عبور الجغرافيا وتحولات الهوية.. علماء حديث حملوا صنعاء وازدهروا في دمشق
تاريخ النشر: 22nd, June 2025 GMT
لا تسير الهويات في خطوط مستقيمة في مدونة التاريخ الإسلامي، ولا تحدد الانتماءات بحدود الجغرافيا أو مواضع الميلاد كما هي الحال في أنظمة الجنسيات الحديثة. فقد نجد عالما كبيرا ينسب إلى مدينة لم يولد فيها، أو يشتهر باسم موطن لم يدفن فيه، أو يعرف ببلد لم يعش فيه إلا يسيرا من عمره. وذلك لأن العلاقة بين الإنسان والمكان في الحضارة الإسلامية لم تكن مجرد علاقة نشأة أو إقامة، بل كانت علاقة علم وسند ومدرسة، ومنزلة في التصنيف والانتساب.
لقد شكل نظام النسبة في الإسلام أحد أبرز ملامح التكوين العلمي والثقافي، حيث لم تكن الأنساب مقتصرة على الدماء، ولا كانت الانتماءات قاصرة على التراب، وإنما كانت المدن والحواضر رموزا للمدارس والمناهج، وأسماء البلاد شواهد على البيئة العلمية التي ينتمي إليها صاحبها. فالعالم قد ينسب إلى بلده الأصلي، أو إلى موطن آبائه، أو إلى المكان الذي طلب فيه العلم، أو حيث اشتهر وتفرد في حلقاته، أو حيث نقل عنه الحديث وروي علمه.
ومن هذا الباب، تأتي دراسة علمية بعنوان "صنعانيون، ولكن من دمشق" للأستاذ الدكتور عبد العزيز الصغير دخان، المنشورة في مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة والدراسات الإسلامية عام 1431هـ/2010م، لتفتح نافذة نادرة على ظاهرة ثقافية وعلمية مدهشة ومغفلة في آن معا: علماء حديث نسبوا إلى صنعاء، وهم في الواقع عاشوا في دمشق، أو ولدوا بها، أو قضوا عمرهم في مجالسها، وأفادوا منها وأفادوها.
هذه النسبة لا تعني خطأ في كتب التراجم، ولا تعكس وهما في التوثيق، وإنما تمثل امتدادا حيا لنظام النسبة في الثقافة الإسلامية، حيث لا ينظر إلى المكان بوصفه مجرد موقع ميلاد، ولكن باعتباره رمزا لهوية علمية، أو انتسابا إلى مدرسة، أو ارتباطا بسلسلة إسناد ومرجعية فكرية.
"صنعاء دمشق" هجرة الأسماء وإقامة الذاكرة
تكشف الدراسة عن مفارقة تاريخية نادرة قلما التفت إليها الباحثون، وهي وجود موضعين يحملان الاسم نفسه "صنعاء"، لكن أحدهما في قلب اليمن والآخر في غوطة دمشق. ليست المفارقة في التشابه الاسمي فحسب، بل فيما ترتب عليه من التباس علمي وثقافي في كتب التراجم والأنساب، حيث اختلطت النسبة بين صنعاء اليمن وصنعاء الشام، وأدى ذلك إلى إسناد بعض العلماء إلى صنعاء اليمن بينما هم في الأصل من بلاد الشام، وبالتحديد من قرية "صنعاء دمشق" التي اندثرت لاحقا.
صنعاء اليمن كانت ولا تزال العاصمة التاريخية للبلاد، ومركزا من مراكز العلم والفقه والحديث، ارتبط اسمها بكبار العلماء، وعلى رأسهم الإمام عبد الرزاق بن همام الصنعاني (ت 211هـ)، أحد كبار المحدثين في القرن الثاني الهجري، وصاحب "المصنف"، أحد أشهر كتب الحديث. وقد رسخ عبد الرزاق ومن جاء بعده من علماء اليمن النسبة إلى صنعاء كعلم على مرجعية علمية سنية متينة، أسهمت في تدوين الحديث ونقله إلى أصقاع العالم الإسلامي.
أما صنعاء دمشق فهي قرية صغيرة في غوطة دمشق، استوطنها قوم من اليمانيين القدماء الذين انتقلوا إلى الشام في فترات مختلفة، وسموها تيمنا ببلدتهم الأصلية، في تعبير واضح عن الحنين والاعتزاز بالانتماء. وصفها العلامة محمد كرد علي بأنها من القرى التي نزلها اليمنيون في دمشق، وكانت تقع بين "المزة" و"رتل الثعالب"، وقد أقيم فيها مسجد يعرف بمسجد "خاتون".
وكتب عنها الصحفي عيسى فتوح في مجلة الإكليل (1983) مؤكدا أنها عرفت بعناية خاصة بعلم الحديث، وكان لها شأن علمي قبل أن يندثر اسمها مع الزمن. أما المحقق محمد أحمد دهمان فأشار إلى أن القرية تحولت في القرن السادس الهجري إلى مزرعة، ولم يبق من آثارها إلا بساتين تروى من نبع المنيبيع، من دون معالم سكانية بارزة.
ويذكر ياقوت الحموي في معجم البلدان أن غوطة دمشق كانت تضم عشرات القرى التي اندثرت أسماؤها، ومنها قرية "صنعاء" التي لم يحدد موقعها بدقة، لكنها كانت مأهولة في بعض القرون ثم انقرضت.
وقد سجل الحافظ برهان الدين سبط ابن العجمي الشافعي (ت 841هـ) في كتابه نور النبراس على سيرة ابن سيد الناس ما يؤكد وجود هذه النسبة الشامية، إذ قال: "صنعاء هي ممدودة، قاعدة اليمن. ولهم صنعاء أخرى بدمشق، وهي المنيبيع أو بقربها، والنسبة إليها صنعاني بالنون".
وهذا النص يوضح أن النسبة إلى "صنعاء" لم تكن حكرا على اليمن، ولكنها كانت تطلق أيضا على من سكن القرية الشامية، وهو ما يفتح بابا لتأمل عميق في معنى الانتماء المكاني في الثقافة الإسلامية، وكيف أن الأسماء قد تعبر الحدود وتنتقل مع ساكنيها إلى بلاد جديدة، وتعيد تشكيل الذاكرة في المكان الجديد.
وعند التخوم الغربية لدمشق، خارج أسوارها القديمة، تقف منطقة حي البرامكة اليوم حيا نابضا بالجامعات والمؤسسات والطرقات المتشابكة، لكنها تخفي تحت إسفلتها اسما غابرا يكاد ينسى: "صنعاء دمشق" في كتب الجغرافيين ورواة المدن، تذكر هذه الأرض بأنها كانت قرية صغيرة في العهد الأموي، استوطنها قوم من اليمانيين الذين ارتحلوا من صنعاء اليمن، فاستعادوا في المنفى الجغرافي اسم الموطن، وأطلقوا على مستقرهم الجديد اسم مدينتهم الأولى: صنعاء. كان ذلك تثبيتا للهوية في وجه المسافة، ومحاولة لزرع الذاكرة في تربة غريبة.
لكن الاسم لم يبق، فعبر قرون من التحول، أعيدت تسمية المكان إلى "تل الثعالب"، ثم إلى "البرامكة"، نسبة إلى مقبرة آل برمك التي كانت قائمة هناك، لتتحول لاحقا إلى حي عمراني حيوي يضم مرافق تعليمية وإدارية بارزة.
وتوضح موسوعة ويكيبيديا والموسوعة الدمشقية أن حي البرامكة الواقع غرب دمشق كان يعرف في العهد الأموي باسم "صنعاء دمشق" أو "صنعاء الشام"، وسكنه قوم من اليمنيين الذين أطلقوا على موضعهم الجديد اسم موطنهم الأصلي. ومع الوقت تغير الاسم، كما تغيرت معالم المكان، فاختفى الاسم القديم تحت طبقات الذاكرة، لكن ظلاله لا تزال حاضرة في خرائط البحث التاريخي والمعرفي. وخلاصة ذلك:
من الناحية الجغرافية تعرف هذه المنطقة الغربية حتى اليوم باسم حي البرامكة، ومن الناحية التاريخية كانت تعرف بـ"صنعاء دمشق"، نتيجة استيطان اليمانيين في غوطة دمشق. أما من الناحية الثقافية فقد ظل الاسم القديم محفوظا في كتب التراجم والمصادر الجغرافية، شاهدا على انتقال الاسم والهوية مع الإنسان.
لم تنتقل صنعاء إلى دمشق بوصفها مجرد اسم منسي، بل كانت قرية حقيقية زرعها القادمون من اليمن على أطراف المدينة. ومع مرور الزمن، تغير الاسم وذابت معالمها في زحام الأحياء، لكن من يبحث في تاريخ المكان سيجد فيها شاهدا حيا على تشكيل الهجرة للجغرافيا، وكيف تترك الأقدام الراحلة أسماء تعيش بعد اختفاء أصحابها.
علماء "صنعانيون" في الشام.. شواهد من التاريخ
تشير الدراسة إلى عدد من العلماء الذين حملوا النسبة إلى "صنعاء" رغم أن نشاطهم العلمي وإقامتهم الدائمة كانت في بلاد الشام، وتحديدا في دمشق. وهذا ما يؤكد فكرة "النسبة العابرة للجغرافيا" التي تجعل من الموطن العلمي أو الأصل القبلي أو الانتساب الروحي إلى مدينة أو بيئة معينة مرجعية لنسبة العالم، ولو لم يعش فيها فعليا.
ومن أبرز هؤلاء العلماء:
حفص بن عمر بن ميمون العدني ويقال له الصنعاني: كان يلقب بالفرخ، وأصله من عدن، لكنه استقر في دمشق، وبرز فيها راويًا ومحدثا، وأخذ عنه جمع من العلماء. وقد أكسبه ارتباطه بمدينة صنعاء (أو بمسقطه في الجنوب اليمني عموما) نسبته هذه، رغم إقامته ووفاته في الشام، حيث عدّ من أهلها رواية ومقاما.
أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الصنعاني الدمشقي: وصف بأنه من أهل دمشق، وتلقى عنه الإمام الدارقطني، أحد كبار المحدثين في القرن الرابع الهجري. وتبرز هذه الرواية قيمة الرجل العلمية في بيئة شامية خالصة، رغم حمله للنسبة "الصنعانية".
أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد الصنعاني: من المحدثين المعروفين بالشام، اشتهر بعلوم الرواية، ويحتمل أن تكون نسبته إلى صنعاء بسبب انحداره من أسرة يمنية الأصل، أو سكنه في قرية "صنعاء" الدمشقية.
أبو العباس أحمد بن عبد الله الصنعاني: أحد مشايخ دمشق المعروفين في مجال الحديث، عرف بحضوره في حلقات العلم والرواية، مما يؤكد تشكله العلمي في الشام.
أبو بكر محمد بن إسماعيل الصنعاني: ورد اسمه في طبقات الشافعية للسبكي، دلالة على حضوره في الفقه، وهو دليل إضافي على عمق الامتزاج العلمي بين الهوية اليمنية الأصلية والبيئة الشامية المقيمة.
كذلك أوردت الدراسة مجموعة من الرواة ممن حملوا النسبة إلى "صنعاء"، وتدل الشواهد التاريخية على أن معظمهم من "صنعاء دمشق"، ومنهم:
إبراهيم بن عمرو الصنعاني.
حجاج بن شداد الصنعاني.
حفص بن ميسرة الصنعاني.
حنش بن عبد الله الصنعاني.
راشد بن داود الصنعاني.
سعيد بن يوسف الرحبي الصنعاني.
شراحيل بن مرثد الصنعاني.
عبد الملك بن محمد الصنعاني.
يحيى بن مبارك الصنعاني.
يزيد بن يوسف الرحبي الصنعاني.
وجميع هؤلاء من رواة الحديث الذين وردت أسماؤهم في مصادر أهل السنة، بعضهم رواه أئمة كبار كابن ماجه والنسائي وابن حبان. وقد تفاوتت درجات التوثيق لهم؛ فمنهم من كان حديثه صحيحا، ومنهم من تكلم في روايته، لكن المشترك بينهم هو ثبوت أسمائهم ونسبهم في كتب الحديث والتراجم، وهو ما يدل على حضورهم العلمي في البيئة الشامية، رغم النسبة "الصنعانية".
وتكمن أهمية هذه الشواهد في أنها تبرهن على أن النسبة في التاريخ الإسلامي ليست مجرد علامة على مسقط الرأس، بل هي مؤشر دلالي عميق يتصل بالسند والمذهب والمقام العلمي، ويعكس في الوقت ذاته حركة انتقال العلم والأعلام بين الأقاليم الإسلامية في تناغم حضاري نادر.
دلالات النماذج.. ما الذي تكشفه؟
تكشف النماذج التي رصدتها دراسة "صنعانيون، ولكن من دمشق" عن أبعاد عميقة تتجاوز مجرد التوثيق الترجمي لأسماء العلماء، لتصل إلى ملامسة جوهر العلاقة بين المكان والعلم في الحضارة الإسلامية. ويمكن تلخيص هذه الدلالات في 3 محاور متداخلة:
لم تكن النسبة في الثقافة الإسلامية التقليدية مقيدة بمفهوم "الهوية الجغرافية" أو "الجنسية" بالمعنى المعاصر. فالنسبة إلى مدينة معينة لم تكن تعني بالضرورة الولادة فيها، وإنما قد تدل على الانتساب الروحي أو الانتماء العلمي أو الأصل القبلي أو حتى مرحلة من مراحل التكوين العلمي. لذلك لا يستغرب المرء أن يجد عالما شاميا ينسب إلى الكوفة، أو مغربيا يعرف بالمدني، أو عراقيا يلقب بالدمشقي، بحسب مراحل رحلته العلمية أو محل إقامته الطويلة أو انتمائه المدرسي.
أظهرت النماذج كيف كانت دمشق، لا سيما في القرون الثلاثة الهجرية الأولى، مركزا علميا مهما تتقاطع فيه طرق الرحلة ودوائر السند. قصدها طلاب الحديث من الحجاز واليمن والعراق وخراسان، وفيها اجتمعوا بشيوخها وأخذوا عنهم، وبدورهم نشروا علومها في بلادهم. كانت دمشق مدينة ذات إشعاع علمي يعكس مركزية الشام في الشبكة العلمية الإسلامية، حتى غدت النسبة إليها، أو الإقامة فيها، موطنا آخر للعلماء.
صنعاء ودمشق وتداخل الحواضر العلمية
أسهم نظام الإسناد والرحلة في تشكيل هويات علمية لا تعترف بحدود سياسية أو جغرافية صارمة. فالمساجد الكبرى والمدارس والمجالس كانت ملتقى للأسانيد والعقول، وما يحدد الهوية العلمية للعالم هو "سلسلة الرواية" التي يحملها، لا خارطة الميلاد. وهكذا، فقد حملت دمشق صنعاء، كما حملت بغداد القيروان، والمدينة غرناطة، في شبكة علمية تتجاوز المكان وتتوحد بالعلم.
تبرز دراسة "صنعانيون، ولكن من دمشق" مفارقة تاريخية دقيقة، وهي أن جميع العلماء الذين نسبوا إلى "صنعاء" رغم إقامتهم أو وفاتهم في دمشق، كانوا قد توفوا قبل دخول الإمام يحيى بن حسين بن القاسم، المعروف بـ"الهادي إلى الحق" إلى اليمن عام 284هـ، حيث توفي آخرهم تقريبا سنة 280هـ. وهذا التوقيت يحمل دلالة جوهرية، إذ يكشف عن أن النسبة إلى "صنعاء" في تلك المرحلة كانت خالية من أي دلالات طائفية أو ارتباطات مذهبية خاصة. كانت تشير في جوهرها إلى بيئة علمية سنية، يغلب عليها الطابع الحديثي والمنهج الروائي، بعيدا عن أي رمزية هادوية أو زيدية.
ففي تلك الفترة كانت صنعاء عاصمة العلم في اليمن، تستقطب طلاب الحديث والفقه من مختلف الأمصار، ويزدهر فيها النشاط العلمي، خاصة في مجال الرواية والسند. ولعل أبرز من يجسد هذا المناخ هو الإمام عبد الرزاق بن همام الصنعاني، أحد أئمة الحديث الكبار، وصاحب كتاب "المصنف" الذي يعد من أمهات كتب الحديث. وقد مثل عبد الرزاق ذروة المدرسة الحديثية في صنعاء، التي اتسمت بالسنية الصافية في الفكر والممارسة.
أما التحول المذهبي الذي عرفت به صنعاء لاحقا فقد بدأ مع قدوم الإمام المعروف بـ"الهادي إلى الحق" في أواخر القرن الثالث الهجري. دخل صنعاء نحو سنة 288هـ بدعوة من بعض القبائل، لكنه لم يستقر فيها طويلا، وفضل اتخاذ صعدة مركزا لحركته العلمية والسياسية. ومن هناك، بدأ المشروع الزيدي الهادوي بالانتشار والتوسع، حتى غلب لاحقا على عدد من مناطق شمال اليمن، بما في ذلك صنعاء التي أصبحت مركزا إداريا للمذهب بفعل الهيمنة السياسية لا بسبب السياق العلمي الطبيعي.
وبذلك، فإن نسبة أولئك العلماء إلى "صنعاء" لا علاقة لها بالمذهب الزيدي لاحقا، بل تعبر عن مرحلة سابقة لها طابع علمي سني خالص.
شامنا ويمننا… توأمة الذاكرة والهوية
في عمق دمشق عاش "صنعانيون"، وفي قلب صنعاء ظلت الشام حاضرة؛ إذ لم تكن الهوية الإسلامية يوما حبيسة الجغرافيا أو مقيدة بالحدود السياسية. كانت هوية ممتدة، تنسج وشائجها عبر طرق العلم والسند والمجالسة، وتبني جسورا من الانتماء تتجاوز الحواجز الأرضية نحو وحدة حضارية شاملة. لم يكن العالم المسلم يعرف فقط من خلال موقع ميلاده، بل من خلال رحلته في طلب العلم، ومنبر تدريسه، وامتداد سنده، وتأثيره في الحواضر التي حل بها.
أن ينسب عالم إلى صنعاء وهو يروي في دمشق، أو يلقب بالبغدادي وهو يتصدر حلقات الأندلس، لم يكن خللا في التراجم، بل علامة على ديناميكية الهوية الإسلامية التي كانت ترى في "العلم" موطنا، وفي "السند" جغرافيا. لقد كانت العواصم الإسلامية تتقاطع في أدوارها؛ فدمشق ليست مجرد مدينة شامية، ولكن هي حاضرة حديث ورواية، وملتقى طرق المحدثين من الحجاز واليمن والعراق. وصنعاء لم تكن فقط عاصمة يمنية، وإنما مشتل إسناد، ومركز تراكم علمي ترحل إليه الأسانيد من الشام والعراق والحرمين.
كل سند نسب إلى "الصنعاني" في كتب الحديث، وكل رواية انتقلت من مجلس علم في الشام، كانت تجسد هذا التلاحم. إن علماء "صنعاء دمشق" الذين تناولتهم الدراسة لا يمثلون فقط حالة فردية، بل يكشفون عن نمط أوسع من الانصهار الثقافي بين الشام واليمن، ذلك الانصهار الذي يمكن تسميته "توأمة الذاكرة والهوية". في هذه التوأمة، تتداخل الأنساب، وتتقاطع المدارس، وتزدهر الهويات المعرفية، من دون أن تقف أمامها الحواجز أو تشتتها الأطر السياسية.
ولم يكن عبثا أن يجمع النبي ﷺ في دعائه بين الشام واليمن: "اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا"؛ فهو دعاء ليس جغرافيا في دلالته، ولا مجرد تمنيا بالبركة لمكانين على خارطة، وإنما هو نداء حضاري جامع، يختصر روح الأمة الواحدة في صيغتها العلمية والإنسانية، ويؤسس لوحدة شعورية ومعرفية ضاربة في عمق التاريخ الإسلامي.
لقد بارك النبي ﷺ في الشام واليمن لأنهما لم يكونا فقط موطنين، ولكنهما رئتان يتنفس منهما جسد الحضارة الإسلامية، وعينان تبصران بها أنوار العلم، ومحرابان يتعاقب فيهما الدرس والدعاء والرواية.
ففي الشام وضعت لبنات كبرى لعلوم الحديث والفقه والتفسير، وفي اليمن ازدهرت حلقات الإسناد وروح الزهد والتلقي. وحين نسب علماء إلى صنعاء وهم في دمشق، أو إلى الشام وهم من اليمن، لم يكن ذلك التباسا، بل تعبيرا صادقا عن وحدة معرفية كانت أعمق من الانتماءات السياسية وأسبق من الهويات القطرية.
هذا التداخل بين الشام واليمن ليس حدثا عابرا في كتب التراجم، بل نموذج حي لامتداد العقل المسلم الذي لا يتوقف عند تخوم الأرض، بل يعبرها بوسائط العلم، ويتجاوزها بسلاسل الإسناد والرحلة في طلب الحكمة.
إن دعاء النبي ﷺ يختزل مشروعا حضاريا لا يزال ممكنا، حين نستعيد تلك الروح الواحدة، وننبذ ضيق الانغلاق المذهبي، وننظر إلى المشرق والمغرب باعتبارهما أطرافا في جسد واحد، لا مناطق نفوذ متخاصمة.
فمتى ندرك أن الأمة التي وحّدها الحديث والسند والمصنفات لا يفرقها اختلاف اللهجات أو تغير الخرائط؟
ومتى نعيد لهذا السند الممتد بين الشام واليمن قدره، فنحيي بذلك ذاكرة الأمة الحية؟
المصدر: الموقع بوست
كلمات دلالية: اليمن الشام دمشق صنعاء صنعاء الیمن عبد الرزاق کتب الحدیث النسبة إلى صنعاء دمشق غوطة دمشق النسبة فی إلى صنعاء فی الشام فی دمشق لم یکن لم تکن لکن من
إقرأ أيضاً:
مبادلة العملات بين تركيا والصين منافع آنية وتحولات مشروطة
إسطنبول– جدد بنك الشعب الصيني والبنك المركزي التركي اتفاقية تبادل العملات الثنائية بين البلدين، بقيمة 35 مليار يوان صيني (نحو 4.88 مليارات دولار)، أي ما يعادل قرابة 189 مليار ليرة تركية. وتمتد الاتفاقية الجديدة إلى 3 سنوات قابلة للتجديد، في إطار سعي البلدين المتواصل لتوسيع استخدام العملات المحلية في التبادلات التجارية وتقليص الاعتماد على الدولار.
وفي خطوة موازية لتوسيع هذا التوجه، وقع الجانبان مذكرة تفاهم لإطلاق آلية مقاصة باليوان داخل تركيا، تتيح للبنوك التجارية تسوية المدفوعات التجارية مباشرة بالعملة الصينية، مما يمهّد لتسهيل حركة التجارة والاستثمار الثنائي باستخدام اليوان والليرة، على حساب العملات الصعبة التقليدية.
وبموجب هذه الآلية، سيتمكن المستوردون الأتراك من تسديد وارداتهم من الصين باليوان محليا دون الحاجة للمرور بالدولار، في حين يستطيع المصدرون الصينيون تحصيل مستحقاتهم بالعملة الصينية داخل السوق التركي. وتُعد هذه الخطوة مؤشرا على تحولات أوسع من مجرد التسهيلات التجارية.
شراكة نقديةيأتي تجديد الاتفاقية في إطار سياسة تركية مستمرة تهدف إلى تقليص الاعتماد على الدولار في التجارة الخارجية، وتعزيز مكانة الليرة في التسويات النقدية مع الشركاء الدوليين. وقد حدد البنك المركزي التركي أهداف الاتفاق بتوسيع استخدام الليرة واليوان في المعاملات التجارية مع الصين، وتوفير أدوات إضافية لدعم الاستقرار المالي في ظل تقلبات الأسواق الدولية والضغوط على العملات المحلية.
في المقابل، تندرج هذه الخطوة ضمن إستراتيجية الصين الرامية إلى تدويل عملتها وتوسيع استخدامها في التسويات التجارية عبر الحدود، خاصة مع الاقتصادات النامية، ومن بينها تركيا التي تحتل موقعا محوريا في مبادرة "الحزام والطريق".
وتسير هذه السياسة على خط بدأت تركيا اتباعه منذ سنوات، إذ دعا الرئيس رجب طيب أردوغان في عام 2016 إلى اعتماد العملات المحلية في المبادلات التجارية مع الصين وروسيا وإيران، بهدف تخفيف الضغط على الليرة وتعزيز حضورها في النظام النقدي العالمي.
إعلانوتعود أول اتفاقية مبادلة عملات بين المركزي التركي وبنك الشعب الصيني إلى فبراير/شباط 2012، عندما اتفق الطرفان على فتح خط ائتماني بقيمة 10 مليارات يوان (1.6 مليار دولار حينها) مقابل ما يعادل 3 مليارات ليرة تركية، بغرض تسهيل التجارة الثنائية وتعزيز سيولة النقد الأجنبي في السوق التركي.
وفي عام 2015، تم تمديد الاتفاق لـ3 سنوات مع رفع سقف التبادل إلى 12 مليار يوان، ثم جُدد مرة أخرى في مايو/أيار 2019 مع زيادة ملحوظة في الحجم إلى 35 مليار يوان، بالتزامن مع تصاعد حاجة تركيا للسيولة الأجنبية وسط اضطرابات سعر الصرف آنذاك.
دخل الاتفاق حيّز التنفيذ العملي في يونيو/حزيران 2020، حين أتاح البنك المركزي التركي لأول مرة سداد واردات من الصين مباشرة باليوان عبر النظام المصرفي المحلي. وفي يونيو/حزيران 2021، أعلن المركزي التركي تسجيل كامل قيمة الخط (35 مليار يوان، أي نحو 46 مليار ليرة في حينه) ضمن احتياطياته، بعد تفاهم سياسي واقتصادي رفيع المستوى مع بكين.
شبكة مبادلاتعلى امتداد السنوات الماضية، فعّلت أنقرة سياسة تنويع خطوط المقايضة النقدية مع عدد من الشركاء الإقليميين والدوليين، بهدف تعزيز احتياطاتها من العملات الأجنبية وتوسيع هامش حماية الليرة التركية.
ففي أغسطس/آب 2018، وقّعت تركيا اتفاق مبادلة عملات مع قطر بقيمة 5 مليارات دولار، تم رفعه في مايو/أيار 2020 إلى 15 مليار دولار (نحو 54.6 مليار ريال قطري أو 100 مليار ليرة تركية آنذاك)، في خطوة اعتُبرت حاسمة لدعم احتياطات البنك المركزي خلال ذروة أزمة الجائحة.
وفي أغسطس/آب 2021، أبرمت أنقرة اتفاقا مع كوريا الجنوبية بقيمة تريليوني وون كوري (حوالي 17.5 مليار ليرة حينها)، جُدد في أغسطس/آب 2024 لمدة 3 سنوات بحجم 2.3 تريليون وون، أي ما يعادل 1.7 مليار دولار وفق سعر الصرف السائد.
أما مع الإمارات، فقد جرى التوقيع في يناير/كانون الثاني 2022 على اتفاق مبادلة بقيمة 18 مليار درهم و64 مليار ليرة تركية (4.9 مليارات دولار آنذاك)، في توقيت تزامن مع تعافي العلاقات الثنائية وتراجع قيمة الليرة بنسبة تجاوزت 40% خلال ذلك العام. كما أجرت أنقرة محادثات مماثلة مع دول أخرى مثل اليابان وبريطانيا، لكن دون التوصل إلى اتفاقات نهائية حتى الآن.
يرى المحلل الاقتصادي محمد أبو عليان أن تجديد اتفاق المبادلة مع الصين يمنح أنقرة مكاسب مالية فورية، إلا أن أثره يبقى محدودا على المستوى البنيوي ما لم يترافق مع إصلاحات أعمق في بنية الاقتصاد التركي.
ويوضح أبو عليان، في حديثه للجزيرة نت، أن أول هذه المكاسب يتمثل في تعزيز احتياطيات النقد الأجنبي، إذ توفر السيولة المتاحة باليوان هامشا إضافيا للبنك المركزي التركي لمواجهة ضغوط الأسواق وتقلبات العملة المحلية. كما يشير إلى أن الاتفاق يسهم في تيسير سداد واردات السلع الصينية مباشرة باليوان، مما يخفف من الحاجة إلى التحويل عبر الدولار ويقلل من خسائر فروقات أسعار الصرف.
إعلانلكن في المقابل، يؤكد أن تسهيل الدفع باليوان لا يعالج الخلل الكبير في ميزان التجارة بين الجانبين، إذ تبلغ صادرات تركيا إلى الصين نحو 4.3 مليارات دولار سنويا، مقابل واردات صينية تتجاوز 39 مليار دولار. وهو ما يجعل تركيا المستفيد الأكبر من استخدام اليوان لتغطية وارداتها، بينما يبقى استخدام الصين لليرة التركية محدودا بفعل هذا الخلل المزمن.
وفيما يخص السيولة، يوضح أبو عليان أن هذه الترتيبات توفّر سيولة إضافية للبنك المركزي مقابل الليرة التركية، لكنها في جوهرها ديون قصيرة الأجل يجب سدادها مع فوائدها المستحقة. ويؤكد أن هذه النقطة شديدة الأهمية في تقييم طبيعة هذه الاتفاقيات.
كما يحذّر من الكلفة التراكمية لاستخدام هذه التسهيلات على المدى الطويل، مشيرا إلى أن السحب من هذه الخطوط يخضع لفوائد مرتبطة بسعر الفائدة بين البنوك في شنغهاي، مضافا إليها هامش إضافي، مما يشكل عبئا ماليا متزايدا كلما طالت مدة استخدام هذه السيولة.
تموضع جديدمن جانبها، ترى الباحثة الاقتصادية نيل كهرمان أن تجديد الآلية يمثل خطوة رمزية نحو تنويع الموقع النقدي لتركيا، لكنها تبقى في بدايتها ولا تعني تحولا سريعا في بنية النظام المالي التركي، الذي لا يزال يعتمد بشكل شبه كامل على الدولار واليورو.
وتوضح كهرمان، في حديثها للجزيرة نت، أن قبول تركيا استضافة مركز مقاصة باليوان يفتح أمامها هامشا أوسع لتوسيع خيارات التسوية التجارية، ليس فقط مع الصين، بل أيضا مع شركاء آخرين قد يفضلون التعامل بالعملة الصينية، مما يعزز ارتباط أنقرة بالنظام المالي الذي تسعى بكين إلى ترسيخه عالميا.
لكنها تؤكد أن نجاح هذه الخطوة فعليا مرهون بعدة عوامل، منها مدى إقبال القطاع الخاص التركي على استخدامها، واستقرار سعر الصرف بين الليرة واليوان، ومدى الدعم الصيني المستمر لتوسيع هذا النظام.
وترى أن هذه التجربة قد تساهم تدريجيا في إدخال اليوان وغيره من العملات غير التقليدية إلى جزء من الدورة الاقتصادية التركية مستقبلا، لكنها تظل حتى اللحظة خطوة تكتيكية ضمن سياسة تنويع الشركاء الماليين لا أكثر.