خالد بن سعد الشنفري
في طفولتي في أواخر الستينات، كنت أذهب أحيانًا إلى سوق ماركت الحافة للخضروات والأسماك واللحوم، وأفترش الأرض مقابل السبلة المخصصة للباعة. كان أحد هذه المنتجات التي أبيعها البصل الأخضر. كانت الصدف أحيانًا تضعني بجوار بسطة رجل أربعيني ظريف، كان مغتربًا بأحد الدول الخليجية النفطية للعمل وكسب الرزق.
كان ينادي على معروضاته بصوت جهوري: "طماطم فلفل خيار و... بصل بصل خذ البصل بما حصل"، كان المشترون يتجهون ناحيتنا للشراء، واستفدت بدوري من ذلك؛ حيث يجاملني البعض لصغر سني ويشترون مني، صدق المثل القائل: "جاور السعيد تسعد".
راقت لي جملة جاري هذه التسويقية التي لم أعرف كُنهها إلا بعدما كبرت، ذلك أن البصل الأخضر إذا لم يُسوَّق في نفس يوم قطفه لا يمكنك تسويقه في اليوم التالي، خصوصًا أنه لم يكن لدينا حينها كهرباء ولا ثلاجات لحفظه؛ فتشجَّعت وتحمَّست معه، وصرت كلما يسكت عن المناداة لسبب ما أبدأ أنا بالمناداة بدلًا عنه، وكان يبتسم لي مشجِّعًا.
لا أنوي بالطبع أن أتكلم في هذا المقال عن طفولتي والبصل الأخضر، لكنني استعدت بعضًا من هذه الذكريات بعد أن قرأت إعلانًا لأحد مزارعي نجد عن البصل، ولكن هذه المرة بصل مزارع نجد الأحمر، وانتشار هذا الإعلان في وسائل التواصل لأنه كان ملفتًا.
مزارع نجد ظفار تعتبر اليوم بجدارة أحد أهم مناطقنا الزراعية الحالية والمستقبلية للأمن الغذائي. سأنقل لكم الإعلان كما هو حرفيًّا:
"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. توجد عندنا شاحنة 11 طناً من البصل العماني، من مزارع النجد، وبعد قرار الوزارة فتح باب الاستيراد، نزل السعر دون التكلفة، وإدخال المستورد، فقرر توزيع البصل مجانًا للمواطنين.
المنتج العماني محارَب من قبل التجار ومن قبل أصحاب القرار. سعر البصل الهندي للكيلو 250 بيسة، واليمني 180 بيسة، أما المنتج المحلي لم يعطوني حتى 140 بيسة للكيلو!
من الأفضل أن أقوم بتوزيعه لا بيعه وأبخسه، ثم يقومون ببيعه أكثر على المواطن والسكان.
التاريخ 9/6/2025 الساعة 11:10 صباحًا. الموقع خلف نادي النصر مقابل مطعم الرباط قديم". انتهى.
من مفارقات الصدف أنني مساء هذا اليوم الأربعاء 18 يونيو، وقبل أن تقفز فكرة هذا المقال إلى ذهني، اتصل بي أحد الأصدقاء وهو من أصحاب إحدى هذه المزارع، وأخبرني بأنه في ثمريت، طلع للتو من اجتماع رسمي مثير هناك بخصوص عقود انتفاع هذه الأراضي، وسيتجه من هناك إلى مزرعته بالنجد، فيما إذا أردت الالتحاق به لقضاء يومين هناك في المزرعة، لأنه يعرف مدى حبي لذلك؛ فلحقت به لأنني فعلًا كنت أريد أن أعرف ما تمخض عنه هذا الاجتماع المثير. وهناك، اطلعني صاحبي على أنهم أُبلغوا بأن أمامهم فترة شهر فقط لا غير لتوقيع عقود الانتفاع، التي كانوا قد حُددت لهم فيها مسبقًا فترة سماح لمدة خمس سنوات، يلتزمون بعدها مباشرة بدفع إيجار للأرض بمبلغ 50 ريالًا للفدان الواحد للمئة فدان الأولى، و5 ريالات لما زاد عن ذلك من مساحة، أي أن من استزرع 100 فدان يتوجب عليه أن يدفع 5 آلاف ريال سنويًا.
