عدسة عبدالله العبري توثق جماليات وادي دربات فـي محافظة ظفار
تاريخ النشر: 28th, August 2023 GMT
الصورة أبلغ من الكلام
كتب ـ مؤمن بن قلم الهنائي:
(الصورة أبلغ من الكلام) هكذا يقول المصور عبدالله بن خميس العبري وهو الشغوف بحرفية الالتقاط للوجوه والمعمار والطبيعة التي يجوبها شرقا وغربا بحثا عن الجمال والتفاصيل الاستثنائية، ومؤخرا حطت رحاله في (وادي دربات) بمحافظة ظفار المترع بالخضرة والمياه الرقراقة فوادي دربات يلتحف بالبساط الأخضر في موسم الخريف ناشرا السرور في ناظريه ويحيط بالوادي شلال جميل وكهوف صغيرة وجبال طبيعية وبحيرات مائية ويقع الوادي في صلالة وتحديدا شرق ولاية طاقة على بعد سبعة كيلومترات تقريبا ويمتد عبر مساحة كبيرة ويشق طريقه عبر الهضاب والتلال في صلاله وطاقة وصولا الى خور روري ويصب في بحر العرب.
المصدر: جريدة الوطن
إقرأ أيضاً:
حسين العبري: ليس من مهام الأدب فهم النفس والمجتمع، بل تغليب الإمتاعي على الوظيفي
بينما يمضي العالم قدما في تقدمه المادي المحسوس، نجد أنه لا شيء يعطل المعاناة البشرية التي تحتشد ضراوتها المستعرة من حين لآخر. ففي فوران الحواس المحتدمة والتمرغ اليومي في القلق، يخيل لنا أنّ الآداب والفنون تؤدي دورا ما في نجاة محتملة. هنالك أيضا من ينظر للإيمان كعامل مؤازرة وأداة حماية أصيلة من تطرف النفس وعذاباتها.. لا سيما عند غياب الحدود المرئية بين نسيج فطرتنا وبين ما نثره أسلافنا في خلايانا من مشقة بيولوجية مكثفة!
نقترب في هذا الحوار من الكاتب والطبيب النفسي حسين العبري، لمحاولة الكشف عن العلاقة الغامضة بين الأدب وعلم النفس، في نبشهما المستمر عن الدوافع والمحفزات والعقد. نقترب من استعداداتنا الشخصية للانطواء والعزلة والاكتئاب، ونضيء أسئلة حول سيولة المعلومات التي باتت تهدم فرص بناء شيء متماسك، لحظة انغماسنا الهائل في لذة المكافآت الصغيرة والعابرة!
نفتح نافذة صغيرة على الإدراك المحلي لمغبة الأمراض النفسية، وكيف يمكننا -كأفراد ومجتمعات- أن نصمم المصدات الآمنة لمنع تفاقمها إزاء التحولات الكبرى التي تحدق بنا!
لطالما تمت الإشارة إلى العلاقة الغامضة بين الأدب وعلم النفس، فكلاهما يلج عميقا نبشا عن دوافع ومحفزات وعقد. فرويد يؤكد دائما على أسبقية الأدب على علم النفس... فالكثير من «العقد» والنظريات خرجت من نسيج الأساطير ومن روح الأدب؟
العلاقة بين الأدب وعلم النفس تكمن أساسا في أن كليهما يعالجان السلوك والنفس والمشاعر الإنسانية وإن اختلفت أساليب المعالجة والهدف منها؛ فعلم النفس له مناهجه التي تحاول أن تكون موضوعية علمية، وهدفه البحث والتجريب ومعرفة الخصائص والوصول إلى نظريات وفرضيات عامّة؛ بينما الأدب في الجانب الآخر أدواته لغوية ومجازية وأسلوبية، وهدفه الكشف والإبهار وأحيانا اللعب اللغوي. والتحليل النفسي أقرب مناهج علم النفس للأدب، ذلك أنّ التداعي الحر والعقد وآليات الدفاع النفسي والبوح والتعمية والصراع وتأججه وتفككه هي كلها عناصر أدبية بامتياز. ولذلك كان الأدب الكلاسيكي أحد مصادر مصطلحات التحليل النفسي وأحد مصادر مقارباته.
لكن هل الأديب حقا كما يقول فرويد: «طفلٌ يخلق لنفسه عالما من الوهم، يعامله بجدية واهتمام ويودعه كل ما لديه من عاطفة، تفصله عن العالم المحسوس».. هل الأديب المنغمر في استعدادته الشخصية للانطواء والعزلة والاكتئاب هو مريض مع وقف التنفيذ؟
تشبيه فرويد الأديب بالطفل الذي يخلق لنفسه عالما من الوهم، تشبيه يتلاءم تماما مع الألعاب التي يقوم بها الطفل لإبراز رغباته أو إبطائها أو تغليفها أو تحقيقها بطرق قد لا تكون واعية تماما. أما موضوع الجدية في خلق هذا العالم فربما أجدني أكثر حذرا في الموافقة عليها ذلك أنّ الجدية في العمل الأدبي تختلف حسب الأسلوب الأدبي المتبع في الكتابة فهناك مثلا من يجعلك في عمله الأدبي تظن أنه يتكلم عن أمر جاد كل الجدية بحيث يجعلك تصدق ما يقوله وتصدق أنه يمكن أن يحدث بالطريقة التي يقولها، إلا أن بعض الأساليب تفضح الجدية هذه وكأنها تقول دائما للقارئ: انتبه! لسنا هنا بصدد أمر جدي، أو ابتسم قليلا! لسنا هنا جادين كفاية. ذلك لأن الأسلوب الأدبي يفارق أحيانا مبدأ الجدية، الذي يفرضه المنطق الحياتي العام. أما فيما يتعلق بمرض الأديب النفسي واكتئاباته وهوسه وعزلته فلا شك أننا نتحدث عن رؤية خاصة للأدب، تقترب من عدّه نتاجا مرضيا. وربما تكون هذه وسيلة دفاعية لجأ إليها المجتمع لتقبل الأعمال الأدبية والفنية ككل، فالشاعر يمكن أن يتغزل مثلا ويمكن أن يذهب في الغزل إلى نهاياته الحسية ذلك لأنّه «شاعر»، وكذلك فالراوي يمكنه أن يقول الكثير ويبدع ويتفنن ويقول كل ما في حوزته فقط لأنه «مبدع».
لذلك فإن جنون المبدع أو الأديب يتوافق مع شطحاته وخروجه عن السائد وغير المألوف والمضي بالإبداع إلى منتهاه من غير حذر ولا رقابة ولا كبت. على هذا فعلا يمكن أن يعد الأديب أو الفنان ككل مريضا نفسيا، لكنه مرض نفسي يتجلى في الكتابة وفي النتاج الأدبي والفني، لكنه فعلا قد يمتد ليشمل الكاتب والفنان نفسه، فمن ينتج عملا مجنونا ربما يكون هو مجنون أيضا، ولكن هنا ربما نلجأ لمصطلح الكاتب المنتمي واللامنتمي، فالكاتب المنتمي مع كل جنونه في الكتابة هناك عالم آخر يعيش فيه وينتمي إليه، ولذلك هو عاقل وجنونه تحتويه صفحات كتابته أما اللامنتمي فربما يخرج جنونه من صفحات كتاباته ولوحاته وإبداعاته إلى عالمه هو ذاته.
بأثر رجعي تشير بعض الدراسات إلى أنّ فان كوخ، ونابليون بونابرت، ونيوتن، وتشرشل، وفيرجينيا وولف، وسيلفيا بلاث، وإرنست همنجوي وآخرين كانوا مصابين بالاكتئاب، وترجح الدراسات بأنّ الأدباء والفنانين أكثر عرضة للإصابة به مقارنة بالآخرين، وقد يدفعهم لإنهاء حياتهم.. ما تعليل ذلك؟ وهل يمكن أن تغدو الكتابة والفنون بمختلف أشكالها مصدر حماية من هلاك مؤكد؟
نعم تشير الدراسات إلى أنّ العديد من الكتاب والأدباء والفنانين كانوا مصابين بالاكتئاب، وخصوصا الاكتئاب الهوسي، أو ما يسمى حديثا بثنائي القطب، وطبعا يمكن أن نرى في هذا أن الكتاب والفنانين أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب أو الاكتئاب الهوسي لكن أيضا يمكن أن نرى فيه العلاقة العكسية، أي أن من هم مصابون بهذه الاضطرابات النفسية يمكن أن يكونوا أكثر عرضة للإصابة بالكتابة، إن كنا لِنرى الكتابة أو الفن أمراضا من نوع ما. وعلى كل، فإن ما يفرضه الفن والأدب من عزلة وتقلبات مزاجية وهوس بالذات واللغة هي كلها عوامل يمكن أن تؤدي بالمرء إلى الاكتئاب. لا ننسى أيضا أن الكاتب والفنان يضخمان من أهميتهما ويضغطان على نفسيهما كثيرا من أجل الوصول إلى إنجازات ذات قيمة.
وهذا الضغط ربما يؤدي -بحد ذاته- إلى انفجار الأمراض النفسية داخلهما. فالاكتئاب ربما ينشأ من الضغط الداخلي على الذات من غير أن يُنتج شيئًا ذا بال، ويمكن أن يؤدي الضغط إلى أن يصبح المرء مهووسًا، أي أن يصبح عظيمًا ويحقق عظمته داخليًا عبر آليات مرضية، كذلك لا ينبغي أن نغفل عن أن القلق الشديد يمكن أن يؤدي هو الآخر إلى الاكتئاب المزمن، أضف إلى ذلك أن بعض الشخصيات المضطربة يمكن أن ترى في الأدب ملاذًا ولذلك فهي مضطربة أصلا ونتاجها الفني والأدبي نتاج سببه الاضطراب المبدع وليس إبداعهم سبب جنونهم. ونعم، في الجانب الآخر قد تشكل الكتابة والفن عملًا وقائيًا ضد الإحباط والاكتئاب لكن هذا أتوقع أكثره في الأشخاص الذين لا يمتهنون الكتابة الإبداعية؛ فالكتابة عمل تنفيسي بامتياز ويمكن في حالات أن يكون عاملًا من عوامل البرء النفسي والوقاية من الأمراض النفسية لكن ذلك لا يتأتى إلا مع وجود نوع من النضج والفهم. نعم قد تكون الكتابة واقية من الحالات النفسية الاكتئابية والمزاج السيئ لكن ذلك لا يحدث بالضرورة.
