إطلاق منصة استثمارية في قطر تستهدف شركات الذكاء الاصطناعي
تاريخ النشر: 26th, November 2025 GMT
الدوحة ـ على هامش فعاليات المؤتمر العالمي للهواتف المحمولة في الدوحة، وبدعم إستراتيجي من بنك قطر للتنمية، أطلق أول إستوديو لبناء الشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي في قطر، في خطوة تعد من أبرز التحركات الاستثمارية في منظومة التكنولوجيا خلال الفترة الأخيرة.
ويهدف الإستوديو إلى تحويل تحديات القطاعات الاقتصادية الحيوية في الجنوب العالمي إلى شركات قابلة للنمو والتوسع، اعتمادا على نموذج جديد في الاستثمار الجريء يدمج بين رأس المال والخبرة التشغيلية المتقدمة في الذكاء الاصطناعي.
وفي حديثها للجزيرة نت، قالت فاطمة علي الخاطر، الشريكة في منصة بناء المشاريع التابعة لشركة يوتوبيا والمدعومة من جهاز قطر للاستثمار إن تأسيس الإستوديو يأتي ضمن رؤية طويلة الأمد تهدف إلى "بناء شركات حقيقية، يقودها خبراء متخصصون قادرون على حل مشكلات معقدة في قطاعات أساسية، وليس مجرد إطلاق برامج ريادة أعمال تقليدية".
وتوضح الخاطر أن الإستوديو يستهدف المبتكرين غير التقليديين ممن يمتلكون خبرة واسعة في القطاعات عالية النمو، لكنهم غالبا ما يجدون صعوبة في الحصول على الدعم المناسب من صناديق الاستثمار التقليدية.
وتقول: "نحن لا نعمل كنموذج مسرعات الأعمال، بل نتعاون مع مؤسسين خبراء حددوا مشكلات دقيقة في قطاعات مثل البنية التحتية، الطاقة، الأمن السيبراني، والذكاء الاصطناعي العميق، ونوفر لهم دعما عمليا يسمح بتحويل خبراتهم إلى شركات قابلة للتوسع".
ويستفيد المؤسسون من نظام (UTOPIA OS)، وهو نظام تشغيل معياري للذكاء الاصطناعي مصمم لتسريع بناء المنتجات واختبارها والتوسع فيها، ليقلص رحلة الانتقال من الفكرة إلى الجولة التمويلية التأسيسية إلى أقل من 24 شهرا.
إعلانيقدم الإستوديو، بحسب الخاطر، حزمة دعم تتجاوز التمويل التقليدي، وتشمل:
رأس مال تأسيسي من صناديق الاستثمار الجريء. بنية تقنية قائمة على الذكاء الاصطناعي. دعم في النمو والتسويق والتوسّع التجاري. الوصول إلى الأسواق الناشئة من خلال شبكات يوتوبيا في الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا وأفريقيا. مساحات مكتبية وخدمات لوجستية للمؤسسين الذين ينوون الانتقال إلى قطر. إمكانية الوصول إلى رأس المال وحوافز حكومية عبر بنك قطر للتنمية.وتضيف الخاطر: "هدفنا هو تسريع بناء الشركات عبر تزويد المؤسسين ببيئة متكاملة تتيح لهم التركيز على تطوير منتجات جاهزة للسوق بدلا من الانشغال بالعقبات التشغيلية".
ويعتمد الإستوديو على تحديد مجالات محددة تشكل فرصا كبرى في الاقتصاد العالمي، ويسميها "مجموعات العمل الميداني" أو PODs، وتشمل:
البنية التحتية الرقمية. صيانة مراكز البيانات. السحابات الجديدة. الطاقة والبرمجيات. الحلول الهندسية لمنع تآكل البنية التحتية. الجراحة والكيمياء والهندسة المتقدمة. الأمن السيبراني والتكنولوجيا العميقة.وتقول الخاطر إن الإستوديو "يبحث عن خبراء يملكون فهما دقيقا لمشكلاتهم ولا يحتاجون إلى تعلم السوق من الصفر، بل هم مستعدون لتحويل التحديات إلى فرص استثمارية".
يعمل الإستوديو حاليا مع أول مجموعة من رواد الأعمال، ويستهدف استقطاب مؤسسين من قطر والشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا وأفريقيا والأسواق الناشئة الأخرى.