إعلان البصل أعلاه يشرح ذاته؛ بل ويشرح معاناة هؤلاء المزارعين المخلصين من شبابنا، الذين لا يحتاج بدورهم لشرح أكثر؛ فهي قديمة، ومع ذلك لا زالوا مستمرين رغم كل الصعوبات والمعوقات، ولكن لا نرى ضيرًا من التكرار، فالأمر وأهميته يستدعيان ذلك.
هؤلاء يعتبرون أبطالًا بحق، ومشكلاتهم ليست بجديدة على أحد، ومستمرة من أكثر من 30 عامًا؛ بل ناهز بعضها الأربعين عامًا، وقد قيل وكتب عنها الكثير، وشخصيًا كتبت عنها قديمًا عدة مقالات في صحف إلكترونية ووسائل تواصل، ولكن لا حياة لمن تنادي. هل نرتضي هكذا مصير لهؤلاء الشباب المكافحين، وبعد أن أصبحت منتجاتهم تتفوق جودةً على المستورد، وتغطي أسواقنا من مختلف أجود المنتجات؛ بطيخ، بطاطس، شمام، بصل أحمر، رُطب، وحتى القمح، وقائمة تطول من منتجات نعرفها جميعًا بالاسم بأنها منتجات مزارع نجد ذات الجودة العالية، الذين جربوا وثابروا ونجحوا بجدارة في انتخاب مزروعات داعمة لأمننا الغذائي.
أعداد هذه المزارع يزيد على الألف مزرعة، كانت مجرد سيوح جرداء، حوَّلها هؤلاء الأبطال بهممهم العالية وجهودهم الجبارة وأموالهم الخاصة إلى جنانٍ خضراء وارفة الظلال وسط الصحراء، منهم من كان مقتدرًا وصرف من أمواله، ومنهم من اضطر لبيع كل ما يملك لذلك، ومنهم من توقف، ومنهم من لا يزال ينتظر.
صحيحٌ سمعنا عن مزارعين في بعض الدول المعروفة بأنها زراعية بامتياز، أنهم يعدمون بعض الإنتاج للمحافظة على استقرار سعره، ولكن هيهات لشبابنا فعل مثل ذلك ولو كانت بهم خصاصة، وبالتالي وزعوا إنتاجهم بالمجان، وهذه ليست حالة نادرة؛ بل هناك العديد منهم نعرف بعضهم بالاسم أو سمعنا عنه، وما صاحب هذا الإعلان أعلاه إلا واحدًا منهم.
يشكو هؤلاء المزارعون، وهم ما هم عليه من مصاعب، تتمثل في بُعد مواقع مزارعهم عن الأسواق، وقساوة الطقس هناك، بالإضافة إلى معيقات أخرى عديدة، ليس أقلها ارتفاع أسعار الكهرباء عليهم، والآن يأتي إنذارهم فجأة وقسريًا بما كانوا يخشونه، وهو تحديد مدة شهر لهم لتوقيع عقود انتفاع لمزارع كانوا قد عمّروها واستزرعوها واستقروا بها استقرارًا مطمئنًا لعشرات السنين، وبعضهم قد ورثها من أب أو حتى جد، ويحافظون على هذا الإرث إكرامًا لذكرى موتاهم، برغم صعوبة ذلك. علمًا بأن القواعد العامة شرعًا وقانونًا تعتد بوضع اليد على الأرض إذا استمر لمدة زمنية دون أن ينازعه عليها أحد من الغير، فما بالنا إذا كان هذا الغير هو حكومتك، وأن الأمر يتعلق بتحقيق غاية سامية، ألا وهي الأمن الغذائي للبلد، ناهيك عن جوانب أخرى أخلاقية وإنسانية للموضوع.
هناك جانب آخر مهم في الأمر، كان أولى وأجدى تحققه في حقهم من سنين، ولكن ذلك لم يحصل، ويتمثل في دور الجهات الرسمية المختصة بالزراعة المفترضة في كل دول العالم لمزارعيها، من حيث إرشاد هؤلاء المزارعين فيما يستحسن أن يزرعوا في كل موسم حسب دراسة السوق، وكذلك تهيئة التسويق لمنتجاتهم، أسوة بما كانت عليه الهيئة العامة لتسويق المنتجات الزراعية سابقًا، التي كانت تستقبل منتجات المزارعين وتشتري منهم وتقوم بدورها بالتسويق داخل وخارج البلد، والتي بعد إلغائها للأسف الشديد اضطر أهلنا من المزارعين لهجر مزارعهم وتأجيرها للمُزارِع الوافد، الذي كان يعمل لديهم أساسًا فيها؛ فالمُزارِع ليس تاجرًا بطبعه. إلى جانب ضرورة حمايتهم من المنتجات المستوردة المنافسة مع وجود المحلي في موسمه.
إن توزيع هؤلاء المزارعين لمنتوجاتهم بالمجان، لو توفرت لهم على سبيل المثال معدات حصاد وفرز وتغليف حديثة، ولو بالإيجار غير الهادف للربح الكبير، سيمكنهم ذلك لا شك من تقليل الفاقد من إنتاجهم، وبالتالي مع عوامل أخرى تقليل كلفة المنتج، وبالتالي يمكنهم بيعه ولو بسعر أقل مع تحقيق هامش ربح. وموضوع البصل (ينطبق على القمح أيضًا) ليس إلا على سبيل المثال لا الحصر، أيضًا فيه فاقد لديهم بنسبة 20% على الأقل نتيجة تقطعه أو خدشه وعدم إمكانية بيعه، وذلك بسبب المعدات التقليدية البسيطة المتوفرة حاليًا، أو الحصاد اليدوي المكلف، والذي يتطلب وفرة كبيرة في العمالة غير المتوفرة، مع أجور مرتفعة، وتعرضه للفساد لبطء وطول فترة الحصاد مع حرارة الجو، وهذا ما يحدث حاليًا مع نسبة فاقدهم الكبيرة. كذلك إعفاء البذور والأسمدة والمبيدات من الضريبة والقيمة المضافة أصبح ضرورة لا بد منها أيضًا لهم في سبيل النهوض بالزراعة والأمن الزراعي.
عوامل كثيرة لا يمكننا حصرها هنا في هذا المقال القصير تراكمت بدلًا من أن نعمل على حل ولو بعضها مع الزمن، لأنها ستعمل دون شك على تقليل تكاليفهم في الإنتاج، وأصبح هؤلاء المزارعون في أمسّ الحاجة اليوم للوقوف بجانبهم، لا إضافة عراقيل ومعيقات أمامهم، وذلك حتى لا نرى قريبًا، لا سمح الله، مزارع نجد وقد هُجرت، وحل الوافد بها كما حصل في مزارع المدن، أو قد أصبحت أثرًا بعد عين، أو أعجاز نخل خاوية.
نداء إلى كل جهات الاختصاص، وكل مسؤول وذو علاقة بصورة أو بأخرى في أمر مزارع نجد ظفار وأصحابها، مراعاة جوانب عديدة تراكمت عليهم مع الزمن، وهم في أمس الحاجة للوقوف معهم، ولو لخاطر أمننا الغذائي حاليًا ومستقبلًا.
ومع تقديرنا وشكرنا للجهود التي تمخضت أخيرًا، وبعد طول سنين، من الإعلان عن إنشاء المركز المتكامل لتجميع وفرز وتسويق المنتجات الزراعية في النجد، والمتوقع استكماله في أبريل 2026، إلا أن الكثير من هؤلاء المزارعين لا زالوا لا يخفون توجسهم من حيث إن الشركة لن تقوم بالشراء منهم مثلما كانت عليه الهيئة سابقًا؛ بل ستقوم بالتسويق فقط، وإنها شركة ربحية في الأساس، ستتعامل بمنطق الربح والخسارة. وكنا نتمنى من هذه الشركة، قبل أن تتدخل وزارة الإسكان من استدعائهم وإنذارهم قسرًا بالتوقيع على عقود الانتفاع، أن تجلس معهم وتطلعهم على خططها وأهدافها لتطمئن قلوبهم، وأنه سيكون لها دور واضح، ليس باستقبال وتسويق المنتجات، بل بتزويدهم بالإرشادات والنصح فيما يزرعون، والكميات المتوقع استيعابها في السوق في كل موسم. وعلى المزارعين أيضًا، بدورهم ممثلين في جمعيتهم، تزويدها بالمعلومات الدقيقة حتى تتمكن من استقصاءاتها، وانعكاس ذلك إيجابًا على الجميع، ونتمنى لها التوفيق والسداد.
لقد أصبح وجود قانون ينظم هذه الأراضي، أسوة بقانون الإسكان الريفي، ضرورة ملحّة ليعرف الجميع ما له وما عليه، فنحن أصبحنا دولة قانون.
لا نعرف الهدف من تحديد 50 ريالًا إيجار الفدان للمئة فدان الأولى، و5 ريالات فيما زاد عن ذلك لهذه الأراضي الزراعية. نحسب أن مبلغ 50 ريالًا مُغالى فيه كثيرًا، وكان من المناسب، تقديرًا لكل ما تقدم، أن يُحدد المبلغ بـ5 ريالات للفدان لكل المساحة دون تفريق بين المساحات. أما عن فترة السماح الحالية من الإيجار لمدة 5 سنوات، فإنها تعتبر معقولة.
تبقى جانب لا يقل أهمية، وهو إمكانية تمليك ولو جزء من هذه الأراضي للذين استمروا في زراعتها لسنوات طويلة، تشجيعًا واطمئنانًا لهم، فقد تعلقت آمالهم بها، وكلنا ثقة في حكومتنا الرشيدة التي عودتنا على كرمها، ونحن في ظل القيادة الحكيمة لسلطان التجديد، حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، حفظه الله وأبقاه لعُمان وشعبها. رابط مختصر
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
مزارع العنب في العُلا.. جودة ووفرة على الموائد السعودية
يشهد هذه الأيام محصول العنب في محافظة العُلا بدايات حصاده، بوصفه أحد أبرز المواسم الزراعية الصيفية في المنطقة، ويُعرف العنب بجودته العالية وتنوّعه في الأحجام والأصناف، ما يجعل منه فاكهة مميزة على موائد الأهالي والأسواق.
ويُعد العنب، إلى جانب التين والرمان، من أهم المحاصيل الزراعية الصيفية في العُلا، وتبلغ المساحة المزروعة بهذه الفواكه الثلاث نحو (348.96) هكتارًا، بإجمالي إنتاج سنوي يتجاوز (3,140.66) طنًا. .article-img-ratio{ display:block;padding-bottom: 67%;position:relative; overflow: hidden;height:0px; } .article-img-ratio img{ object-fit: contain; object-position: center; position: absolute; height: 100% !important;padding:0px; margin: auto; width: 100%; } مزارع العنب في العُلا - واس
أخبار متعلقة ”الزراعة“: حشرات التوت تهدد محصول الصيف.. وهذه طرق الحمايةوسط أجواء باردة.. زوار ومقيمون يقضون عيد الأضحى في جبل القارة"الالتزام البيئي" يؤكد سلامة مؤشرات الأوساط البيئية لرحلة الحجاجتنشيط الحركة التجارية
ويأتي العنب في مقدمة هذه المحاصيل من حيث الوفرة والتأثير الاقتصادي، ويُسهم في تنشيط الحركة التجارية، ويخلق فرص عمل موسمية لأبناء المحافظة، إلى جانب كونه عنصرًا رئيسيًا في دعم الأمن الغذائي المحلي.
ويحظى القطاع الزراعي في العُلا بدعم مستمر من الهيئة الملكية لمحافظة العُلا، متمثلة في القطاع الزراعي، عبر مبادرات تطوير زراعي وبرامج إرشادية وتقنيات حديثة، تسهم في رفع جودة الإنتاج واستدامته، تماشيًا مع مستهدفات رؤية المملكة 2030 لتنمية المناطق الزراعية الواعدة.
.article-img-ratio{ display:block;padding-bottom: 67%;position:relative; overflow: hidden;height:0px; } .article-img-ratio img{ object-fit: contain; object-position: center; position: absolute; height: 100% !important;padding:0px; margin: auto; width: 100%; } مزارع العنب في العُلا - واس