لا يتمكن الأجداد من فهم الأجيال الجديدة التي تتحدث عن إصابتها بالاكتئاب مثلا أو الأمراض الذهانية، لديهم تصور جاهز بأنّ هذا الجيل المدلل لم يُكابد «تعبًا» مُماثلا لما عايشوه هم في عقود مضت، عندما كانت أياديهم العارية ترتطم يوميًا بمشقة العيش؛ إذ لا يدركون أنّ صنوف «المعاناة» متغيرة بتغير الزمن. كيف ترصد هذه الفكرة من حيز عملك الواقعي أعني حركة الأفكار المجتمعية؟
لا شكّ أن حركة الأفكار المجتمعية وتغيرها مع الأجيال يمكن ألا تؤدي إلى رؤى مختلفة تماما، ولا شك أن الجيل الأقدم يفهم الأمراض النفسية والمعاناة النفسية فهما مختلفا جدا، والمشكلة التي تتراءى لي أن التغيرات القادمة من الخارج والنابعة من تغير العالم ككل تغيرات كبيرة جدا بحيث يجعل الأفكار التي يفكر بها الجيل الحالي أو القادم مختلفة كثيرا عن الأجيال الماضية. ولا شك كذلك أن هناك تغيرات متداخلة، بعضها إيجابي وبعضها سلبي، فهناك مثلا فهم أعمق للنفس عند الجيل الجديد، أو لنقلْ أن التعلم وفهم العالم بشكله الحالي وفهم التقنيات الجديدة، كلها تجعل الجيل الجديد أكثر قدرة على فهم أنفسهم وتحليلها وتفكيكها، لكن هذا الفهم لا يصب دائما في تحسين البنية النفسية لدى الإنسان، بل من المشاهد حاليا أن هناك نوعًا من الهشاشة النفسية في الأجيال الحديثة، وهذه الهشاشة قد تكون نابعة من تغير الأساسات النفسية والمجتمعية المستمرة، وكأن هناك نوعًا من السيولة في المعلومات والأفكار والأسس والقيم تجعل بناء شيء متماسك أمرا صعبا جدا. وهذه إحدى التحديات الرئيسة التي نواجهها في عصرنا هذا، وهذا يجعل كل شيء مندفعًا بجنون في اتجاهات مختلفة لا يمكن قبضها ولا فهمها وتؤدي بالتالي إلى توترات نفسية عديدة ينتج عنها أمراض نفسية. هذه المشكلة في اختلاف الرؤى قد تشكل عدم قدرة الأجيال على فهم بعضها بعضا؛ لأنه يضخم الفجوة بينها.
في كتاب «تاريخ التعب» للكاتب جورج فيجاريلو، إشارة واضحة إلى أنّ تراجع الأعمال المُنهكة التي حلّت محلها الآلة، لا يعني بالضرورة أنّنا قلصنا العقبات المحتملة وصنوف الهشاشة وقابلية العطب البشري. «يبدو أنّه - أي التعب- مترسخٌ في الأجساد مسجلٌ أيضا عبر القرون في الوعي وفي البنيات الاجتماعية إلى أن يصيبنا في العمق».
المعاناة شرط وجودي، والحياة دار ابتلاء، والمعاناة ليست نوعًا واحدا بحيث إننا لو أزلناه زالت المعاناة، ستظل المعاناة موجودة مع الآلة أو بدونها، مع الذكاء الاصطناعي أو بدونه، وتحقيق السعادة لا يتأتى من غياب المعاناة بل من تقبل المعاناة وفهمها وفهم أسبابها والتعامل معها. سيظل التعب الإنساني والهشاشة الإنسانية موجودة مهما تعاظمت قدرات الكائن البشري. وظهور أدوات تقنية معينة يدفع بالمعاناة إلى مساحة أخرى ربما، فمثلا حين تطورت التقنيات الطبية وتمكنا من زيادة العمر المتوسط للإنسان ظهرت معاناة كبار السن بطريقة لم تكن موجودة سابقا. ويبدو أنّه مع التقدم الطبي وتخفيف المعاناة العضوية، أي القدرة على التعامل مع الأمراض العضوية، سنجد أنفسنا أمام حشد هائل من المعاناة النفسية. لا أشك في ذلك.
عندما أطلبُ من أبنائي أن يرفعوا أعينهم قليلا عن شاشات الأجهزة لتأمل قرص الشمس أو لمراقبة كائن عابر أو شجرة، يبدو لهم أنّ المسألة تخلو من أي معنى. ألا تظن أنّ غياب التأمل، جوار التحريض المستمر بضرورة تحقيق الذات، في جو من التنافس الشرس، سيقنن العاطفة وسينتج انحرافات نفسية جديدة أم أنّ مخاوفنا مُبالغ فيها؟
كما ذكرتِ فعلا، فإن الأطفال الآن لا يجدون في الطبيعة والتأمل عوامل جاذبة، إنّها لا تحفز فيهم المتعة؛ ذلك لأن الألواح الإلكترونية والألعاب والشاشات توفر مكافأة أسرع، وما يوفر مكافأة أسرع يحظى بالقبول المباشر، هكذا يعمل الإدمان. لا بد من وضع تصور للأطفال يوازنون فيه بين العالم الافتراضي والواقعي وإلا فالميل سيكون حتما للعالم الافتراضي الغارق في لذات سريعة والخالي من الرضا الحقيقي والسعادة الحقيقية التي تأتي مع البطء ومع الانغماس في المتعة المحفوفة ببعض التعب.