ويهدف إلى تطوير 140 فكرة مشروع، ودعم أكثر من 50 شركة ناشئة خلال السنوات الخمس المقبلة، عبر مراحل ما قبل التأسيس والتمويل التأسيسي وما قبل التشغيل الأول.
تشكل استضافة النسخة الأولى من المؤتمر العالمي للهواتف المحمولة MWC25 خطوة مهمة ضمن أجندتنا الرقمية الهادفة إلى تطوير البنية التحتية الرقمية وتعزيز مسيرة التحول الرقمي. نرحب بجميع المشاركين في المؤتمر، ونتطلع إلى ترسيخ شراكات استراتيجية ترسم ملامح اقتصاد رقمي أكثر تنافسية وتقدمًا. pic.twitter.com/PtCZayda1x
— محمد بن عبدالرحمن (@MBA_AlThani_) November 25, 2025
بناء منظومة اقتصادية متكاملةتؤكد الخاطر أن هذه المبادرة تمثل "إشارة واضحة إلى جدية قطر في بناء منظومة ابتكار حقيقية قائمة على الذكاء الاصطناعي"، موضحة أن البيئة الاقتصادية في البلاد أصبحت أكثر جاذبية للخبراء والمستثمرين الباحثين عن منصة انطلاق عالمية.
وتقول: "التقينا بالفعل بعدد من الخبراء والمؤسسين الذين يخططون لاتخاذ الدوحة مقرا لبدء شركاتهم، ونحن نعمل معهم لبناء بيئة ناضجة لريادة الأعمال".
وترى الخاطر أن دمج الإستوديو مع صناديق يوتوبيا الإقليمية، إلى جانب الدعم الحكومي في قطر، سيخلق نموذجا استثماريا قادرا على قيادة موجة جديدة من الشركات المعتمدة على الذكاء الاصطناعي في الجنوب العالمي.
يمثل "الإستوديو" محاولة جادة لإعادة تشكيل علاقة الاستثمار الجريء بالاقتصادات الناشئة، عبر التركيز على الخبرة العميقة بدلا من رواد الأعمال التقليديين، وعلى التقنية المصممة خصيصا بدلا من الحلول العامة، وفي الوقت نفسه بناء جيل جديد من شركات الذكاء الاصطناعي القادرة على التوسع عالميا من قطر.
إعلانومن جهته، قال المدير التنفيذي لحاضنات الأعمال والاستثمار الجريء في بنك قطر للتنمية محمد العمادي، إن الإستوديو يجسد إستراتيجية بنك قطر للتنمية، الرامية إلى بناء اقتصاد متنوع قائم على الابتكار.
وأضاف أن الإستوديو يمكن المؤسسين المحليين والدوليين الذين يتمتعوا بالمواهب الفنية من تحويل التحديات المعقدة والصعبة إلى شركات قابلة للتطوير تعتمد على الذكاء الاصطناعي، لافتا إلى أن المنصة تضيف بعدا جديدا بالغ الأهمية إلى منظومة ريادة الأعمال في قطر، وتعزز مكانة الدولة كمركز للتكنولوجيا الرائدة في المنطقة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: دراسات شفافية غوث حريات على الذکاء الاصطناعی الاستثمار الجریء بنک قطر للتنمیة البنیة التحتیة فی قطر
إقرأ أيضاً:
هل يصبح الذكاء الاصطناعي بديلاً للعولمة؟
رأسمالية بلا إنسان:
هل يصبح الذكاء الاصطناعي بديلاً للعولمة؟
منذ بدايات الثورة الصناعية، سعت الرأسمالية إلى توسيع نطاق السوق خارج حدود الدولة القومية، بحثاً عن الموارد الخام، والأسواق الجديدة، والعمالة الأرخص، هذا التوسع هو الذي أنتج ما يُعرف بـ”العولمة”؛ أي تحويل العالم إلى شبكة مترابطة من التجارة، والاستثمار، والإنتاج، والمعلومات. وباتت العولمة هي الضامن الرئيسي والحامي للنظام الرأسمالي الحالي.
