حين مررت بالقرب من شجر الزيتون الذي حطمته آليات الاحتلال قبل عام، فوجئت بأغصان خضراء تنمو، ابتسمت، فقد انتصرت الأشجار الأبناء على الاحتلال بسهولة:
«إذا أنْتَ حَدَّقْتَ فيهَا قَرأْتَ حكَايتَنَا كُلَّهَا:
وُلدْنَا هُنَا بَيْنَ ماءٍ ونارٍ.. ونولَدُ ثانيةً في الْغُيومْ
على حافّة السّاحل اللاّزَوَرديّ بَعْدَ الْقيامَةِ.
فلا تَقْتُلِ العُشْبَ أكثر، للْعُشبِ روحٌ يُدافعُ فينا عن الرّوحِ في
الأرضِ/
يا سيّد الخَيْل! عَلِّم حصانك أنْ يعْتَذِرْ
لِروحِ الطَّبِيعةِ عَمَّا صَنَعْتَ بأشْجَارِنَا:
آهٍ، يا أَخْتِيَ الشَّجَرَةْ
لَقدْ عذَّبوكِ كما عَذَّبُونِي
فلا تَطْلبي الْمَغْفِرةْ
لحَطّابِ أمّي وأمِّكْ..»
هذا ما خاطب به محمود درويش على لسان سياتل زعيم دواميش في رائعته الخالدة: خطبة الهندي الأحمر: ما قبل الأخيرة، أمام الرحل الأبيض. لقد مرت عقود على الإبادة، لكن لم ينته الأمريكيون الأصليون ولا ثقافتهم.
في فلسطين المحتلة، فإن شجر الزيتون يعود ثانية، إنه بعث الفينيق، والعنقاء، تلك معجزة فلسطين، وليست أسطورة أبدا.
ماذا نقول عن الطفل الذي انقض جنود الاحتلال عليه، فأشبعوه ضربا وركلا «بالبساطير» الأمريكية وحواف البنادق المعدنية، حين فتح عينيه أمام الكاميرات، من خلال وجه صار دما، وابتسم، ورفع علامة النصر!
منذ وعت عيني، وأنا في اللاوعي والوعي أشهد مقاومة الاحتلال، من خلال الرموز، تلك قصص كثيرة يصعب إيرادها، لكن الناظم فيها هو وعي الفلسطينيين على أهمية التشبث بالهوية، والخصوصية الثقافية والرموز الوطنية.
حين استغرب أحد جنود الاحتلال وجود علم فلسطين في مطرزة جميلة أبدعته الحاجة نعمة، أختي، قلت له ببساطة مشيرا الى علم الاحتلال، ما هذا؟ فأجاب علم دولة إسرائيل! قلت له ونحن شعب فلسطين ولنا علم، فهل تتوقع أن نرفع علمكم هنا؟ فأنهى المحتل العشريني الكلام، لكنه لم يخف إعجابه بالمطرزة، فقلت له هل تعلم كم عمر تفاصيل هذه المطرزة؟ فأشار بالنفي. قلت له هذه عمرها آلاف السنين! وهنا خرج من البيت مطأطئ الرأس قائلا: أنتم بيت مرتب ومضى.
كل وقصصه، لكن كيف لي أن أنسى احتفاظ أبي بزيه الفلسطيني، وهو يقطع جموع المحتلين، غير آبه بهم، فورثت ذلك، وكم تأثرت بسلوكه حين رفض دخول أي مبنى حكومي بعد هزيمة عام 1967 عليه أي رمز للاحتلال، حتى ولو لغة عبرية.
قال أبي وكثيرون: سنغلبهم بهذا وهذا، مشيرين للكتب التي بين أيدينا والشجر الذي أمامنا ونحن نجلس أمام البيت.
بالرغم من محاولات إبادتنا منذ عام 1948، وصولا الى حرب الإبادة على غزة، ونحن نزداد تجذرا وقوة ثقافية وفنية، فنحن الشعب الذي يعيش تحت الاحتلال ونسبة التعليم فيه تفوق دولة الاحتلال!
لم نباد، ولن، فكل فلسطيني يصير أمة!
استعار محمود درويش في قصيدة «خطبة الهندي الأحمر: ما قبل الأخيرة، أمام الرجل الأبيض» التي تضمنها «ديوان أحد عشر كوكبا» الذي صدر عام 1992، حالة الأمريكيين الأصليين، شعب القارة الأصلي، وهو هنا بذكاء يفرّق بين أمرين، قامت عليهما القصيدة. أما الهندي الأحمر فكانت خطبته الأخيرة بعد المعركة التي خسرها، وهو قد اعتاد أن يتحدث عن استخلاصاته لقومه، كما روى درويش حين قدم لقصيدته التي ألقاها. لكن محمود درويش، الهندي الآخر الذي ما زال يقاوم سيد البيض، فكانت خطبته قبل الأخيرة، لا لأنه لم ينهزم، بل لأنه يثق بأن خطبته الأخيرة هي إعلان نصره على سيد البيض!
