العراقيون بين حاجتهم إلى التغيير وإرادتهم المعطلة
تاريخ النشر: 14th, June 2025 GMT
آخر تحديث: 14 يونيو 2025 - 10:20 صبقلم: فاروق يوسف تنسف الكثير من الوقائع فكرة انتمائنا نحن العراقيين إلى العصر الحديث. هناك تناقض مريع بين استعمالنا للهاتف الخلوي وإيماننا بتقديس الموتى من الأولياء والصالحين الذين نعتقد أنهم سيشفعون لنا في الحياة الآخرة، وبين استعمال السيارات رباعية الدفع والمسيرات الجنائزية التي يغلب عليها اللطم والعويل والمشي كيلومترات على الأقدام من أجل استحضار لحظة مر عليها أكثر من 1400 عام.
لكن هناك انتخابات ومجلس نواب وسلطات ثلاث يشرف عليها نظام تعددي مادته الطوائف المتناحرة أما أسلوبه الديمقراطي فهو اختراع محلي يتناسب مع حاجة الأحزاب المهيمنة على السلطة إلى الشرعية أمام العالم. ليس ذلك خبرا مثيرا غير أنه الخبر الوحيد الممكن. ستكون هناك انتخابات، ولكنْ هناك اتفاق على أن تلك الانتخابات التي يُنفق عليها رسميا نصف مليار دولار لن تُحدث تغييرا في بنية النظام السياسي في العراق. سيظل الوضع على ما هو عليه. الأحزاب الحاكمة اليوم ستعود من خلال أغلبيتها البرلمانية إلى حكم العراق. تحتاج تلك الأحزاب إلى شرعية صورية تمكّنها من الاستمرار وهو ما تحصل عليه من خلال شراء الأصوات. في عراق فقير لا بد أن تُشترى الأصوات بأبخس الأثمان. بطانية أو مدفأة أو كيلوغرامات من العدس أو دجاجة مجمدة، ذلك ما انتهى إليه العراق الجديد بعد أكثر من عشرين سنة على سقوط نظام صدام حسين الاستبدادي إثر احتلال العراق عام 2003. وهو ما يعني أن العراقيين لم يربحوا في الحدود الدنيا حرية أصواتهم. كانوا مكمّمين من قبل وهم اليوم يبيعون أصواتهم أي أنهم من غير أصوات. ولكنْ هناك فرق ما بين أن يُجبر المرء على الصمت وبين أن يضع صوته في خدمة مَن يفسد عليه حياته. العراقيون يذهبون إلى الانتخابات لإضفاء شرعية على الفاسدين.ولكن هل يكون الشعب موقع إشفاق في هذه الحالة؟
يسعى مقتدى الصدر وهو زعيم تيار شعبي كبير إلى أن يلعب لعبة مزدوجة. فهو من جهة يدعو أتباعه إلى عدم المشاركة في الانتخابات لأن نتائجها ستذهب إلى جيوب الفاسدين الذين سبق لهم واحدا بعد الآخر أن نددوا بالفساد، وهو من جهة أخرى لا يدعو إلى تغيير النظام. سبب ذلك الخطاب المزدوج يكمن في أنه أولا يسعى إلى تبرئة تياره من الفساد الذي أدى إلى استمرار الدولة العراقية الناشئة في فشلها وثانيا أنه لا يملك برنامجا سياسيا بديلا يتيح له الاستمرار في الحفاظ على مكتسباته ومكتسبات تياره من نظام المحاصصة الطائفية الذي أقامه الأميركان على حطام النظام السياسي السابق الذي ودّع العراقيون مع رحيله دولتهم الحديثة التي ناهز عمرها التسعين سنة.
تناقض ليس غريبا عن الحياة العراقية العامة التي هي ثمرة تلاقح عاطفة شديدة الاشتعال وقسوة هي الظاهرة التي زادتها الأحزاب قوة وأكسبتها تاريخا تخلل كل مفاصل التحولات السياسية الكبرى التي شهدها العراق في القرن العشرين. وإذ يحن العراقيون إلى ما يسمّونه “الزمن الجميل” في مواجهة حاضرهم الكئيب، فإنهم لا يراجعون تلك الثنائية بطريقة نقدية بل يمرّون خفافا بالصور الوردية المقتطعة بطريقة انتقائية من ذلك التاريخ الذي عصف بهم من الداخل ومكنهم بيسر من أن يحولوا مجتمعهم المدني المتحضر إلى مجموعات متناحرة من الطوائف والأعراق والأديان والعصبيات القبلية والحزبية.