لكن مع اتجاه بعض الدول مؤخراً، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية لفرض مزيد من القيود الحمائية على أسواقها ومنتجاتها وتقييد حركة الأفراد والموارد ورأس المال؛ فإن العولمة الضامنة للنظام الرأسمالي أصبحت محل تهديد، وبدأت تشهد انحساراً ملحوظاً، بدأت آثاره الاقتصادية تظهر على النظام الدولي الذي بات معبأً بالمشكلات، وعجزت المؤسسات الدولية التي أنتجتها العولمة مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرها من المؤسسات المالية عن أن تعالج المشكلات الاقتصادية والتحديات التي يواجهها هذا النظام.
وبالتزامن مع هذه التحديات، ظهرت ثورة الذكاء الاصطناعي، التي قدمت نفسها على أنها طوق النجاة للنظام الرأسمالي، وأنها هي الضامن الجديد والحامي لهذا النظام، وبات يُنظر إليها على أنها بديل محتمل للعولمة التي تحتضن هذا النظام، فهل يستطيع الذكاء الاصطناعي أن ينقذ النظام الرأسمالي؟
تراجع العولمة:
منذ نهاية الحرب الباردة في أوائل تسعينيات القرن الماضي، وإعلان انتصار مبادئ الثقافة الغربية باعتبارها النموذج الفكري والاقتصادي والسياسي المنتصر في هذه الحرب، قدمت الحضارة الغربية العولمة ليس فقط باعتبارها حركة تاريخية متعددة الأوجه، ولكن باعتبارها إطاراً عالمياً جديداً يحكم التفاعلات بين الدول، سواء أكانت هذه التفاعلات اقتصادية أم سياسية أم ثقافية، فرفعت شعارات مثل الترابط، والانفتاح، والتقدم، وحرية السوق، وتدفق الأفكار ورأس المال، وأعلت مبادئ الحرية الفردية وحقوق الإنسان وحرية التجارة، فقدمت للرأسمالية الفرصة التاريخية للتحرر الكامل من قيود الجغرافيا، وحوّلت العالم إلى سوق واحدة، والاقتصاد إلى منظومة شبكية عابرة للحدود؛ بهذا المعنى، أصبحت العولمة هي الفضاء الأيديولوجي الذي أطلق يد رأس المال لتعمل بحرية كاملة وتنمو وتتوسع.
لكن هذا الإطار الفكري القائم على العولمة الذي يحمي النظام الرأسمالي ويوفر له فرصة للتوسع والنمو، لم يدم طويلاً حتى بدأ يعاني من تصدع كبير مع بداية العقد الثاني من الألفية الحالية، وتحديداً مع تفشي وباء كورونا، فقد توجهت الدول نحو إغلاق الحدود وتقييد حركة التنقل بين الأفراد وفرض أنواع من الحمائية التجارية على السلع الضرورية كالأدوية والسلع الغذائية؛ هذا الاتجاه تعمق وأصبح أكثر وضوحاً مع بداية الولاية الثانية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي فرض رسوماً جمركية على الواردات وحظر تصدير التكنولوجيا المتقدمة إلى بعض الدول وفرض حظراً على المهاجرين وقام بترحيل كثير منهم، ومنذ ذلك الحين بدأ العديد من المفكرين يتحدثون عن تراجع العولمة.
هذا التراجع في العولمة يعني بداية تآكل النظام الرأسمالي، فالعولمة ليست مجرد حرية حركة؛ بل هي المجال الذي يسمح بتوسع النظام الرأسمالي، ومن دون هذا التوسع الذي ينعكس في معدلات النمو السنوية، سوف يبدأ النظام الرأسمالي في الانهيار.
فمثلاً، إذا كان هناك نظام رأسمالي يحقق معدل نمو 5% سنوياً؛ فإن هذه الزيادة ستستوعب المشكلات التي يفرزها هذا النظام من الداخل مثل زيادة عدد السكان أو زيادة حجم القوة العاملة؛ ومن ثم مع تحقيق معدلات نمو جيدة يستطيع خلق مزيد من فرص العمل التي تستوعب هذه الزيادات؛ مما يضمن استمرار عجلة الاقتصاد في الدوران. هذا الفائض في معدلات النمو يتحقق غالباً من خلال تصدير المنتجات إلى أسواق خارجية، ومن دون العولمة وحرية الحركة وفتح الأسواق لن يتحقق ذلك، وسوف تقل المساحة التي كان يعمل فيها رأس المال، وتتراجع فرص النمو، فتبدأ الدورة الاقتصادية في التباطؤ الشديد حتى تصل إلى حالة من الركود، فتبدأ الأزمات الاقتصادية.
