15 يونيو، 2025
بغداد/المسلة: كتب رياض الفرطوسي:
لا أحد يعرف على وجه الدقة متى تبدأ الأزمة، ولا إلى أين تنتهي. في العراق، لا تولد المآسي من الصدفة، بل تُربّى على مهل، كما يُربّى السرطان في الجسد دون ألم ظاهر. تُدار الكوارث كما تُدار صفقات الغرف المغلقة: بدهاء، بصمت، خلف ستائر من دخان، وعلى وقع مزامير الإعلام.
الوجوه تتبدّل، لكن اليد التي تُشعل الفتيل تبقى ذاتها: يدٌ تتقن عزف الفوضى، وتحوّل الاضطراب إلى نشيد وطني بديل. تارةً باسم الطائفة، وأخرى تحت شعار “السيادة”، وثالثة عبر خرائط مفخخة بعناوين: التخوين، الاصطفاف، الهويّة، الدستور، أو حتى قطعة قماش تُدعى “العباءة الزينبية”.
منذ شهور، والمواطن العراقي يترنّح بين الأزمات كما يترنّح المخمور بين الكؤوس. من خور عبدالله إلى العشوائيات، من نزاع على فتوى أو على تحريك ملف الكهرباء، إلى التراشق على الرواتب أو التعليم أو حتى حادث عرضي في شارع جانبي. كل أزمة لا تأتي بمفردها، بل تُنجب ألف شائعة، وتفتح ألف نافذة للانقسام. الإعلام المحلي وبعض القنوات العابرة للحدود يُمارس طقوس التحريض كما يستحضر المشعوذ الأرواح، ثم ينزوي ليعدّ أرقام المشاهدات، ضاحكاً.
لكن ما يبدو فوضى ليس فوضى. ما يُعرض علينا على شكل عبث إعلامي أو ارتجال سياسي هو، في جوهره، إدارة محسوبة، باردة، تخطط وتنفذ بحساب دقيق. ليست العشوائية التي نراها بريئة كما توهمنا شاشات الترفيه السياسي، بل هي خيوط محبوكة بإحكام، يعاد بها إنتاج الشلل يوميًا بألوان جديدة.
في وطن يُخضع المنطق للخرافة، ويراهن على الطيف والخيرة والمسبحة، لا يمكن فهم ما يحدث بأدوات السياسة وحدها. فالعراق، كما يعرفه الجميع، لا يخضع لقوانين السبب والنتيجة، بل لنزوات أفراد، لجنون المراحل، ولأشباح تتنكر في هيئة زعماء وقادة .
هنا تكمن الكارثة: لسنا أمام أزمة محددة يمكن إدارتها أو تجاوزها، بل أمام “فن” دقيق لصناعة الأزمات. صخب السياسة، وتفجّر الفضائيات، وتقلبات التحالفات، ليست سوى فصول في مسرحية محكمة العنوان: “كيف تستهلك دولة دون أن تسقطها؟”
وهذا ليس تخميناً، بل سياسة موثّقة، ظهرت بوضوح فيما سُمّي لاحقاً بـ”محاضرة الإبادة البطيئة”، التي قدّمها البروفسور ماكس مانوارينج، أحد أبرز منظّري حروب الجيل الرابع، أمام ضباط الناتو عام 2013. ما قاله ليس اجتهاداً بل خطة: لا تسقط الدولة بضربة، بل إنهاكاً، تفككاً، تشظّياً، عبر التجويع والتخويف والتشكيك، يُنفّذ بأيدٍ محلية ومباركة خارجية.
قال مانوارينج ببرود قاتل: “دع أبناء الدولة ينهكونها نيابة عنك”. وهكذا صارت الفضائيات ، والقنوات، والخطابات، والحروب النفسية، أدوات تنفيذ ذكية لسيناريو لا يحتاج رصاصة واحدة.
في العراق، لا أحد يريد للدولة أن تُبنى. الدولة هنا ليست مشروعاً سياسياً أو اقتصادياً، بل لغزاً يُراد له أن يظل مفتوحاً. التحالفات تُعقد فوق أنقاض الثقة، والخطابات تنطق باسم الوطن وتُدار من خارجه. في العلن، الجميع وطني حتى النخاع. في السر، تُعقد صفقات لا قبل للمواطن بها، لا علماً ولا رأياً ولا مصلحة. صفقات تتجاوز الخزينة، وتتجاوز السيادة، وربما تتجاوز خريطة العراق ذاتها.
تتحدث الأطراف عن “الانقلاب”، عن “المؤامرة”، وكأنها تُحذر منها، بينما تعدّ لها المسرح. من يحكم لا يملك القرار، ومن يملك القرار لا يظهر، ومن يتحرك لا يجرؤ على كشف اسمه. هناك دائماً ظلّ كثيف لا يكشف عن ملامحه، لكنه يتحكم في الإيقاع: يُشعل فتنة، يُطفئ أزمة، يدفع بقانون، ثم يسحب دعمه فجأة.
وفيما المجتمع يتأرجح بين العزوف واليأس، بين الحيرة والتحريض، يتحوّل المواطن إلى متلقٍ منهك، يركض خلف تفسير منطقي لا يجده. لأنه، ببساطة، لا منطق في العبث المنظّم. حسب نيتشه، لا يمكن تحليل الهراء بالعقل، خاصة حين يصبح الهراء خطاباً يومياً تعيشه أمة.
المنصات التي نظنها “حرّة” ليست كذلك. إنها غرف تحكم. ساحة توجيه لا نقاش. عوضاً عن أن تكون الدولة مؤسسة، تحوّلت إلى كابوس مفتوح. بدل أن نُبني، نُستهلك. بدل أن نحلم، نرتجف.
ويُطرح السؤال مرة تلو أخرى: لماذا لا ينهار هذا النظام دفعة واحدة؟ لماذا هذا الانهيار بالتقسيط؟ والإجابة أكثر رعباً: لأن السقوط المفاجئ يُتيح فرصة للبناء، أما السقوط البطيء، فمحْوٌ كامل، واستبدالٌ بلا شهود ولا أثر.
نحن لا نعيش صراعاً سياسياً، بل إبادة معنوية. تمزيق بطيء للنسيج الوطني. وفي قلب هذه المسرحية السوداء، يجلس صانعو الخراب، يشربون الوسكي في ظل القصور، يضحكون على موتنا البطيء، وهم يعلمون أن الضحية فقدت حتى القدرة على تمييز القاتل من الصديق.
أما الحقيقة، فهي الوحيدة التي تُهمس ولا تُقال: لا أحد بريء. لا أحد آمن. كل من صمت، أو برّر، أو انتفع، هو شريك في لعبة الإبادة الرمزية التي نعيشها.
هكذا تُدار الأزمات في عراق اليوم: لا نهاية واضحة، لا أفق قريب، ولا إصلاح يسير في طريق مستقيم. ليس لأن البلاد عقيمة، بل لأن هناك من لا يريد لها أن تحبل بالأمل. لا يريدون للعراقي أن يحلم، ولا للغد أن يُولد، ولا للرجاء أن يجد له شرفة.
إنهم لا يخافون من الخراب، بل من التعافي. لا يرتعبون من الأنين، بل من نهضة نادرة بدأت تشق الطريق وسط الركام. حين شاهدوا أن العراق، رغم كل شيء، يريد أن ينهض، أن يتعافى، أن يكتب فصلاً جديداً بلغة غير لغتهم، أعادوا إنتاج النص القديم: مزيد من التشكيك، مزيد من التحريض، مزيد من صناعة الأزمات.
يريدون للعراق أن يبقى مسرحاً لا يُطفأ فيه الضوء، تُعاد فيه الفصول بوجوه متغيرة، ونصّ واحد محفوظ في خزائن الخراب: “فن صناعة الأزمات”. لكنهم، في أعماقهم، يدركون أن النص قد يشيخ، وأن الجمهور قد ينهض يوماً، لا ليصفق، بل ليغادر.
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
About Post AuthorSee author's posts
المصدر: المسلة
كلمات دلالية: لا أحد
إقرأ أيضاً:
ليست للياقة وحدها.. الرياضة قد تفتح لك أبواب النوم العميق
دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- لطالما شدّد الباحثون والاختصاصيون في مجال الطب على أهمية الحصول على قسط كافٍ من النوم، لما له من فوائد كبيرة على الصحة الجسدية والنفسية.
أثناء نومك، يعمل جسدك بنشاط على الحفاظ على صحتك، من خلال إصلاح وتعزيز الجهازين القلبي والمناعي، وتنظيم عمليات الأيض. كما يقوم الدماغ بتثبيت الذكريات، ومعالجة المعلومات التي اكتسبها خلال اليوم.
ورغم أن الخبراء يوصون بالنوم لمدة لا تقل عن سبع ساعات كل ليلة، أفاد نحو 40% من البالغين بين العامين 2013 و2022، بأنهم لا يحصلون على هذا الحد الأدنى من النوم، بحسب المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والسيطرة عليها (CDC).
يثير هذا الواقع القلق للأسباب التالية التي ذكرتها المعاهد الوطنية للصحة (NIH)، فقلّة النوم قد تؤدي إلى:
إصاباتمشاكل صحية جسدية ونفسيةتراجع في الإنتاجيةزيادة خطر الوفاةولكن إذا كنت ضمن هذه النسبة، فثمة أمل، لأنّ العديد من الأدلة أظهرت أنّ ممارسة التمارين الرياضية بانتظام تُحسّن من جودة النوم، كما أن النوم الجيد بدوره يجعل التمرين أسهل وأكثر متعة.