والخروج من المذلة والتحول إلى المرابطة على الثغر؛ على طريق تحقيق العزة ودحر الذلة، ميثاق العزم والأمانة والمرابطة؛ والإحياء والمقاومة؛ وتجديد العمل في الأمة بواجبات أوقاتهم ورفع أسباب التنازع بينهم، فأين الأمة من المواثقة والميثاق.

هذه الروح التي يمتلكها عبد الرحمن يبثها في كتبه، ومنها كتابه المهم "ثغور المرابطة: مقاربة ائتمانية لصراعات الأمة الحالية"؛ إذ كتب يقول: "لم أتعود من قبل أن أتكلم في قضايا الساعة كلما استجدت، لا لأني لا أتابعها عن كتب وإنما لأني أحب أن تفصلني عنها فترة من الزمن، حتى أتفكر فيها على مقتضى التأمل الفلسفي المبني على القيم، لا على مقتضى التكهن السياسي المبني على المصالح. لكن أحداث الساعة اليوم ليست كغيرها من الأحداث؛ فالأمتان: "الإسلامية" و"العربية" تتعرضان اليوم لما لا يتعرض له غيرهما من الأمم؛ إذ تتعلق هذه الأحداث بوجودهما ووجهتهما ومصيرهما في عالم قل حياؤه، ومثل هذه القضايا الكيانية توجب تقديم النظر الفلسفي على التحليل السياسي؛ فواجب الفيلسوف أن يسابق إلى الاشتغال بها، حتى لا تهلك الأمم الإنسانية بما كسبت أياديها".

ويحدد التحديات الثلاثة الفاصلة التي تواجه الأمتين المذكورتين، وهي: "تفريط العرب في القدس" و"تصارع الحكام المسلمين على النفوذ" و"اقتتال العرب فيها بينهم". وبعكس الآخرين؛ تتأسس معالجة عبد الرحمن لهذه التحديات -كما يحددها- في سابق مؤلفاته، ومنها "النظرية الائتمانية"؛ وهي عبارة عن نظرية أخلاقية تتأسس على حقائق الإنسان التي اشتركت فيها الأديان وتتوارثها الحضارات، سواء أقرت هذه الحضارات بأصولها الدينية أو أنكرت هذه الأصول.

وقد بين أنه يحرص في كتاباته على أن يستوفي شرطين مفقودين بصورة ملحوظة في الكتابة الفلسفية العربية، أحدهما استثمار الطاقة البيانية للسان العربي، لا في تبليغ الأفكار فحسب، بل أيضا في تشكيل هذه الأفكار؛ إن إنشاء أو بلورة أو تطويرا، مثله في ذلك مثل جمهور الفلاسفة في تعاملهم مع لغاتهم، وإلا ما كانوا ليأتوا بإبداعات وإسهامات لم يستطع المتفلسة العرب إلى حد الآن الإتيان بنظائرها في لغتهم. والشرط الثاني، التوسل بأدوات المنطق في تحليل الأفكار وترتيبها، لوجود في يقينه بأن الكتابة الفلسفية متى خلت من هذه المنهجية، صارت إلى الاضمحلال في الكتابة التاريخية أو السياسية أو الفكرانية على طريقة أربابها؛ يصنف كتاب ثغور المرابطة بأنه عمل توجيهي بقدر ما هو عمل توصيفي؛ ويجب أن يكون عملا توجيهيا، وإلا حاد عن مقصده وفقد فائدته، إذ أنه بني على أصول النظرية الائتمانية، وقد تبين أن النظرية الائتمانية نظرية أخلاقيةفحتى لو عالج الفيلسوف أكثر الموضوعات تغلغلا في التاريخ أو السياسة أو الفكرانية، فإنه يتوصل، في مقارباته التأملية لها، إلى عناصر معنوية من وراء ظواهر التاريخ وأحداث السياسية وتقريرات الفكرانية، أو قل إنه يستكشف آفاقا تتسامي على هذه الظواهر والأحداث والتقريرات، آفاقا تجعل المؤرخ والسياسي والفكراني أنفسهم لا يشعرون باكتمال أعمالهم إلا بالانفتاح عليها، مدركين أن مسائلهم لا تستوعبها، ومناهجهم لا توصل إليها

ويصنف كتاب ثغور المرابطة بأنه عمل توجيهي بقدر ما هو عمل توصيفي؛ ويجب أن يكون عملا توجيهيا، وإلا حاد عن مقصده وفقد فائدته، إذ أنه بني على أصول النظرية الائتمانية، وقد تبين أن النظرية الائتمانية نظرية أخلاقية؛ ومعلوم أن النظرية الأخلاقية على نوعين: أحدهما، النظرية الأخلاقية الوصفية"، وهي التي تبحث في الخطاب الأخلاقي على مقتضى المنهج العلمي، تركيبا ودلالة وتداولا؛ والثاني، "النظرية الأخلاقية المعيارية"، وهي التي تجيب عن الأسئلة التي تتعلق بالسلوك في الحياة، وتدل على ما ينفع وما يضر، وعلى ما يسعد وما يشقي.