فهامش النمو الذي يتحقق سنوياً في النظام الاقتصادي العالمي حتى ولو كان ضئيلاً؛ هو ما يحافظ على استقرار هذا النظام، والعولمة هي الضامن الحقيقي لهذه العملية؛ لكن تراجع العولمة قد يؤدي إلى تحقيق معدلات نمو تقترب من الصفر أو أقل؛ مما يعني بداية انهيار هذا النظام. وهذا ما بدأ يحدث بالفعل في النظام المالي العالمي.
لكن، من ناحية أخرى لا يمكن أن تنفصل هذه التطورات في العولمة وحركة رأس المال عن الذكاء الاصطناعي، فهو نتاج مباشر لهذه العلاقة، والابن الشرعي لها، وقد اتضحت قدراته الكبيرة على إعادة هيكلة النظام العالمي في وقت يعاني من التصدع بدرجة كبيرة؛ حيث تواجه العولمة حالة انحسار كبير حول العالم وتفرض الحمائية نفسها أمام حركة السلع والأفراد، ويعاني النظام الاقتصادي من مشكلات هيكلية وتضخمية لا تعالجها مسكنات البنوك المركزية والفدرالية.
وهنا بدأت تظهر القدرات الكامنة للذكاء الاصطناعي فهو قادر على إعادة هيكلة الأسواق من خلال زيادة الكفاءة والإنتاجية، كما أنه يَعد بخلق مزيد من فرص العمل وتحقيق المساواة والعدالة، لكن في الوقت نفسه يهدد كثيراً من الوظائف ويزيد من هيمنة رأس المال وتركز الثروات؛ هذه القوة الجديدة للذكاء الاصطناعي جعلت الدول تضعه أمام أعينها وتنظر إليه باعتباره طوق النجاة، ليس فقط لحل مشكلاتها، بل لحل مشكلات النظام العالمي ككل، كما أنه أداة رأسمالية هامة لتراكم الثروات في هذا العصر التكنولوجي بامتياز.
وإذا كانت العولمة هي الضامن الرئيسي للرأسمالية خلال العقود الماضية، لتحقيق مزيد من الإنتاج والنمو وفتح الأسواق الجديدة؛ فإن الذكاء الاصطناعي بات يقدم نفسه على أنه هو الضامن الجديد للرأسمالية، من خلال زيادة القدرة على الإنتاج الكبير وبتكلفة أقل عبر أتمتة العمل واستبدال الجهد البشري بالآلات الذكية، والقدرة على فتح أسواق جديدة من خلال تحليل أنماط الاستهلاك والبيانات الضخمة بشكل لحظي واكتشاف الحاجات الفردية وتقديم مقترحات لإشباعها، وبذلك يتحقق الحلم الرأسمالي القديم بالوصول إلى الإنتاج اللامحدود بكلفة شبه معدومة، فتصبح السلع أرخص وأكثر كفاءة وأفضل من تلك المصنوعة محلياً.
ولكن إذا كان الذكاء الاصطناعي يقدم نفسه على أنه بديل للعولمة، فكيف يستطيع أن يملأ الفراغ الذي سوف تتركه داخل النظام الرأسمالي؟ للإجابة عن هذا التساؤل يجب أن نفهم ما جوهر الرأسمالية وكيف سيعالج الذكاء الاصطناعي مشكلاتها البنيوية.
رأسمالية الذكاء الاصطناعي:
تقوم الرأسمالية على مبدأ التراكم الرأسمالي وعلى الملكية الخاصة لعناصر الإنتاج الأساسية وهي (الأرض والموارد، ورأس المال المادي، والعمل، والتنظيم والإدارة) باعتبارها الأساس الذي تُبنى عليه حرية النشاط الاقتصادي والسعي لتحقيق الربح، وما فعله الذكاء الاصطناعي – الذي تديره وتطوره الشركات الخاصة- أنه أعاد تعريف عناصر الإنتاج الأربعة بطريقته الخاصة؛ لكي يضمن تحقيق التراكم فيها واستمرار النمو.