هل تظن أنّ الأدب والسرد في عُمان عدسة مكبرة لأوجاع خفية نفسية مخبأة في العتمة؟
هذا سؤال لا يمكنني أن أجيب عليه جيدا؛ لأنني لستُ متابعًا جيدًا لما يحدث في الساحة الأدبية والسردية، وهناك العديد من الإصدارات الحديثة التي لم أقرأها، ولكن يُخيل لي أنّ الأدب يعكس بطريقة أو أخرى ما يدور في المجتمع، لكن ليس بطريقة أن يكون عدسة مكبرة لخفايا المجتمع. لا أرى من وظيفة الأدب -إن كانت له وظيفة بالمعنى المباشر- أن يعرض مشاكل المجتمع وأوجاعه، فلماذا لا يعكس أفراحه ورغباته وأمنياته، ولا أستطيع أن أرى في الأدب طريقة لكشف التغيرات المتسارعة فيه. نعم، سيحدث هذا، سينعكس شيء ما في مرايا الأدب، أو سينفذ -إن شئنا- في عدساته ما يمر به المجتمع، لكني لستُ ممن يرون في الأدب وسيلة لفهم النفس ولا المجتمع، وهذا ربما لأني أغلب الجانب الذوقي والجمالي واللغوي والطربي في حبي للأدب، أي الجانب الإمتاعي، لا الجانب الوظيفي الاجتماعي الكاشف، أحب أن يكون هذا الجانب من نصيب العلوم الاجتماعية.
لنقترب أكثر من المعاناة اليومية التي تحدق بنا الآن: رؤوس مقطوعة وصراخ من تحت الأنقاض وزبد يخرج من أفواه تنطقُ الشهادة.. وإزاء كل هذا نلعبُ نحن دور «المنتظر» لمنتصر أو مخذول. برأيك ماذا يحدثُ لنا ونحن نتعرض لكل هذا السيلان الإخباري منذ السابع من أكتوبر؟
يحصل من سيلان العنف الذي نراه على شاشات الأخبار يحطم البنى النفسية والأخلاقية التي نشأنا عليها، تتحطم كل الشعارات الأخلاقية والاجتماعية والإنسانية، وهذا طبعا له عواقبه الوخيمة علينا، لا يمكن العيش في بيئة مختلة منحطة إلى هذه الدرجة. وهذا يرجعنا فعلا لقانون الغاب الذي ظننا أننا خرجنا منه منذ آماد. ويجعلنا نفقد الثقة بالإنسان ككل. وطبعا يجعل الإنسان في هذا الجانب من العالم يفقد ثقته بالشرق والغرب يجعله منكوبا منتهكا ومذلا مهانا.
هل يخلط المجتمع والطب النفسي على حد سواء بين المرض وبين البصائر فائقة الحدس؟ فبدلا من أن تكون تلك السمات الشخصية مُحرضات لإبداع ما، تغدو مجرد أوهام تُكرسُ الجهود لمحوها أو تخديرها؟ ولعلي أتذكر هاهنا أنطونان أرتو -وهو فنان وكاتب وممثل ومنظر مسرحي كتب كتابا مهما بعنوان «فان جوخ، مُنتحر المجتمع»، ترجمه إلى اللغة العربية الشاعر عيسى مخلوف.. كان أرتو غاضبا من أولئك الذين ينظرون إلى الفنانين على أنّهم مرضى، ولذا قرّر أن يكتب عن فان جوخ لتبرئته من الجنون، منتقدا بشدة علماء النفس والمجتمع، ومتسائلا حول إمكانية إبطال المسافة بين النبوغ والجنون ؟
فعلا، أتفق أنّ المجتمع يرى الفنان والأديب والمبدع مجنونا بعض الشيء، لكن الكلمة هنا ليست بذلك السوء والسلبية، فالمجنون رديف المتنبئ والقادر على سماع همس الكائنات السماوية، والمبدع المتجاوز مختلف عن الناس العاديين من وجه ما، وهذا ما يدعو أحيانا للقول: إنه ربما يكون مجنونا، لذلك لا أجد في أن يقال مجنون على الكاتب أو المبدع أمرا سلبيا، بل ربما فيه مدحا بما يشبه الذم، أضف إلى أنه كما تعرفين فإن الشعراء القدامى كان لهم قرناء يسكنون وادي عبقر، وهذا الوادي موئل شعراء الجن. بطريقة ما لفظ الجنون هنا ليس سالبا بالمطلق، وفيه الموافقة على بعض الاختلاف بين المبدع والآخرين، وأيضا فيه محاولة للتفسير، وذلك بعزو الإبداع لخصيصة غير متاحة للجميع، أضف إلى ذلك أن إطلاق الجنون على المبدع ربما يمنحه بعض المساحة ليقول ما يشاء. وكأن المجتمع يوافق بطريقة ما على أن يقول المبدع أو يأتي بسلوك لا يراه المجتمع مناسبا ليحظى بمساحته المناسبة.
على الجانب الآخر: قدّم الأدب والفن الطب النفسي على أنّه متاهة لا نهائية، فلطالما صوّرت لنا السينما المعاناة والعذاب بالأدوية والجلسات الكهربائية، التنقل المُريب بين المصحات العقلية، ومحاولة الأبطال الشجعان للنجاة منها؟
صورة الطب النفسي والأطباء النفسيين والعلاج النفسي في السينما والأدب هي نتاج طبيعي لرؤى المجتمعات وتطور هذه الرؤى عبر التاريخ. فهناك مثلا ذلك التخويف والهلع من الطب النفسي، ومن العلاجات المقدمة، مع أنّ العلاجات المقدمة لأمراض أخرى كانت أسوأ بكثير. لكن في كل الأحوال هناك رؤى مختلفة تقدم عبر الأدب والسينما للطب النفسي؛ فهناك بإزاء الجنون الذي يوصم به من يزور طبيبا نفسيا، هناك أيضا صورة من الحس الراقي للذي يُقدم على العلاج النفسي وكأنه امرؤ متقدم نوعا ما. أما الصورة المشوهة فهي أحيانا نتيجة لأن الموضوع جاذب جدا ومشوق جدا للناس ولذلك تُحاك حوله القصص والأساطير. لكن التشويه يتلوه توضيح ويتلوه تثقيف، والناس هم من يختارون، ولا يجب أن نقف طويلا إزاء الأعمال الدرامية التي تكبر أو تصغر أو تشوه، فالأدب والسينما ليسا وسائل تعليم مباشرة تقال فيهما الحقائق.
في كتاب «عقلٌ غير هادئ» تصف الطبيبة كاي جايمسون فعل الانتحار، «وكأنّ شبحا آخر يحاول إنهاء حياته، بينما هو يشاهد تلك الكارثة دون أن يحاول منع الذات الأخرى من اقترافها!. إذ يحتجزُ الاكتئابُ الناس كرهائن، فيغدو العقل كعدو مراوغ وهو يجلبُ لأحدنا الجنون ببطء شديد؟
وإن وصم المرض النفسي بشيء من «العار»، فما بالك بمن يُقدم على فعل «الانتحار» دون فهم الميكانيزمات الدفاعية التي يتخذها العقل في لحظة شديدة الخطورة والمجازفة؟
موضوع الانتحار موضوع شائك جدا، فمتى يقدم المرء على الانتحار؟ وهل يكون بكامل وعيه وكامل إرادته قبيل لحظة الإقدام؟ ما نراه، كأطباء نفسيين، أنّ المنتحر عادة ما يكون في مرحلة مشوشة جدا أثناء إقدامه على الانتحار، مشوشة بمعنى أن الأبعاد الطبيعية لحب الحياة والبقاء تكون ليست بذات الأبعاد عند الشخص «العادي». المشكلة أحيانا تكمن أنّ كلمة الاكتئاب تؤخذ على أنّها حزن، ولكن الحزن قد يكون الطرف الذي يعرفه الناس غير المصابين بالاكتئاب، ولو أخذنا بتقسيم الاكتئاب على أنه بسيط ومتوسط وشديد، فإن الاكتئاب البسيط يمكن أن يكون حزنا أعمق وأطول مدة، لكننا حين نرتقي في سلم الشدة يتغير الاكتئاب ليكون أمرا آخر، نوعا آخر تماما، تختلف نوعية الحزن هنا، لا يصبح المرء حزينا بعمق، يصبح مختلفا، تصبح الحياة قاتمة بدرجة لا تتصور، وكل شيء يتغير كما لو أنّ المرء يدخل عالما آخر. لذلك حين تزيد شدة الاكتئاب يصبح المرء مختلفا، تنتابه الأفكار السلبية بدرجة لا يمكن الفكاك منها، يلوم نفسه لأسباب تافهة لا معنى لها، ويرى العالم مكانا سيئا جدا، ويرى الآخرين سيئين وسلبيين، ويفقد الثقة بكل أحد، وقد يدخل حتى في هلاوس وأوهام تؤكد رؤيته السلبية هذه. لذلك فإن كمية الإرادة التي يمتلكها الشخص حين الإقدام على محاولة الانتحار قد لا تكون كما نتوقعها، وطبعا هذا يمكن أن يفسر نوعا ما بما يسمى «خطأ الإسناد الأساسي» والذي فيه يسند السلوك الذي يقوم به الفرد لخصائصه وطبيعته، أي نميل إلى القول إن المرء حاول الانتحار لأنه يرغب في ذلك وقادر على ألا يقدم عليه. ولا يمكن، حتى الآن على الأقل، قياس نسبة ما هو إرادي وما هو غير إرادي في فعل الانتحار. من الجدير بالذكر كذلك أنّ الانتحار ليس حكرا على المصابين بالاكتئاب بل يظهر بنسبة معتبرة لدى المصابين بالفُصام العقلي، والأمراض الذهانية الأخرى؛ فالهلاوس السمعية الآمرة والأوهام قد تكون هي وراء الإقدام على الانتحار في هؤلاء المرضى.
وهذه الهلاوس والأوهام ربما تكون هي وراء إقدام المصاب بالاكتئاب على فعل الانتحار. الدين قد يكون عاملا مانعا من الانتحار لدى الكثير من المصابين بالاكتئاب، وهذا ما تدل عليه الدراسات؛ فالإحساس بأن هناك حكمة من المرض، والمرض النفسي على وجه الخصوص، والإيمان بأنّ هناك حياة أخرى، والخوف من العذاب في الحياة الأخرى، كلها عوامل تساعد على منع الانتحار، بيد أنّ المشكلة مرة أخرى تقبع في كمية الوعي والإرادة التي تكون لدى المرء حين إقدامه على الانتحار. لذلك فإن إطلاق الأحكام جزافا قد لا يكون في صالح أحد وقد لا يساعد.
يضع البعض «الدين» في علاقة تضاد مشوهة مع الطب النفسي، وكأنّ قوة الإيمان لا ينبغي أن تتسرب إليها هشاشة نفسية، ما يدفع البعض لأن يتمرغوا في آلامهم في الخفاء؟
هناك من يربط المرض النفسي وغياب الوازع الديني. المنطق حسب هؤلاء يسير هكذا: الإنسان المؤمن الذي يعرف الله حقا تكون نفسه مطمئنة؛ ولذا فالنفس المطمئنة الراضية بما قدره الله لا يمكن أن تُصاب بمرض نفسي، فالهشاشة النفسية هي من نصيب من لا يؤمن بالله. وأرى أنّهم واقعون في لبس؛ فبداية هم لا يرون المرض النفسي مرضا حقيقيا يمكن مقارنته بالمرض العضوي، بل يرونه وكأنه حالة مزاجية عامة يمكن دائما ضبطها بالأفكار الإيجابية التي يبثها الدين في النفس. لكن - مع الأسف - المرض النفسي أعمق بكثير من كونه حالة مزاجية عابرة يمكن تغييرها بسهولة، بل هو مرض حقيقي، مرض فيه تغيرات بيولوجية مدروسة جيدا، لكن غير مفهومة بأكملها حتى الآن. ممكن أن نقارن الأمر بأمراض الجهاز الهضمي: من الجيد والنافع كثيرا أن يكون المرء متبعا لنظام غذائي صحي وأن يُمارس الرياضة، لكن هذا السلوك لا يعني أن المرء لن يصاب بمرض في الجهاز الهضمي، وإذا أصيب بمرض في الجهاز الهضمي فيمكن فعلا أن نقول له عليك أن تتبع نظاما غذائيا صحيا وأن تفعل كذا وكذا، ولكننا نقول له أيضا: إنك مصاب بمرض، وإن المرض هذا يحتاج إلى تدخلات علاجية معينة. لا تعارض هنا بين الأكل الصحي والسلوك الصحي من جانب، وبين التدخلات العلاجية من الجانب الآخر. وكذلك لا تعارض بين الإيمان وبين التدخلات العلاجية للأمراض النفسية؛ فالتداوي واجب، حتى من الجانب الديني، في كلا النوعين من الأمراض، الهضمية والنفسية.
في المتن العُماني لعبت الخرافة دورا كبيرا في التعامل مع الأمراض النفسية.. تلك القوة الخفية للسحرة و «العِلام» والأعمال؟
هناك من يُداخل بين المرض النفسي وتدخلات كائنات فوقية، فمثلا المصاب بمرض الفصام العقلي، وهو مرض نفسي جسيم، يظهر على هيئة هلاوس سمعية، وربما بصرية وشمية ولمسية وذوقية أيضا، وأوهام اضطهادية وأوهام عظمة، وأنواع أخرى من الأوهام. هذا المصاب كونه يُعاني من نوع مختلف تماما من التجارب التي تعود الناس عليها نرى البعض يسارع للقول بدون أدنى علم إنه يعاني من مس جان أو شيطان أو عين، وبالتالي لا يحتاج إلى علاج نفسي أو زيارة طبيب، بل إلى زيارة «معلم» أو عالم دين، والمشكلة أن بعض هؤلاء - ولا نقول كلهم - لا يمارسون ما يمكن أن يُقال عنه رُقى شرعية، ولا يكونون علماء حقيقة بل بعضهم دجالون بلا أدنى شك، وبالتالي لا يفيدون المريض من حيث جلب الطمأنينة الدينية له، بل يؤخرون فحسب ذهابه للطبيب النفسي.
ويبدو أنّ للوسوسة قصّة أخرى في الذهنية المجتمعية أيضا؟
هناك من يلتبس عليه مرض الوسواس القهري بوسواس الشيطان؛ فالوسواس القهري مرض يتمظهر بأن المريض تكون لديه أفكار أو تصورات متكررة غير مرغوب فيها تؤدي به إلى القيام بسلوكيات قهرية. والمرء في هذا المرض يكره ما يفعله وينفر من الأفكار التي تراوده على عكس وساوس الشيطان فهي محببة للنفس عادة وتداعب الغرائز.
وفي كل الأحوال فإنه من الجيد في بعض الوساوس القهرية - وخصوصا تلك المتعلقة بالعبادات والعقيدة - أن يحول الطبيب النفسي أو المعالج النفسي المريض بها لأخذ الحكم الشرعي. فمعرفة الحكم الشرعي بأنّها مرض نفسي ووساوس قهرية أمر يساعد أحيانا على العلاج، ولكنه لا يزيح أهمية العلاج النفسي أو الدوائي للمرض.