لقد أثبتت التجربة المرة عبر أكثر من عشرين سنة أن التراجع عن الظواهر المدنية والقيم الحضارية ممكن في العراق لا بسبب الاحتلال الخارجي بل بسبب مجموعة الأخطاء التي كانت جزءا من البنية الداخلية للحياة العراقية التي رافقت قيام الدولة العراقية الحديثة. ولو لم يكن الأمر كذلك لما تمكن حزبيو الزمن الطارئ من الهيمنة على ثروات العراق وإنفاقها بما يناسب شهواتهم الشخصية.
وليس صحيحا أن الشعب العراقي غير قادر على إحداث تغيير كبير في حياته الشاملة بدءا بجانبها السياسي. لقد أكدت تجربة الاحتجاجات المليونية التي بدأت في تشرين 2019 أن كلمة الشعب الرافضة والمتمردة والموحدة قادرة على العصف بالنظام السياسي القائم بدليل أن النظام اضطر إلى إسقاط حكومة عادل عبدالمهدي والاستعانة بمصطفى الكاظمي لتشكيل حكومة بديلة. غير أن ما لا يمكن إنكاره أن النهاية المحبطة لتلك الاحتجاجات كانت قد حدثت لا بسبب عمليات القتل الممنهج التي نفذتها الميليشيات فحسب بل وأيضا بسبب افتقار المحتجين إلى الإيمان بقيادة موحدة. لم يتعلم العراقي سوى الإذعان للقوة. كلما كانت الدولة قوية كلما كانت الأمور تجري بطريقة حسنة. لقد كان حدثا إعجازيا أن تقع تلك الاحتجاجات وأن تتمكن قيادتها من ضبطها في ذلك الزمن القصير. ليس العراقيون منضبطين إلا في ظل الفوضى التي تبرمجها النظريات الخيالية. وهنا يكمن السر في تمكن الأحزاب من تمرير فسادها تحت شعارات دينية زائفة.المصدر: شبكة اخبار العراق
إقرأ أيضاً:
إبراهيم شقلاوي يكتب: الحزب الجديد!
ظلّت التجربة السياسية في السودان، منذ الاستقلال في العام 1956، تدور في فلك أزمات متكررة، لم يكن سببها غياب الأحزاب، بل عجزها عن تجديد مفاهيم العمل السياسي وبناء مشروع وطني جامع. فقد تنوّعت الكيانات وتعدّدت الأسماء، لكن كثيرًا منها ظلّ أسير الأجندات الضيّقة وواجهة لصراعات النخب الفاشلة.
في هذا السياق، لا يكفي تأسيس حزب جديد كـ “حزب الكرامة” أو غيره لتجاوز الانسداد في الأفق السياسي ، ما لم يُبنَ على وعيٍ بطبيعة الدور الحزبي نفسه: من يُمثّل هذا الحزب؟ ماذا يُقدّم؟ وكيف يُسهم في إعادة تعريف الدولة والمجتمع؟ فالتجديد المطلوب اليوم ليس في الشكل، بل في الرؤية، والوظيفة، والمفاهيم.
رئيس تحرير صحيفة “المجهر السياسي”، الهندي عز الدين، كتب بالأمس معلّقًا على هذا الاسم في منصة “إكس”، مُبديًا تحفّظه على رمزية “الكرامة”، التي يرى أنها ارتبطت وجدانيًّا بعملية عسكرية “معركة الكرامة”، اشترك فيها الشعب السوداني، لكنها ليست إطارًا سياسيًّا يمكن البناء عليه لمشروع حزبي طويل الأمد. إلا أنه لم يناقش الموضوع . في هذا المقال نحاول مناقشة جوهر الفكرة بعيدًا عن التشكيك في دوافع من يقف خلفها، سواء من رجال أعمال أو قيادات سياسية أو ناشطين.
عليه دعونا نطرح سؤالًا تأسيسيًّا: هل نحن بحاجة إلى قيام “حزب جديد”، أم إلى إعادة تعريف جوهر الفكرة الحزبية والسياسية في السودان؟
بالنظر إلى الواقع السياسي الذي تعيشه بلادنا منذ سنوات، وما تشهده الساحة من ارتباك عميق في المفاهيم والولاءات، إلى جانب بعض الممارسات الحزبية التي ترقى إلى مستوى خيانة الوطن؛ فالأحزاب التقليدية، رغم إرثها التاريخي، باتت عاجزة عن التجديد، بينما تتكاثر أخرى بلا هوية، وغالبًا ما تتأسّس وفق منطق المكايدة أو الطموح الشخصي، لا وفق برنامج سياسي جاد يعكس تطلّعات الشارع ويترجم أولويات المرحلة.
