امتدت صداقتنا لنحو نصف قرن من الزمن. تعارفنا منذ أن كنا صغارا. كبرنا في الحياة كغيرنا من البشر. كل منا شق طريقه نحو غايته وأهدافه في الدنيا. سنوات من القطيعة قطعتها وسائل التواصل الاجتماعي لتعيد المياه إلى مجراها القديم، شيئا فشيئا جعلتنا متواصلين أكثر مما نلتقي.

أصبح مشرفا في عمله له مكانته المرموقة في الشركة التي يعمل بها منذ زمن.

كان يحدثني عن فتات الأعمال التي يقوم بها في مجال عمله. لفترة ما ظننت بأنه أفضل إنسان على وجه الأرض علما وخلقا وتقبلا للحياة وللآخرين.

لكن في رمضان الماضي صدمني كثيرا عندما حدثني بأنه يرفض رفضا قاطعا أن يفطر مع العمال في الإفطار الذي تقيمه الشركة في كل عام كنوع من التضامن الاجتماعي. أسر لي بأنه يريد أن يجعل بينه وبين الذي يعملون معه ساترا يحجب عنه الالتقاء بالموظفين؛ حتى لا يسمع شكواهم فيضيق صدره أو كما يقول: «يصدع رأسه». وأردف قائلا: إنه قد اعتاد على الجلوس مع المسؤولين الكبار من الشركات الأخرى في مثل هذه المناسبات السنوية، وليس لديه الوقت ليجامل من هم أقل منه في مراتب العمل!

كان لي رأي آخر لم يعجبه قط؛ حدثته عن أهمية الالتقاء بالعمال والقرب منهم، ومساندتهم معنويا على أقل تقدير والاستماع إليهم؛ لأنهم مصدر مهم في الإنتاج في الشركة، فمن خلالهم تستطيع الشركة أن تنافس بقية الشركات الأخرى في سوق العمل، ولعل هذه المناسبة هي فرصة لمعرفة ما يسرونه في ضمائرهم من مشاعر متفاوتة ما بين «السلب والإيجاب»، إضافة إلى أن هذا الإفطار يعد تضامنا إنسانيا بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى.

لم يعجبه ما قلت، بل عاد ليؤكد على أن البشر ليسوا متساوين في المستويات، وأغرق نفسه في الحديث عن الهيبة، والمنزلة الوظيفية وغيرها. في البدء كنت أعتقد أنه يمزح أو يتصنع في قوله، لكن ما أن دخل في مناطق محظور الحديث عنها حتى وجدت أنه شخص آخر غير الذي كنت أعرفه منذ سنين طويلة.

العامل الذي لا ترتضي الجلوس معه على الطاولة نفسه هو إنسان قبل أي اعتبار آخر، والماديات هي أرزاق من الله، وما تنفر منه الآن قد يصل إليك إذا ما غضب الله عليك، وسلط عليك من أعمالك التي لا تحمد عقباها؛ فالمناصب والمراتب مآلها إلى الزوال، ويبقى الأثر الطيب حاضرا في نفوس من كنت معهم وغادرت مكانك بلا عودة.

وهذا القول يقودنا نحو الحديث عن أهمية التواضع في حياة الإنسان؛ فهناك نماذج مشرفة سواء من البسطاء أو لأثرياء في العالم لم تمنعهم مكانتهم وما ملكت أيديهم من الخير عن خدمة غيرهم من هم أقل «شأنا ومنزلة وحالا»، وكان تواضعهم سببا في نجاحاتهم في أعمالهم. لن نسمي أسماء نعرفها ورحلت، ولكن أثرها الطيب في نفوس الذين يعرفونهم أو ممن كانوا يعملون معهم هو كلمة السر في ذلك النجاح الباهر، والدعاء الصادق لهم بالعفو والمغفرة.

الله سبحانه وتعالى جعل هناك تفاوتا في المستويات، فهذا أمر واقعي وملموس، ولكن الأمر كان له مغزى وهدف وهو أن يحس الغني بالفقير، وحتى يكون هناك توازن في بيئة العمل والحياة بشكل عام؛ فلولا الحاجة لما سعى الناس إلى إيجاد العمل، فالغني عليه أن يراعي الله -سبحانه وتعالى- فيما أعطاه من خير وفير، وألا تأخذه العزة بالإثم، فينال عقابا ربانيا شديدا، ويذهب ماله، ويقل نصيبه من الأجر والثواب، فقد يسلط الله عليه أحدا من أقرب الناس إليه يحول حياته إلى نكد وشقاء وعذاب.

ومما هو مثبت عن الإمام الشافعي -رحمة الله عليه- أنه يقول: «التواضع يعد من أخلاق الكرام، والتكبر من شيم اللئام. والتواضع يورث المحبة، والقناعة تورث الراحة. وأرفع الناس قدرا من لا يرى قدره، وأكثرهم فضلا من لا يرى فضله».