من المهم أن نقول إن التدين يولد بنية نفسية قوية؛ ولذا فإن الإيمان يمكن أن يعد هنا وقاية من بعض الأمراض النفسية. فالصبر وتقوية الإيمان والعودة لله كلها عوامل فاعلة في علاج بعض أنواع الاكتئاب الخفيف والقلق الخفيف والوساوس الخفيفة. بيد أن الأمراض النفسية هي أمراض؛ ولذا فإن تحميل الشخص لعبء أنه لم يصح من مرضه لأنه غير متدين كفاية، أو أن مرضه سببه عدم تدينه أو عدم قوة هذا التدين- هذا لا يصب في مصلحة الشخص، بل يزيد من أعبائه. ونحن نعرف حاليا أن المرض النفسي ظاهرة معقدة تنتج من تلاقح عوامل البيئة والجينات والتنشئة والعوامل الخارجية، ولا يجب أن تحصر في عامل واحد. والمتدين وغير المتدين يصاب بالمرض النفسي، بل إنه من المناسب القول إن الوسواس القهري - وخصوصا النوع المتعلق بالعبادات والعقيدة - يصاب به المتدين أكثر من غير المتدين؛ ذلك لحرص المتدين الشديد على أداء دينه بشكل متقن.
لو اقتربنا من السياق المحلي: كيف ترى نمو الطب النفسي في عُمان ؟
هناك نمو للطب النفسي في عُمان من حيث تعدد مراكز تقديم الخدمات النفسية وزيادة عدد الأطباء النفسيين، لكن - مع الأسف، وكما أرى من زاويتي - لا أرى التقدم متناسبا مع زيادة عدد السكان، ولا مع زيادة الاهتمام العالمي بالطب النفسي والصحة النفسية، مثلا هناك مستشفى واحد فقط للطب النفسي فيه يُنوَّم المرضى النفسيون، وهذا المستشفى بحاجة إلى زيادة في عدد الأسرة؛ ليستوعب الأعداد المتزايدة من المرضى المحتاجين للرعاية الداخلية، وفي أقسام المستشفى الداخلية لا توجد أماكن منفصلة للمرضى النفسيين كبار السن، ولا للمرضى الذين يعانون من إعاقات ذهنية، وقسم الطب الجنائي في المستشفى يمتلئ حاليا بعدد كبير من المودعين بأمر قضائي، بينما يقبع العديد من هؤلاء المرضى النفسيين المودعين بأحكام قضائية في السجن المركزي، ولا يبدو- حسبما يصل إلى مسامعنا - أنّ المكان مؤهل طبيا ونفسيا لهؤلاء. كذلك فإن عدد المعالجين النفسيين في المستشفى الوحيد هذا لا يتناسب مع عدد المرضى الذين يحتاجون إلى علاج نفسي مع العلاج الدوائي. أما فيما يتعلق بالعيادات النفسية في مراكز المناطق فهذه عيادات خارجية، وقد فشلت المحاولات المتكررة منذ بداية الألفية في أن يكون هناك أقسام داخلية للتنويم، بحيث يمكن تنويم الحالات من الدرجة المتوسطة أو التي لا تحتاج إلى التنويم في مستشفى ثالثي.
إن كان هذا هو واقع الحال في العاصمة فكيف يبدو الأمر في المناطق الأبعد؟
العيادات في مراكز المناطق هذه ليست مؤهلة تأهيلا كاملا؛ فإضافة إلى أنه لا يوجد تنويم داخلي، لا يوجد في أغلبها - إن لم يكن في كلها - معالجون نفسيون، ولا اختصاصيون اجتماعيون. أما إذا جئنا لمراكز تأهيل المدمنين فمع أنّ البلد تُعاني من مشكلة كبيرة فيما يتعلق بهذا الأمر؛ إلا أن مركز الإدمان تأخر كثيرا حتى يفتتح أخيرا في مسقط، ولم يفتتح بعد في صحار رغم أنّ المبنى جُهز منذ أكثر من 5 سنوات. وفي مسقط تراجعت العيادات النفسية التي كانت في المجمعات الصحية؛ فقد كانت هناك عيادتان في المجمعين الصحيين الرئيسيين في العاصمة، إلا أنهما ليستا مفعلتين تفعيلا تاما، ولا يوجد بهما معالجون نفسيون كذلك، بل إنّ الأدوية أحيانا غير متوفرة ويجب أن يرجع بعض المرضى إلى صيدلية المستشفى المرجعي لأخذ الدواء. وفي الآونة الأخيرة أزيحت العيادة النفسية من واحد من هذه المراكز لتقبع في أحد المراكز الصحية النائية في حركة قد تكون رمزية لإقصاء الصحة النفسية واستبعادها وهو أمر حصل مع بناء المستشفى الحالي الذي لا يقبع في مكان وسط في العاصمة بل قصد منه الإقصاء كذلك. أما فيما يتعلق بالمستشفيات العامّة الكبرى فأكثرها لا يحتوي على قسم للطب النفسي، مع أن نسبة معتبرة من المرضى المنومين في المستشفيات العامّة تحتاج إلى تدخلات نفسية، بل إن واحدا من المستشفيات الضخمة لدينا يعتمد بأكمله على معالجة نفسية واحدة!