إن تأسيس حزب حقيقي في هذا الظرف يتطلّب ما هو أعمق من اختيار اسم جاذب أو شعار طَموح؛ يتطلّب أولًا إعادة تعريف مفهوم الحزب باعتباره أداة ديمقراطية لصياغة الإرادة الجماعية، لا وسيلة لتكريس المصالح أو تحصيل المكاسب الضيّقة.
إذا لم تتحرّر الأحزاب، القديمة والحديثة، من منطق التوظيف السياسي والمادي، ستبقى أسيرة أدوارها الوظيفية في صراعات عبثية تُعيد إنتاج الفوضى بدل أن تُنتج مشروعًا وطنيًّا جامعًا. لقد تحوّل العمل الحزبي في بلادنا إلى فضاء تغلب فيه الحسابات الشخصية والانتماءات الضيّقة على الرؤية الوطنية الجماعية، مما عطّل قدرتها على بناء مؤسسات تعبّر بصدق عن هموم الناس وتحوّل تطلّعاتهم إلى سياسات واقعية منتجة و فاعلة.
المواطن السوداني لم يعد يبحث عن زعيم مُلهم أو شعار براق، بل عن حزب يمتلك برنامجًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا واضحًا يعالج أزمات المعيشة، والخدمات، والعدالة الاجتماعية. وتُثبت تجارب إقليمية أن الأحزاب التي تقوم على برامج لا على شعارات هي التي أحدثت التحول المنشود. ففي تركيا، مثّل حزب العدالة والتنمية نموذجًا لحزب انطلق من برنامج إصلاحي مكّنه من التدرّج من المعارضة إلى الحكم. وفي رواندا، قادت الجبهة الوطنية بقيادة بول كاغامي نهضة شاملة في بلد خرج من جحيم الإبادة عبر خطاب وطني ومشروع تنموي صارم.
هذه النماذج تؤكد أن الحزب ليس مجرد وعاء تنظيمي، بل أداة لتجسيد إرادة جماعية ومشروع لبناء الدولة. ومن هنا، فإن إعادة هيكلة المشهد الحزبي في السودان لا تتطلّب مزيدًا من الكيانات، بل اندماجًا عقلانيًّا وفق المشتركات الفكرية والرؤى العملية.
المطلوب ليس تعدّد اللافتات، بل وجود ثلاثة أو أربعة أحزاب قوية تُمثّل التيارات الكبرى: الإسلامي، الليبرالي، القومي، اليساري، وتضم تحت مظلّتها الحركات والتيارات عبر برامج واضحة، لا تحالفات ظرفية أو انتهازية.
من أبرز معوّقات تطوّر الأحزاب السودانية استمرار الارتهان لنموذج “الزعيم الأوحد”، الذي يُختزل فيه العمل السياسي في شخصية فردية ترتبط غالبًا برمزية تقليدية أو تاريخية. هذا النموذج لم يعد ملائمًا لواقع السودان الراهن، في ظل تنوّع المجتمع وتباين قدرات النخب. فالعالم تجاوز فكرة “القائد الملهم” إلى نمط القيادة الجماعية المؤسسية، التي تقوم على توزيع المسؤوليات والعمل التشاركي.
هذا النموذج أكثر واقعية أمام تعقيد الأزمات، وأكثر انسجامًا مع الديمقراطية، وأقدر على إنتاج حلول قابلة للتنفيذ، كما يُحصّن الحزب من التبعية الخارجية. ومن هنا ينبغي أن تكون القيادة الجماعية والشورى الفاعلة جوهر أي مشروع حزبي جاد، بعيدًا عن الهياكل السلطوية التي تعيد إنتاج الفشل.
وبحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة، فإن اللحظة السياسية الراهنة تستدعي من النخب الجادة إعادة تعريف العمل الحزبي، لا كوسيلة للوصول إلى السلطة، بل كمنصّة لإنتاج مشروع وطني جامع. فالحزب الذي لا يتجاوز منطق الزعامة والشللية، ولا يمتلك برنامجًا متكاملًا، يبقى عبئًا لا أداة للتغيير. بدون هذا التغيير الجوهري في الفهم، لن تتجاوز الأحزاب في السودان حالة التجزئة والتخبط، وسيظلّ حلم دولة المواطنة والتنمية والعدالة حلمًا بعيد المنال.
دمتم بخير وعافية.
إبراهيم شقلاوي
الأربعاء 11 يونيو 2025م Shglawi55@gmail.com