– مناجم البيانات: فالأرض أو الموارد الطبيعية، لم تعد مادية كما كانت، فقد انتقلت من السيطرة على الطبيعة إلى السيطرة على البيانات والمعلومات؛ أي من الموارد المادية إلى الموارد المعرفية. وامتلكت البيانات خصائص الموارد الطبيعية التقليدية، فهي قابلة للإنتاج والتوزيع والاستخدام في العملية الاقتصادية، وتولّد قيمة مضافة عندما تُستخدم لاتخاذ قرارات أفضل، أو ابتكار منتجات جديدة، أو تحسين الكفاءة، كما أنها قابلة للتراكم مثل رأس المال، فكلما زاد تراكم المعلومات؛ زادت قدرة المؤسسات على المنافسة والابتكار، وهي أيضاً مورد لا ينضب – بخلاف النفط أو المعادن- إذ يمكن مشاركتها واستخدامها بشكل غير محدود دون أن تنتهي.
وبذلك، لم تعد الموارد موجودة في المناجم أو تحت الرمال؛ بل داخل الخوادم وعبر أشباه الموصلات، وامتلكت الشركات الكبرى – التي هي المحرك الرئيسي للرأسمالية- مثل Google، وMeta، وOpenAI وAmazon، مناجم البيانات ومستودعات المعلومات، وأصبح أي إنسان على وجه الأرض يمتلك هاتفاً ذكياً ووصلة إنترنت لديه ملف شخصي داخل إحدى هذه الشركات، ولأن الإنسان هو محور الاقتصاد، فلا غنى عن هذه البيانات في أي شكل من أشكال النشاط الاقتصادي، سواء أكان معرفياً أم تقليدياً. فمن خلال تحليل البيانات الضخمة يمكن تحديد ليس فقط الاحتياجات الحالية، بل والمستقبلية أيضاً؛ ومن ثم صياغة الخطط التصنيعية والتسويقية والاقتصادية بناءً على ما تمتلكه هذه الشركات.
وهنا يأتي التساؤل، كيف حوّل الذكاء الاصطناعي الموارد من طبيعية إلى معرفية؟ في الحقيقة أنه من دون الذكاء الاصطناعي لن يمكن تحويل كل هذه البيانات الضخمة إلى معلومات قابلة للاستخدام، فمن خلال خوارزميات الذكاء الاصطناعي تتحول كومة ضخمة من البيانات المعقدة والمتشابكة إلى معلومة يمكن من خلالها اتخاذ قرار، ومن دون هذه الخوارزمية تظل هذه البيانات عبئاً على أصحابها غير قادرين على تحقيق أي استفادة منها.
ولا يقتصر دور الذكاء الاصطناعي هنا فقط على تحليل البيانات، بل بات يمتلك القدرة أيضاً على اتخاذ القرار، فتقوم السيارة ذاتية القيادة مثلاً بجمع وتحليل المعلومات العشوائية الموجودة على الطرقات واتخاذ القرار المناسب أثناء القيادة، ويظل مقعد السائق خالياً لا يشغله بشر. ليست فقط القدرة على اتخاذ القرار هي ما تميز الذكاء الاصطناعي، بل أيضاً قدرته الكبيرة على تشكيل السلوك الإنساني وتوجيه الوعي البشري من خلال الخوارزميات التي تتحكم بما نراه ونفكر فيه ونستهلكه.
وبذلك استطاع الذكاء الاصطناعي أن يعيد تشكيل أول وأهم مورد من عناصر الإنتاج وهو الأرض أو الموارد الطبيعية، واستطاع أن يجعل من البيانات وقوداً طبيعياً لا تستغني عنه أي صناعة. يتبقى لنا عنصران هما (رأس المال والعمال) فكيف استطاع أن يعيد إنتاجهم؟
– مصانع الخوارزميات: في الاقتصاد الكلاسيكي، كان رأس المال يُختزل في الأصول المادية مثل المصانع والآلات والبنية التحتية.
