في كل مرة تُشعل فيها إسرائيل فتيل حرب في المنطقة تغرق في وهم استراتيجي قديم يعتقد أن الحروب الخاطفة لا تزال قادرة على إعادة تشكيل المعادلات الجيوسياسية. لكنّ الأيام الثلاثة الماضية أثبتت لإسرائيل، وللعالم، أن هذا التصور لم يعد له مكان في زمن التوازنات الدقيقة والردع المتبادل. اعتقد المخططون في تل أبيب أن الضربة العدوانية التي وجهت إلى إيران صباح الجمعة الماضية كانت ضربة حاسمة لن تستطيع إيران استيعابها سريعا، لكنّ الأمر تحول إلى ما يمكن أن يكون شرارة في طريقها لإشعال المنطقة برمتها وإدخال أطراف جديدة في الحرب في منطقة كانت على الدوام تعيش فوق برميل بارود يحاول الجميع إشعال فتيله في أي وقت.

وليست مغامرة إسرائيل معزولة عن السياق.. لقد سقطت من قبل رهانات عسكرية مماثلة في بيروت وغزة وبغداد وكابول. كان على إسرائيل أن تتعلم من تجاربها وتجارب التاريخ أن العدوان على دول ذات عمق حضاري واستراتيجي لا يولّد الخضوع، بل يستنفر كل أدوات الرد. في المقابل فإن الرد الإيراني الذي ما زال مستمرا يؤكد أن كلفة الحرب باتت خارج نطاق السيطرة ليس على إيران وحدها، بل حتى على من بدأ هذه الحرب أو يراهن عليها، ويبدو هذا الأمر واضحا للجميع، بما في ذلك حلفاء إسرائيل من دول الاتحاد الأوروبي.

وفي ظل هذا الانسداد العسكري والسياسي، لا تعود القوة إلى مَن يملك القذائف، بل إلى من يمتلك أدوات احتواء النار قبل أن تتحول إلى حريق إقليمي شامل.. وفي خضم هذا المشهد المتسع، ومع تفاقم أثمانه الجسيمة، تتمسك سلطنة عُمان بدورها كوسيط عقلاني، يرفض منطق الفراغ بين الانفجار والانكسار، تعمل على إعادة ترميم المساحات الرمادية بالدبلوماسية الأخلاقية، وتفتح النوافذ حين تُغلق الأبواب. ورغم أن بداية الحروب تميل عادة إلى استبعاد المنطق، تظل عُمان مؤمنة بأن الإنصات لا يزال ممكنا، وأن اللغة الهادئة لا تفقد تأثيرها إذا صيغت من موقع الأخلاق والمسؤولية.

تقود مسقط جهودا دبلوماسية نشطة لا تنقطع، مدفوعة بإيمان بأن كل نافذة تُفتح أمام الحوار، هي نافذة محتملة للسلام. وتتجه أنظار الجميع في العالم إلى مسقط على اعتبار أن لديها مسارات موثوقة من شأنها أن تقود إلى لحظة سلام ينتظرها الجميع.

لم يعد يُنظر إلى الدور العماني باعتباره تدخلا ثانويا، ولكنه تجسيد حي لفلسفة سياسية راسخة: السلام ليس حالة خمول، بل فعل مستمر بين المتخاصمين، يُراكم الممكن حين يبدو المستحيل هو اللغة الوحيدة السائدة.. ومن يراقب المسار العُماني، سيدرك أنه لا يقوم على مقايضات، بل على قناعة بأن أمن المنطقة لا يُبنى إلا على فهم أعمق لتوازنات المصالح، واحترام الأطراف لا تحجيمها.

وإذا كان هدف إسرائيل والغرب هو منع إيران من تطوير سلاح نووي، فإن الحرب لن تحقق ذلك.. بل إن ما جرى سيجعل إيران تتمسك بحقها في تطوير قدراتها النووية بحجة حماية نفسها من تكالب الجميع عليها. وإذا كانت إسرائيل تعتقد أن إضعاف إيران يمر عبر القصف، فإن ردّ طهران يقول عكس ذلك. أما الثمن، فيدفعه الجميع: من المدنيين في العمق الإيراني إلى المنشآت الحيوية في إسرائيل، ومن استقرار الخليج إلى خطوط الطاقة التي لا تتحمل مغامرات من هذا النوع.

وفي حين تزداد دعوات بعض الدوائر الأوروبية للتهدئة، لا بد من الاعتراف بأن سياسة الانحياز الأعمى ـ التي تمارسها بعض القوى الكبرى ـ لا تعزز الردع، بل تطيل أمد النزاع. فالمنطقة لا تحتاج إلى رعاة حرب، بل إلى رعاة عقل.

بهذا المعنى، فإن الخيار الوحيد الذي يمتلك منطقا وشرعية في هذه اللحظة، هو وقف فوري لإطلاق النار، وعودة متأنية إلى طاولة الحوار. والعقلانية التي يُنظر إليها أحيانا كضعف، هي في هذه اللحظة بالذات الشكل الأذكى من أشكال القوة.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

إسرائيل تقتل 104 فلسطينيين وتصيب 866 خلال 24 ساعة

غزة (الاتحاد)

أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية، أمس، ارتفاع عدد ضحايا الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، إلى 60 ألفاً و839 فلسطينياً أغلبهم من النساء والأطفال، و149 ألفاً و588 حالة إصابة، منذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر 2023، بينهم 9350 ضحية، و37 ألفاً و547 حالة إصابة، منذ استئناف الحرب على القطاع في 18 مارس. وقالت الوزارة، في التقرير الإحصائي اليومي لضحايا الحرب، إن مستشفيات القطاع استقبلت جثامين 104 فلسطينيين قتلتهم إسرائيل خلال الـ 24 ساعة الماضية، كما استقبلت 866 مصاباً، بينما انتشلت قوات الدفاع المدني جثامين 15 ضحية من تحت الأنقاض، موضحة أن الإحصائية لا تشمل مستشفيات محافظة شمال قطاع غزة لصعوبة الوصول إليها. وأشارت الوزارة، إلى إضافة 290 ضحية إلى الحصيلة التراكمية النهائية ممن جرى استكمال بياناتهم واعتمادها من اللجنة القضائية. وأكدت الوزارة وجود عدد من الضحايا تحت الركام، وفي الطرقات لا تستطيع طواقم الإسعاف والدفاع المدني الوصول إليهم، وطالبت أهالي الضحايا والمفقودين بضرورة استكمال بياناتهم لاستيفاء جميع البيانات عبر سجلات وزارة الصحة.

أخبار ذات صلة مئات المستوطنين المتطرفين يقتحمون المسجد الأقصى %300 نسبة إشغال المستشفيات في غزة

مقالات مشابهة

  • إسرائيل تقتل 104 فلسطينيين وتصيب 866 خلال 24 ساعة
  • برئاسة بزشكيان.. إيران تشكل مجلسًا دفاعيًا بعد الحرب مع إسرائيل
  • في ظل التوتر المتصاعد مع إسرائيل.. إيران ترفع جاهزيتها العسكرية وتعيد تشكيل مجلس الدفاع
  • من الحرب العراقية.. إيران تعيد إحياء مجلس الدفاع الوطني
  • إيران تهدد برد يشلّ إسرائيل خلال 48 ساعة من أي هجوم محتمل!
  • يدلين: إسرائيل تقترب من هزيمة استراتيجية عميقة في غزة 
  • إيران تحث المجتمع الدولي على وقف جرائم إسرائيل في غزة
  • إسرائيل تغلق 88% من قضايا الانتهاكات وجرائم الحرب دون توجيه تهم
  • تحولات في العلاقات بين إسرائيل وهولندا بسبب الحرب على غزة
  • ضربة تقضي على النووي .. مخاوف من عودة الحرب بين إيران و إسرائيل