وهل تزحزح الوعي المجتمعي بأهمية الطب النفسي بين الأجيال المتعلمة الآن أم أنّ «العِلاّم» لا يزالون في المقدمة؟
كثير من الناس لا يعرفون الفرق بين الحزن العادي مثلا والاكتئاب، ولا يعرفون أنّ الهلاوس والأوهام يمكن أن تكون أعراضا لأمراض نفسية جسيمة، ولا يعرفون متى ينبغي أن يذهبوا إلى العيادة النفسية، وطبعا فإنهم يفضلون الذهاب إلى «المعالمة» والمعالجين الشعبيين. وفي الآونة الأخيرة هناك رواج لأهمية العلاج الشعبي غير مستند على أسس علمية، يُغذى بأفكار مثل عدم جدوى العلاجات الدوائية، وسميتها، وتدميرها للجسم، وعدم جدوى العلاجات النفسية، وأنّها غير متوافقة مع قيم المجتمع أو غير متناسبة مع الإيمان. والمشكلة أنّ العلاجات الشعبية المقدمة غير مقننة من قبل وزارة الصحة، ولا يتطلب فتح نشاطاتها شروطا علمية، وهي أغلبها تقوم على العمل على الإيحاءات النفسية وعلى الدعايات المضللة. وربما الأمر المزعج في الأمر أن الأشكال القديمة للعلاجات والتدخلات العلاجية غير المستندة على الدليل العلمي، بدأت تحل محلها أنواع جديدة من الدجل الحديث. مثلا هناك رواج لعلاجات الطاقة والذبذبات، وهناك رواج لاستعمال أجهزة حديثة تقوم بعلاج أمراض عديدة، وكلها لا تقوم على أدلة علمية، ولا يشترط في العمل بها تقديم ما يدل على فائدتها العلمية الموثقة. وإذا كانت العلاجات الشعبية القديمة مبنية على جهل وعدم معرفة من قبل الأشخاص الذين يميلون إليها؛ فإن الدجل الحديث أو التدخلات العلاجية المبنية على علوم زائفة تلقى رواجا عند المتعلمين. ومع هذا فهناك من يختارون الطب النفسي والعلاج النفسي، وهناك حركة إيجابية بهذا الاتجاه، إلا أن هؤلاء أيضا تواجههم مشكلات مثل الوصمة؛ فلذلك يخافون أن يذهبوا للمجمعات الصحية القريبة من بلدانهم، وكذلك يخافون من تسرب بياناتهم. يخافون أن يتأثروا إن هم ذهبوا للعلاج في مركز نفسي حكومي. يخافون على وظائفهم وعلى حياتهم الاجتماعية، ويخافون أن يُعرف ما بهم. وبعض هذه المخاوف متوهم، ولكن بعضها مبرر.
وجد بعض مدربي «التنمية الذاتية» خدعا جيدة لمراوغة الآلام تلك الكلمات المشبعة بالأمل، بينما لا تتجاوز خبراتهم أن تكون نتاج دورات متعجلة ومدفوعة!
من المهم معرفة أنّ التنمية البشرية ودوراتها لا تتعلق بالعلاج النفسي، وليست بديلا للعلاج النفسي ولا للطب النفسي، وخصوصا للأمراض الجسيمة منها. وهي تقوم على أسس بعضها مشكوك في علميته. وقد تكون مفيدة في تنمية بعض المهارات التي يفتقدها الشخص والتي تسبب أزمات نفسية لديه؛ فمن الممكن أن تعزز الثقة بالنفس مثلا وأن تدفع الشخص لتنمية مهاراته العملية والعلمية، وكل هذه الأمور جيدة جدا وتصب في صالح الشخص. لكن من المهم كذلك معرفة أنّ بعض تقنيات التنمية البشرية لا تعتمد على الواقعية، وتفرط في الإيجابية بعكس العلاجات النفسية التي عادة ما تركز أكثر ما تركز على معرفة الواقع وعلى الواقعية ككل؛ فالحياة مليئة بالألم والتحديات ولا ينبغي اختزالها في الجانب المشرق والايجابية. ولذلك؛ فإن دخول دورات التنمية البشرية يمكن أن تكون جيدة لأولئك الذين يبحثون عن تحفيز ذاتي وعمن يساعدهم لإطلاق مواهبهم وقدراتهم وخصوصا فيمن يكون لديهم ثقة متدنية بالذات، أو يعانون من عدم قدرة على الخروج من بعض العادات السلبية، لكنها يمكن أن تكون مضرة لأولئك الذين يعانون من اكتئاب أو قلق أو أمراض نفسية أخرى، أو من يرونها بديلا للعلاج النفسي.
ربما من حسن حظنا وجود أولئك الذين يدونون في مذكراتهم ويومياتهم مع عذاباتهم، وما يُلاحظونه من تغيرات في النفس الهائجة؛ القلق واضطرابات النوم، وكيف أصبحوا في عزلة مؤلمة، كما هو كتاب «ظلام غير مرئي» للكاتب وليام ستايرون الذي سمح لنا كقراء دخول عقله المشوش، ولمس مواطن عجزه ؟
اليوميات التي يكتبها الأشخاص المصابون بأمراض نفسية أجدها مفيدة جدا؛ لأنها تفهم الآخرين أنّهم ليسوا وحدهم الذين يعانون، وأن هناك من عانى مثلهم، ومن استطاع أن ينجح في الخروج من محنته ومتاهته، وأن هناك طرقا معينة يمكن اتباعها لمساعدة الذات. بالفعل يجد العديد من الناس ملاذاتهم ومنقذاتهم في أمور ، يمكن أن يجدها أحدهم في الذكريات أو في الكتابة ذاتها أو في الأصدقاء أو في العائلة أو في الطبيعة. هناك أمور عديدة يمكن أن تُشكل نقاط تحول في انعطافات المعاناة، وربما الأهم أن يظل المرء متشبثا بالأمل، إلا أنه - ويجب أن نقول هذا أيضا - الأمل ذاته ربما يتلاشى مع الاكتئاب.