أما اليوم، فقد أعاد الذكاء الاصطناعي تعريف رأس المال ليصبح رأس مال معرفي، قوامه الخوارزميات القادرة على اتخاذ القرارات؛ فإذا كانت البيانات هي “المادة الخام الجديدة”؛ فإن الخوارزميات هي “الآلات” التي تعالجها، وإذا كان البشر هم عنصر “العمل”؛ فإن الروبوتات الذكية هي من تحل محلهم؛ لذلك ظهر مفهوم المصانع المظلمة (Dark Factories).
والمصانع المظلمة هي منشآت صناعية وإنتاجية تعمل بشكل كامل دون أي تدخل بشري على الإطلاق، فلا حاجة لوجود البشر بحيث لا تحتاج إلى إضاءة أو مرافق مخصصة للعمال؛ لأن التشغيل والإدارة والتنظيم تتم بواسطة الروبوتات والأنظمة الذكية، وسُميت “مظلمة” لأنه لا حاجة لوجود إضاءة داخل هذه المصانع، فالذكاء الاصطناعي لا يحتاج إلى إضاءة لكي يعمل على مدار الساعة دون توقف؛ مما يسمح بزيادة الإنتاج وتحقيق الكفاءة التشغيلية. على سبيل المثال، تمتلك شركة BYD الصينية مصنعاً في شنغهاي يضم أكثر من 500 روبوت يعملون على تجميع السيارات الكهربائية بأعداد هائلة بتكلفة منخفضة تصل إلى 30% أقل من المصانع التقليدية.
هذا بخلاف التأثير الواسع للذكاء الاصطناعي في مختلف الأعمال سواء أكانت صناعية أم فكرية أم يدوية، فهو قادر على تصنيع سيارة وكتابة مقال أو رسم صورة وتلحين أغنية، ويستطيع تشخيص الأمراض وقيادة السيارات والمُسيرات والغواصات، فلا شيء تقريباً يستطيع أن يقوم به الإنسان؛ إلا ويستطيع الذكاء الاصطناعي أن يقوم به باستثناء الإنجاب؛ لذا فقط استطاع الذكاء الاصطناعي أن يعيد صياغة عناصر الإنتاج الأربعة بالطريقة التي يضمن بها تحقيق التراكم في الثروات وزيادة الإنتاج وفتح الأسواق الجديدة بغض النظر عن دور البشر في العملية الإنتاجية.
وبذلك يتحول الإنسان الذي كان دائماً محور العملية الإنتاجية إلى عنصر قابل للاستبدال بالكامل في النظام الرأسمالي الجديد؛ وهو أمر يحدث لأول مرة في الفكر الاقتصادي الذي يرى أن “القيمة” تأتي من مشاركة العنصر الإنساني. فقد أكد كارل ماركس أن قيمة أي سلعة لا تنشأ من المواد الخام أو الأدوات أو رأس المال بحد ذاته؛ بل من كمية العمل الإنساني المبذول في إنتاجها، ومع غياب العنصر البشري من المعادلة؛ فإن قيمة العمل تأتي من الخوارزميات وليس من البشر، وبدرجة كفاءة الخوارزميات تتحدد قيمة العمل. وإذا كانت الآلات والروبوتات هي امتداد لجسد العامل؛ فإن الخوارزميات هي امتداد لعقله. وهنا لم يعد الإنسان منتجاً؛ بل مستهلكاً ومادة خاماً للبيانات التي تُستخرج منها القيمة الحقيقية للإنتاج. فالرأسمالية لتستمر؛ تحتاج إلى مستهلكين أكثر من حاجتها إلى عمّال.
هذا ليس تحولاً بسيطاً؛ بل تعديل جوهري في الرأسمالية؛ حيث تنتقل من كونها نظاماً اقتصادياً يعتمد على الإنسان، إلى نظام قادر على إعادة إنتاج ذاته دون إنسان. فالخوارزميات تستثمر، وتسوّق، وتدير المخاطر، وتخلق المنتجات، وتحدد الاتجاهات السوقية من دون الحاجة إلى وسيط بشري. وهذه هي مرحلة “سطوة الذكاء الاصطناعي”؛ حيث يتحول إلى العقل الجمعي الجديد للرأسمالية، أو يصبح هو “الأيدي الخفية” التي تدير الاقتصاد، والتي تحدث عنها آدم سميث.
ليس معنى ذلك أن نتخلى تماماً عن دور الأفراد والموارد الطبيعية ورأس المال التقليدي؛ بل سيكون لهم دور مهم يتمثل في بناء مكينة الذكاء الاصطناعي الضخمة التي سوف تقود النظام الرأسمالي العالمي، لكن هذا الأمر ليس متاحاً للجميع؛ بل للدول الكبرى التي تمتلك المعرفة الفنية والمالية لتطوير الذكاء الاصطناعي؛ وهو ما بدأ يحدث بالفعل، فالصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين على سبيل المثال يتمحور حول الذكاء الاصطناعي بالأساس، ما بين السعي للوصول إلى المعادن النادرة حول العالم التي تستخدم في تطوير الشرائح الذكية والبطاريات، والصراع على البيانات التي هي الوقود المحرك للذكاء الاصطناعي، والسباق على اجتذاب المواهب البشرية القادرة على خلق الخوارزميات الأكثر كفاءة. فالجميع يدرك أن من يفوز في سباق الذكاء الاصطناعي سوف يقود النظام العالمي الجديد.
عولمة الذكاء الاصطناعي:
إذا كان ذلك هو الحال على مستوى رأس المال، فكيف سيعوض الذكاء الاصطناعي الفراغ الذي تتركه العولمة؟
مع زيادة تطور الذكاء الاصطناعي لن تحتاج الدول الكبرى للعمالة الرخيصة القادمة من الخارج، ولا للمهاجرين الجدد، كما أنها لن تضطر إلى بناء مصانعها خارج حدودها لكي تستفيد من الميزة النسبية للعمالة المنخفضة في الدول الأقل تقدماً، فسيتم استبدال العُمال في المصانع بالروبوتات، ويحل الذكاء الاصطناعي تدريجياً محل البشر في كل الوظائف، من قيادة السيارات لتربية الأطفال ومن تنظيف الشوارع لتقديم الطلبات في المطاعم والمقاهي، وتقوم الشركات الكبرى ببناء مصانعها الضخمة لكي تكون مظلمة بالكامل، مع توظيف قدر ضئيل من العمالة المحلية أو الوطنية لتلبية الاحتياجات الضرورية، مثل تطوير المنتجات وحضور الاجتماعات وتسويق المنتجات للعملاء.
ومع توجه هذه المصانع للإنتاج الضخم منخفض التكلفة، سوف تغزو منتجاتها أسواق العالم الأقل قدرة على المنافسة، ليس بسبب حرية التجارة؛ ولكن لأن المنافسة أصبحت صعبة للغاية، وأصبحت هناك حالة احتكار لقطاعات كاملة من الإنتاج يقودها الذكاء الاصطناعي.
حتى على مستوى الفكر، فالنماذج اللغوية الكبرى باتت تقدم محتوى متعدد الوسائط واللغات بسهولة حتى وإن كان متحيزاً وموجهاً ويعكس القيم والثقافات الغربية بامتياز، تماماً مثلما كانت تفعل العولمة. فقد أصبحت نظم الذكاء الاصطناعي التوليدي مثل Gemini وChatGPT وCopilot هي مصدر الثقافة الإنسانية، وما تقدمه من معلومات أصبح هو “المعرفة”، فتخبرنا بالأحداث التاريخية والمعلومات الاقتصادية وتقدم التحليلات النفسية وترسم لنا صورة ذهنية عن العالم نعلق بداخلها، وفقد الإنسان بإرادته القدرة على الاختيار بين الكتب أو المصادر المتعددة ووجهات النظر المختلفة، واكتفى بوجهة نظر واحدة سهلة وسريعة ومنظمة يقدمها الذكاء.
وبذلك يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يقدم نفسه كبديل قادر على أن يحل محل العولمة كضامن لبقاء واستمرار هيمنة النظام الرأسمالي الحالي، ليس فقط على المستوى الوظيفي المتمثل في الأسواق ورأس المال، ولكن أيضاً على المستوى المعرفي والمستوى الفكري. بعبارة أخرى؛ يمكن القول إن الذكاء الاصطناعي أصبح بديلاً يجسد رغبة الرأسمالية في الاستقلال عن العولمة، وأصبح هو البنية التحتية غير المرئية للرأسمالية المعاصرة.