ومن المكانة العالية التي يصل إليها الشخص المتواضع نذكر ما ورد لدى السلف الصالح؛ فقد قال الإمام النووي: عن قوله- صلى الله عليه وسلم-: «ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله» فيه وجهان أحدهما: يرفعه في الدنيا، ويثبت له بتواضعه في القلوب منزلة، ويرفعه عند الناس ويُجلّ مكانه، أما الثاني: أن المراد ثوابه في الآخرة، ورفعه فيها بتواضعه في الدنيا.

فهناك مقولة رائعة تقول: «لا يتواضع إلا من كان واثقا بنفسه، ولا يتكبر إلا من كان عالما بنقصه».

وبحسب تفسيرها فإن هذه المقولة تعبر عن فكرة أن التواضع ليس علامة على الضعف، بل على الثقة بالنفس. فمن يعرف قيمته الحقيقية لا يحتاج إلى التكبر أو الإفراط في التواضع.

إذن الإنسانية هي مبدأ مهم في مراعاة الآخرين والتواضع لهم مهما وصلنا من درجات المجد والشهرة والثراء؛ فكلمة طيبة قد تزيح الكثير من كثبان المصاعب عن قلوب الناس، وتدخل السرور إلى حياتهم.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: إلا من کان

إقرأ أيضاً:

فاطمة الزهراء عليها السلام.. سيدة النور وأقرب الناس إلى رسول الله ﷺ

تُعدّ السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام من أعظم نساء البشرية مكانةً وقدراً، فقد كانت أقرب الناس شبهاً برسول الله ﷺ خَلقاً وخُلُقاً، وورثت عنه النور والطهارة والهيبة والمحبة.

شبهها برسول الله ﷺ

اتفق الصحابة على أنّ فاطمة عليها السلام كانت أشبه الناس بسيدنا محمد ﷺ في حديثه ومشيته وحركاته وسكناته. حتى قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: «كان النبي ﷺ وفاطمة إذا استدبراني لم أعرف أيّهما النبي من شدّة الشبه بينهما».

مكانتها عند رسول الله ﷺ

كان النبي ﷺ إذا رأى فاطمة مُقبلةً يقوم لها، ويقبّل وجنتيها، ويبسط لها عباءته، ويجلسها في مكانه، ويقول لها:«مرحباً بأمّ أبيها».كما قال فيها ﷺ: «فاطمة بضعةٌ مني»، وهو دليل على عمق مكانتها في قلبه الشريف.

ملامحها وصفاتها

وُصفت السيدة الزهراء بأنها بيضاء اللون مشربة بحُمرة، طويلة القامة، ويميل جسمها للنحافة من شدة العبادة.وحملت شبهاً من أمها السيدة خديجة عليها السلام، وكذلك من جدتها السيدة آمنة بنت وهب عليها السلام.

علاقتها بأمهات المؤمنين

كانت أمهات المؤمنين إذا أردن شيئاً من رسول الله ﷺ لجأن إلى فاطمة عليها السلام لقربها منه، وثقتهن بمحبته لها.

ميلادها وبشارات النبي ﷺ

عند ولادتها، قال النبي ﷺ للسيدة خديجة: «يا خديجة، إنها النسمة الميمونة الطاهرة، ومنها يكون نسلي»، فكانت بحقّ أمّ النور الممتد في الأمة.

زواجها وحياتها المباركة

تزوجت السيدة فاطمة الزهراء من الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وهي في الثامنة عشرة من عمرها، وعاشت حياةً مباركة ملؤها العبادة والزهد والصبر.

وفاتها ولقاؤها بالنبي ﷺ

انتقلت السيدة فاطمة عليها السلام إلى الرفيق الأعلى وهي في التاسعة والعشرين من عمرها، وكانت أول من لحق برسول الله ﷺ من أهل بيته بعد وفاته بستة أشهر.

أبناؤها وذريتها الطيبة

هي أمّ الأولياء والصالحين العارفين:

 الإمام الحسن
 الإمام الحسين
 المُحسَّن
 السيدة زينب
 السيدة أم كلثوم
 عليهم السلام أجمعين.
 وهم الامتداد المبارك لبيت النبوة.

وتبقى السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام نموذجاً خالداً للطهارة والعبادة، وقدوة لكل مسلم ومسلمة في الأخلاق والصبر والمحبة.
 

مقالات مشابهة

  • 6 خصال تفتح لك أبواب الجنة.. مكارم أخلاق وعد بها النبي
  • علي جمعة: التواضع أصل العفاف الباطني.. والجهاد الأكبر يبدأ من تهذيب النفس
  • كواليس لقاء برّي - لودريان... ما الذي جرى بحثه؟
  • فاطمة الزهراء عليها السلام.. سيدة النور وأقرب الناس إلى رسول الله ﷺ
  • 6 خصال تضمن لك الجنة بوعد من النبي.. اغتنمها وداوم على فعلها
  • لا يضر الشمس إطباق الظلام
  • تفسير قوله تعالى صم بكم عمي فهم لا يعقلون.. علي جمعة يوضح
  • خلوا بيني وبين الناس
  • بعضٌ من حكاية الكَدِيسَة
  • فضل الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم