البهائيون في اليمن... حياة تحت قبضة الرعب
تاريخ النشر: 8th, August 2025 GMT
في قلب الأزمة اليمنية تتكشف فصول مأساة صامتة تطال أقلية دينية صغيرة، هم البهائيون. لم تكن معاناتهم وليدة الصراع الحالي، بل هي امتداد لاضطهاد تاريخي تفاقم منذ سيطرة جماعة الحوثي على زمام الأمور في صنعاء ومناطق شمال اليمن في أواخر عام 2014. تحول الاضطهاد من ممارسات متفرقة إلى سياسة ممنهجة.
يشير مسؤولون بهائيون، و"المبادرة اليمنية للدفاع عن حقوق البهائيين" إلى أن ما يتعرض له البهائيون في مناطق حكم الحوثي من اضطهاد واستهداف ليس سببها فقط وجود جماعة دينية متطرفة في صنعاء، وليس مجرد جزء من الظلم الذي يتعرض له كل من يحمل فكرا أو معتقدا مختلفا عن فكر ومعتقد الحوثي.
كحقوقيين، صُدمت المبادرة اليمنية في عام 2016 عندما اكتشفت، بعد عامين من أحداث العنف المتتالية ضد اليمنيين البهائيين، أن هناك مسؤولا في السفارة الإيرانية في صنعاء يتابع ملف "القضاء على البهائيين". ووفقا للمبادرة، فإن عددا ممن يديرون ملف ملاحقة البهائيين هم من القيادات الأمنية والقضائية التي حصلت على تدريب في إيران، وبأن ملاحقة البهائيين كانت جزءا مما تم توجيههم للقيام به.
وفي حديث إلى "المجلة" يقول أحد "البهائيين" اليمنيين إن ما تتعرض له جماعتهم في اليمن لو كان مجرد نتاج لحالة عامة، لأمكن اتخاذ بعض الخطوات القانونية التي تخفف نسبيا من معاناتهم، أو ربما التواصل مع بعض الشخصيات الأكثر اعتدالا في صنعاء للتخفيف من حدة ما يحدث. ولكن للأسف، الاضطهاد والاستهداف أصبحا سياسة عليا لدى الحوثيين.
ويشير مصدر لـ"المجلة" إلى أن عددا ليس بقليل من القادة الإيرانيين هم من الأعضاء الرئيسين فيما كان يعرف بالحركة "الحجّتية" التي تأسست في حدود عام 1953 في أيام شاه إيران، وكان هدفها الوحيد محاربة وملاحقة البهائيين والقضاء عليهم. مؤكدا أن هذه الشخصيات اليوم في موقع السلطة في إيران، وما زالوا يحملون نفس الفكر العدائي ضد البهائيين. لذا تجدهم يُصدرون فكر ملاحقة البهائيين أينما أصبح لهم نفوذ.
وتعتبر المبادرة اليمنية أن البهائيين يواجهون تحديا كبيرا في دول عربية عدة، فأذرع إيران بالمنطقة ساهمت بقوة في نشر ادعاءات زائفة على منابر ووسائل إعلام تابعة لها للترويج للشائعات، وزادت من خطاب الكراهية ضد البهائيين، وتسببت في موجة كبيرة من التشكيك والتخوين ضدهم. وكان لليمن، وتحديدا مناطق حكم الحوثي، نصيب الأسد من هذا التحريض.
تتعرض هذه الأقلية، التي تسعى فقط لممارسة شعائرها ومعتقداتها الدينية، لانتهاكات لحقوق الإنسان، تشمل الاعتقالات التعسفية، ونهب الممتلكات، وتلفيق التهم، وحظر ممارسة طقوسهم الدينية، وصولا إلى عزلهم عن المجتمع. هذه الانتهاكات لا تقتصر على فئة معينة، بل تطال رجالا ونساء وحتى قُصّرا، في حملة تستهدف وجودهم ذاته. ووفق المبادرة اليمنية فإنه لطالما وُجهت للبهائيين في اليمن، كما في إيران، تهم خطيرة تتراوح بين "العمالة والتخابر مع دول أجنبية"، وعلى رأسها إسرائيل، و"الردة عن الإسلام"، و"تعليم الدين البهائي". هذه التهم تُستخدم كذريعة لتبرير حملات القمع.
خطوات في مواجهة القمع
لاحظت "المبادرة اليمنية" حضّ البهائيين على التقيد بمبادئهم التي تحثهم على اتباع الوسائل السلمية وتحرّم عليهم الدخول في الصراعات والمواجهات والعنف. مشيرة إلى أنه في أول سنتين من عمليات الاعتقال والملاحقة في اليمن، حاولت الشخصيات البهائية حل التحديات بعيدا عن الصخب الإعلامي. وكانوا يطلبون من المحامين والحقوقيين أن يواجهوا ما يحدث من خلال المؤسسات القضائية اليمنية. ولكن بعد قرابة سنتين، أصبح من الواضح أن تسارع عمليات سجن الرجال والنساء والقصّر هو نتيجة سياسة ممنهجة. لذا قامت عدة مؤسسات ومبادرات حقوقية وقانونية، ومن بينهم المبادرة اليمنية، باتخاذ خطوات لإيصال القضية إلى الإعلام والمنظمات الحقوقية الإقليمية والعالمية. فقد كان من الواضح أن الحوثيين يستهدفون اجتثاث البهائيين بالكامل وإبادتهم ثقافيا.
إلى اليوم، يحاول البهائيون اليمنيون في الداخل والمهجر إزالة سوء الفهم الناتج عن الدعاية ضدهم على المنابر وفي الإعلام الحوثي وفي المناهج التعليمية. فهم يؤمنون بأن المواطنة المشتركة، والحديث مع الناس، والتواصل المباشر مع الجيران والأصدقاء والمجتمع من حولهم، هو العلاج الأفضل لإزالة سوء الفهم. ويؤمنون بأن ما يتعرضون له لا ينبغي أن يوقفهم عن المشاركة في خدمة مجتمعاتهم.
قمع الأقليات الدينية
في حديث لـ"المجلة" يؤكد مسؤول في المبادرة اليمنية، أن قمع الحوثيين للأقليات، ومنهم البهائيون، ليس فقط انتهاكا لحقوق الإنسان، بل يعكس مشروعا فكريا يسعى إلى طمس التعددية الدينية والثقافية في اليمن، "البهائيون يُعتقلون بسبب عقيدتهم، ويُلاحقون بتهم تتعلق بالإيمان والمعتقد، وتصادر ممتلكاتهم، وتغلق حساباتهم البنكية، ويُراقَبون عن طريق التنصت على هواتفهم، ولا يسمح لهم بمغادرة مناطقهم ليكونوا تحت الرقابة الدائمة، وإجمالا التضييق عليهم بصورة تصل إلى حد محاولة الإبادة الثقافية".
ويشير إلى استخدام القضاء الحوثي كسلاح ضدهم من خلال محاكمات غير عادلة وأحكام تعسفية، أو إجبار بعضهم على الهجرة القسرية خارج البلاد، مؤكدا أنه "في يوليو/تموز 2020، شهدنا انتهاكا صارخا لحقوق المواطنة عندما تم نفي ستة مواطنين يمنيين إلى خارج البلاد دون سابق إنذار وبعد شهور من الاعتقال والتعذيب فقط لكونهم بهائيين".
نمط الاضطهاد الممنهج لا يزال مستمرا، ولعل آخر حادثة واسعة النطاق كانت الهجوم المسلح الذي قام به الحوثيون على تجمع لبهائيين في أحد المنازل في صنعاء، واعتقلوا تعسفيا 17 شخصا بينهم خمس نساء. استمر اعتقال بعضهم لمدة تفوق السنة، وفقا لمصادر "المجلة".
تلميذة في المرحلة الابتدائية، أُجبرت على التوقف عن الذهاب إلى المدرسة لعلمها بأن ذهابها قد يعرض عائلتها للاعتقال في حال تمت متابعتها لاكتشاف مكان سكن والديها
شهادات الاعتقال والنفي
معاناة البهائيين تمنعهم من التحدث علنا خوفا من الاعتقال أو التنكيل، ووثقت "المجلة" بعض الشهادات محتفظة بسرية هويات أفرادها.
شهادة شابة بهائية (أ.ع) من صنعاء: ذكرت كيف اعتقلت في أغسطس/آب 2016 وهي تشارك في برنامج يخص إحدى منظمات المجتمع المدني التي كانت تُعنى ببناء قدرات الشباب لمستقبل أفضل لكل اليمنيين. قام الحوثيون بمداهمة المكان، وتم التعامل معها ومع بقية الحضور بشكل غير إنساني وأخذهم إلى جهة غير معلومة والتحقيق معها حول أمور تخص إيمانها بالدين البهائي، بالإضافة إلى أسئلة وضغوط لمعرفة سائر البهائيين.
أحد ممثلي البهائيين والمقيم في المهجر حاليا بسبب إرغامه على ترك اليمن، قال لـ"المجلة": "نحن نطالب بأن يقوم الحوثيون بإغلاق جميع ملفات القضايا المفبركة التي تم استخدام القضاء فيها كوسيلة لهذا الاضطهاد الممنهج. ونطالب بإغلاق ملف قضية السيد حامد بن حيدرة والذي حكم عليه بالإعدام قبل نفيه من اليمن، كما نطالب بإغلاق قضية البهائيين الأربعة والعشرين التي لا تزال معلقة في المحكمة الجزائية المتخصصة في صنعاء والتي تطالب النيابة بإصدار أحكام بالإعدام ضدهم جميعا. كما على الحوثيين أن يقوموا بإرجاع كل الممتلكات التي استولوا عليها من جميع البهائيين".
حياة على خط الاعتقال
ووثقت "المجلة" الكثير من القصص التي تبرز عمق معاناة البهائيين في اليمن:
قصة (أ.س): تلميذة في المرحلة الابتدائية، أُجبرت على التوقف عن الذهاب إلى المدرسة لعلمها بأن ذهابها قد يعرض عائلتها للاعتقال في حال تمت متابعتها لاكتشاف مكان سكن والديها، مما أجبر العائلة على الهجرة القسرية من اليمن. الكثير من الأطفال البهائيين يجدون صعوبة بالغة لإكمال تعليمهم بسبب تشويه سمعتهم في المدارس واستهداف أسرهم.
قصة (إ.ز): تروي هذه السيدة تفاصيل مؤلمة عن اختطاف زوجها المهندس من مقر عمله إلى الأمن القومي، واختفائه لتسعة أشهر كاملة دون أي خبر، أو زيارة، أو متابعة من محام. هي أم لثلاث بنات، أكبرهن كانت في سن الثالثة عشرة، تقف كل مساء عند النافذة، مرددة سؤالا واحدا: "أين أنت؟ هل ما زلت حيا؟". وبعد أسبوعين من اختفائه، اقتحموا بيتهم، وصوبوا السلاح نحوها، وصادروا كل شيء، حتى الذكريات. واجه زوجها في السجن تهما كثيرة تصفها بالكاذبة: التخابر، نشر الدين البهائي، بناء وطن قومي للبهائيين، ومن بينها اتهام وصفته بـ"الجميل" وهو: "التظاهر بمكارم الأخلاق"، و"مساعدة الفقراء للتأثير على الناس". تساءلت مرارا في كل زيارة: "هل من المعقول أن يتظاهر رجل بالفضيلة خمسين سنة؟ هل يتصنع الخير والصدق نصف قرن؟ أهذا جرم في نظر القانون؟". لم تكن زيارته أمرا بسيطا، بل أشبه بالمعركة... "كنت أذهب إلى النيابة الجزائية، أطلب إذن زيارة، أقف في طابور طويل أمام المحقق، الذي لم يكن يتوانى عن توجيه الكلام البذيء لي أمام الجميع. ثم أحمل بيدي طعامه وثيابه، وأتوجه مع بناتي نحو السجن. نمر بعدة بوابات، يتم تفتيشنا مرارا... حتى نُمنح عشر دقائق فقط. عشر دقائق نمسح فيها وجهه بعيوننا، وننقش في ذاكرته أننا ما زلنا ننتظره".
قصة (ج.ح): شابة يمنية اعتقلت لأنها بهائية، اقتادوها إلى غرفة باردة، وهناك وقفت أمام قاضٍ لا يعرف سوى لغة الصراخ والإهانة. صرخ في وجهها قائلا: "أنت كافرة، وأبوك كافر… ولو كانت ابنتي مثلك، لضربتها حتى تصمت!". رغم ضيق الأيام، كان صدى صوت والدها المعتقل يواسيها، وصورة ابتسامته في ذاكرتها تمنح قلبها عزيمة لا تلين. كانت في معتقلها تسمع صوته وهو يقول لها بلطف: "عبري عن رأيكِ يا ابنتي؟ قولي لي ما في قلبكِ… رأيكِ مهم". تؤكد أن صوته هذا كان يمنحها القوة والصبر، ويشعرها بأن صوت ورأي ابنته الكبرى ليس عيبا كما كان يصرخ القاضي بل هو انعكاس للكرامة والقيم الإنسانية. واليوم، حين تسترجع تلك اللحظات، تقول بكل يقين: "حين نمنح الفتاة حق التعبير، فإننا نمنح الأم، والمربية، والأسرة القادمة فرصة أن تنسج عالما جديدا. وحين تُحترم الشابة اليمنية لا لكونها أنثى فحسب، بل لأنها إنسانة ذات رأي، وروح، وكرامة، فإن صوتها يُصبح نورا لا يُطفأ".