والنظرية الائتمانية هي، بالتحديد، نظرية أخلاقية معيارية أو قل توجيهية. لذلك، حرص على بذل جهده في الإرشاد إلى السبل التي تخرج من الآفات أو تحل المشكلات أو توصل إلى التحولات، حتى ولو بدا للناظر في هذه التوجيهات أنها تجنح إلى المثالية؛ فلا أخلاق بغير مُثل عليا، حتى لو اقتصرت على الذات ولم تتعدها إلى الآخر، أضف إلى ذلك أن إرادة الإنسان أقوى من إكراهات الواقع، كائنا ما كان؛ إذ هي قادرة على أن تتجاوزها؛ فكم من واقع انقلب إلى ضده، حتى أصبح الواقع المنقلب هو الواقع الذي لا يرتفع، فهل في المثالية أبعد من أن يُدعى إلى توحيد الألوهية في أمة كانت لا تعرف إلا تعدد الآلهة؟ فكم احتاجت هذه الأمة من التحولات الجذرية في وجدان أبنائها وفي عقولهم وسلوكياتهم وتعاملاتهم، حتى يخرجوا من عبادة الحجر والشجر إلى عبادة رب واحد مالك لكل شيء؟ ومع ذلك، أصبح التوحيد فيها هو الواقع الذي لا يزول.

x.com/Saif_abdelfatah

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه طه عبد الرحمن الفلسفة الأخلاقي اللغة اسلام لغة أخلاق فلسفة طه عبد الرحمن مقالات مقالات مقالات صحافة سياسة سياسة سياسة مقالات رياضة صحافة اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الفلسفة والمنطق الشیخ الفیلسوف عبد الرحمن

إقرأ أيضاً:

عن الديكتاتوريات الثورية التي لا تُهزم

يشكّل كتاب "الثورة والديكتاتورية: الأصول العنيفة للاستبداد الدائم" للباحثين ستيفن ليفيتسكي ولوكان واي، إضافة فكرية عميقة إلى فهمنا لأحد أكثر الأسئلة إلحاحا في التاريخ السياسي الحديث: كيف تنشأ الأنظمة الشمولية من رحم الثورات، ولماذا تعيش طويلا بعد أن تهدأ أصوات البنادق؟ الأطروحة التي يقدمها المؤلفان تقلب المفهوم التقليدي للاستقرار رأسا على عقب؛ إذ يريان أن الأنظمة الاستبدادية التي تولد من العنف الثوري لا تضعف به، بل تستمد منه صلابتها ومناعتها. فالثورة التي تُخاض بالدم والنار، كما في الصين وكوبا وإيران والاتحاد السوفييتي، تُنتج دولا قادرة على البقاء ليس رغم العنف، بل بسببه.

يطرح الكتاب مفارقة لافتة: العنف، الذي يُفترض أنه أداة للهدم، يتحول في لحظة الثورة إلى أداة للبناء. فحين تواجه الثورات مقاومة شرسة، داخلية أو خارجية، ينشأ ما يشبه "عقلية الحصار" داخل القيادة الثورية. الخطر الداهم يوحّدها، والدماء التي تُراق تصبح مادة لِحَميّةٍ سياسية جديدة تصهر النخبة في بوتقة واحدة. هكذا يتحول الخوف من الزوال إلى طاقة مركزية للبقاء، ويصبح النظام الثوري أكثر قدرة على التنظيم والسيطرة كلما ازدادت شدة التهديد. العنف هنا ليس فعلا عرضيا أو انفعالا مؤقتا، بل هو جزء من البنية التكوينية للنظام نفسه. إنه اللحظة التي تنصهر فيها السلطة الوليدة، وتُعيد ترتيب علاقتها بالمجتمع وبالعدو معا، فالثورة التي تُخاض حتى النهاية تُنشئ في داخلها ذاكرة جماعية من الخطر والبقاء، تجعلها تفضّل القبضة الحديدية على التسامح، والوحدة القسرية على التعدد.

يرى ليفيتسكي وواي أن ما يسمّيانه "الاستبداد الدائم" يقوم على ثلاثة أعمدة متكاملة: نخبة موحدة، وجهاز قمعي مخلص، ومجتمع منزوع البدائل. فالعنف الثوري يولّد نخبة متجانسة تعرف بعضها عبر التجربة الدموية المشتركة. هذه النخبة ليست مجرد حزب سياسي، بل جماعة مغلقة تُفرز الولاء عبر النار، وتجعل الانقسام الداخلي شبه مستحيل، لأن كل عضو فيها يدرك الثمن الذي دفعه لبنائها. ومن رحم الثورة أيضا تولد الأجهزة الأمنية والعسكرية المشبعة بعقيدة العداء والخوف، فتتحول إلى مؤسسات تحرس النظام لا الدولة (مصر مثالا ما بعد يوليو 1952)، وتستمد شرعيتها من الدفاع عن "المشروع الثوري" ضد أعداء الداخل والخارج. أما المجتمع، فسرعان ما يُعاد تشكيله على صورة الدولة الجديدة: تُلغى الأحزاب، وتُقمع النقابات، وتُخنق المنظمات المستقلة، ويُمحى أي صوت قد يذكّر بزمن ما قبل الثورة. عندها تكتمل الدائرة؛ لا يبقى سوى الدولة والحزب والقائد، ولا يعود التغيير ممكنا إلا عبر العنف ذاته الذي أوجد النظام أول مرة.

ولكي يبرهنا على صلابة هذه البنية، يستعرض المؤلفان تجارب متعددة. فالثورة البلشفية في روسيا لم تكتف بإسقاط القيصر، بل خاضت حربا أهلية دموية جعلت الحزب الشيوعي يتوحّد كليا تحت راية واحدة. العنف هنا لم يكن خطأ تكتيكيا، بل لحظة ولادة الدولة الحديدية التي ستصمد سبعين عاما. وفي الصين، تحوّل العنف الثوري الطويل إلى بنية ذهنية دائمة، فالدولة الشيوعية هناك تعلّمت أن تعتبر أي احتجاج امتدادا للحرب القديمة. لذا حين اندلعت مظاهرات تيان آن مين عام 1989، كان القمع السريع والقاتل نتيجة طبيعية لمنطق البقاء الذي وُلد مع الثورة ذاتها.

في المقابل، فشلت ثورات أخرى لأنها لم تعبر هذا الطور "الدموي المؤسِّس". فالثورات التي سعت إلى التوافق أو التسويات السلمية، مثل بعض تجارب أمريكا اللاتينية أو أفريقيا، لم تُنتج دولا متماسكة بل أنظمة هشة تفككت سريعا أمام الأزمات. يبدو أن غياب الخطر الوجودي منعها من بناء جهاز قمعي قوي أو نخبة موحدة؛ فظلّت كمن يمشي على أرض رخوة.

في مصر، تشكّل نموذج يوليو 1952 كأحد أكثر التجليات وضوحا لفكرة "الديكتاتورية الثورية" التي لا تموت لأنها لا تكفّ عن التمثّل في ذاتها كثورة دائمة. فالعنف المؤسِّس الذي أطاح بالنظام الملكي لم يكن مجرد لحظة قطيعة، بل لحظة ولادة لسلطة جديدة صهرت نفسها في جيشٍ يتقمّص دور المخلّص، ويحرس شرعيته بما يسميه المؤلفان "أسطورة الخطر الوجودي". لم يعد النظام يبرر سلطته باسم الدولة، بل باسم الثورة التي لم تكتمل بعد. وهكذا تحوّل المشروع التحرري إلى آلة انضباطٍ شاملة، استبدلت فكرة الأمة بفكرة الجماعة الوطنية المطيعة، وامتصّت السياسة في جسدٍ واحد يحتكر النطق باسم الشعب. منذ ذلك الحين، لم تخرج مصر من منطق الثورة التي تحرس نفسها من الثورة، فاستمرّت ديكتاتورية يوليو كطيفٍ يتجدّد في كل أزمة، لأنها وُلدت من وهم الخلاص، ولأنها وجدت في هذا الوهم سبب بقائها.

ورغم الجاذبية الفكرية لأطروحة ليفيتسكي وواي، فإنها تطرح سؤالا مقلقا حول الثمن الإنساني للاستقرار. فهل يمكن لنظامٍ أن يُبنى على العنف دون أن يصبح أسيرا له؟ إن الدولة التي تولد من النار، مهما بلغت من القوة، تظل مشدودة إلى ذاكرتها الدموية وإلى خوفها من عودة الفوضى. إن العنف الذي يمنحها المناعة هو ذاته ما يجعلها عاجزة عن التحول، لأن أي انفتاح أو تسامح يبدو لها تهديدا وجوديا. وبهذا المعنى، تبدو الأنظمة الثورية المستقرة كيانات محنطة أكثر منها كائنات حية؛ فهي تصمد، نعم، لكنها لا تتطور. إن ثمن البقاء في مثل هذه الأنظمة هو موت السياسة ذاتها، وتحويل المجتمع إلى صدى باهت لسلطة لا تعرف سوى الخوف والارتياب. وهنا يكمن السؤال الأعمق الذي يتركه الكتاب مفتوحا: أيّهما أخطر على الإنسان- الفوضى التي تلد الحرية، أم الاستقرار الذي يلد القمع؟

مقالات مشابهة

  • الانتقال الحضاري: منظومات ومفاهيم وأبعاد.. مشاتل التغيير (39)
  • غزة التي تمرّدت على الذبح في الحظيرة
  • بعد عامين على طوفان الأقصى…غزة التي غيرت العالم
  • سلوت وصلاح.. هل حان وقت التغيير؟
  • المعونة الوطنية: وقف المعونة عن الأسر التي تمتلك أكثر من عقار
  • صدمة الإبادة التي تغيّر العالم.. إذا صَمَت الناس فلن يبقى أحد في أمان
  • نيروبي.. رجل الطيور يحلّق بحلم التغيير
  • المعلم.. منارة العلم التي أطفأها الإهمال
  • الشيطان يكمن في التفاصيل.. ما أبرز البنود التي قد تعرقل مفاوضات شرم الشيخ بين حماس وإسرائيل؟
  • عن الديكتاتوريات الثورية التي لا تُهزم