تاريخ واضطهاد ممنهج
يعود الوجود البهائي في اليمن إلى منتصف القرن التاسع عشر، حيث وصلت الديانة إلى المناطق الساحلية والجزر اليمنية. تشير الرواية البهائية إلى وجود أتباع للديانة في اليمن منذ عام 1844، عندما مرّ مؤسس البابية التي انبثقت منها البهائية، عبر مدينة المخا الساحلية خلال رحلته من إيران إلى مكة المكرمة.
على الرغم من تصاعد الاضطهاد الممنهج في السنوات الأخيرة، فإن البهائيين في اليمن لم يكونوا بمنأى عن التمييز والاعتقال في فترات سابقة.
لا يقتصر الاضطهاد على الحريات الدينية والشخصية، بل يمتد ليشمل الجانب الاقتصادي حيث فقد عدد كبير من البهائيين وظائفهم وأعمالهم واستقرارهم المالي بسبب حملات الاضطهاد والتهجير القسري. أدت مصادرة الممتلكات، مثلما حدث مع منزل الباحث البهائي نديم الثقافي في صنعاء، إلى تدمير مصادر رزق الكثير من العائلات. يُفرض على البهائيين في اليمن قيود شديدة على فرص العمل والموارد الاقتصادية، مما يهدف إلى إضعافهم اقتصاديا وتجفيف مصادر دعمهم. هذا الاستهداف الاقتصادي هو جزء لا يتجزأ من استراتيجية القمع الشاملة، التي تسعى إلى تهميشهم وعزلهم عن المجتمع اليمني.
المصدر: الموقع بوست
كلمات دلالية: المبادرة الیمنیة فی صنعاء فی إیران فی الیمن
إقرأ أيضاً:
قيادي حوثي يقر بفشل جماعته ويفجّر فضائح فساد مالي: 150 مليار دولار منهوبة وصنعاء تواجه خطرًا يفوق إيران وحزب الله
كشف القيادي في مليشيا الحوثي وعضو ما يسمى بـ"المجلس السياسي الأعلى" سلطان السامعي، حجم الفساد المستشري في صفوف الجماعة وفشلها في إدارة مؤسسات الدولة المختطفة، محذّرًا من مستقبل مظلم يهدّد العاصمة صنعاء.
وقال السامعي، في مقابلة متلفزة بثتها قناة «الساحات» المدعومة من إيران، مساء الأحد 3 أغسطس/آب، إن سلطات الحوثيين «عاجزة حتى عن القبض على فاسد واحد ينهب علنًا»، مضيفًا: «من كانوا حفاة أصبحوا اليوم يمتلكون الشركات والوكالات، فمن أين لهم هذا؟».
وكشف السامعي أن أكثر من 150 مليار دولار خرجت من اليمن بفعل سيطرة الميليشيا على الموارد ونهبها لصالح قيادات عليا، دون محاسبة أو مساءلة، معتبرًا أن هذا الوضع يبرهن على تحوّل الجماعة إلى «سلطة فساد ممنهج» على حساب معاناة ملايين اليمنيين.
ووصف السامعي المجلس السياسي التابع للحوثيين بأنه «مجلس شكلي لا يملك القرار الفعلي»، مؤكدًا أن الأوضاع الاقتصادية تتجه نحو الانهيار بفعل قرارات وزارتي المالية والتجارة في صنعاء التي «تضر بالاقتصاد وتطرد رؤوس الأموال».
وحذّر القيادي الحوثي من أن العاصمة صنعاء «تواجه خطرًا أكبر مما حدث في إيران ولحزب الله»، مشددًا على أن استمرار الأوضاع الحالية سيقود البلاد إلى انهيار كامل ما لم يتم التوصل إلى مصالحة وطنية شاملة تفضي إلى «تقاسم السلطة والثروة بين مختلف المحافظات».
وأضاف: «عقد من الحرب مرّ دون منتصر، لا نحن استطعنا دخول عدن، ولا هم دخلوا صنعاء، ولم يعد هناك خيار سوى الحوار».
وفي سياق متصل، انتقد السامعي قرار سلطات الحوثيين القاضي بإعدام أحمد علي عبد الله صالح، واصفًا إياه بأنه «قرار سياسي في توقيت كارثي»، وقال: «كان الأجدر السكوت وعدم صب الزيت على النار، لأن مثل هذه الأحكام تعمّق الانقسام ولا تخدم المصالحة الوطنية».