ذلك في نظري هو دور الثقافة والفنون، فهما وإن كانا أهم ما يميز الشعوب، مثل الشاهنامة للفردوسي، فإنهما يشكلان ما يمكن تسميتهما بالدينامو، إن الثقافة والفنون رافعتان للشعوب، وهما باعثان للحياة، وهل كانت الثقافة والفنون في الحضارات جميعا إلا أساس النهضة والحضارة!
لقد حاكى العبرانيون الجدد العبرانيين القدامى حين انهالوا على الرموز الثقافية القديمة من كنعان ويبوس، لكن يبدو أن فلسطين عصية على الإبادة، حيث إن غنى الثقافة والفلكلور يمتد على الأرض وفي داخل البشر هنا، فكل ما يحيط بهم، وكل ما يتعلق بهم يصير ثقافة، كالزيت والزعتر والدران الاستنادية في جبال فلسطين.
زعم الصهاينة أن فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، وهكذا كانت الأرض الجديدة القديمة رواية طوباوية نشرها مؤسس الصهيونية السياسية تيودور هرتزل عام 1902، أي بعد إعلان تأسيس الحركة الصهيونية عام 1897 بخمس سنوات.
«تحكي الرواية قصة فريدريش لوينبيرج، وهو شاب يهودي من فيينا مفكر، وانضم إلى أرستقراطي بروسي أمريكي يُدعى كينجسكورت أثناء تقاعدهم في جزيرة نائية في المحيط الهادئ. توقفا في يافا في طريقهم إلى المحيط الهادئ، ووجدوا فلسطين أرضًا متخلفة ومعدمة وذات كثافة سكانية منخفضة، كما بدت لهرتزل في زيارته عام 1898».
امتلأت الرواية بالمغالطات، ونفت وجود شعب فلسطين، وتتابع الصهاينة والمسيحيون الصهيونيون في إزاحة الفلسطيني من فضاء فلسطين، واستمر ذلك حتى الآن، إنهم لا يروننا! ورغم ذلك، فإن فلسطين هي الأكثر حضورا.
باختصار، ما فعله الصهاينة هنا كان فقط محاكاة لما فعله البيض في أمريكا: الإبادة، لكن ذلك لم يتحقق، بل صارت فلسطين أكثر نضرة وجمالا، وتجلى ذلك بالطبيعة والزراعة والإبداع. دوما كنت مقتنعا بأن «كروم عنب بيت دقو.. وفلسطين» تنتصر بسهولة على الاحتلال، ودوما كنت أرى دواوين محمود درويش، وما أنجزه المبدعون هنا أسلحة الاحتلال.
«وكولومبوسُ الحُرّ يَبْحثُ عَنْ لُغةٍ لم يجِدْها هُنا،
وعَنْ ذَهبٍ في جَماجِم أجدادنا الطّيّبين، وكَانَ لهُ
ما يُريدُ من الْحيّ والميْتِ فينا. إذًا
لماذا يُواصلُ حَرْب الإبادَة، من قَبْرِه، للنِّهَايَةْ؟
ولَمْ يَبْقَ مِنَّا سِوَى زِينَةٍ للْخرابِ، وريشٍ خَفيفٍ عَلَى
ثياب الْبحيْرات. سَبْعونَ مليون قلْبٍ فَقأْت.. سيَكْفي
ويكْفي، لترْجع منْ مَوْتنا ملكًا فَوْق عَرْش الْزمانِ الْجَديد..»
هي القصيدة- الاستعارة، والرمز، التي تفسّر مواصلة حرب الإبادة الفاشلة (غزة مثالا ساطعا من خلال الأدب الجديد الذي يظهر الآن)، تلك نبوءة درويش وتلك مقاومته.
كتب محمود درويش القصيدة قبل 33 عاما، لكنها تزداد حضورا ونضرة. وكذلك صرنا أكثر بقاء من الاحتلال نفسه، الذي ينهي نفسه بنفسه، وأما نحن فسنواصل الزراعة والغناء.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: محمود درویش
إقرأ أيضاً:
فلسطين تطالب مجلس الأمن بتحرك عملي وفوري لوقف إبادة غزة
طالب المندوب الدائم لدولة فلسطين لدى الأمم المتحدة رياض منصور، اليوم الأحد، مجلس الأمن بالتحرك العملي والفوري لوقف حرب الإبادة الجماعية التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة.
وقال منصور خلال كلمته في الجلسة الطارئة لمجلس الأمن: "يجب عدم الاكتفاء بالشعور بالذنب والعار، وعلينا التحرك الآن لإيقاف الإبادة الجماعية"، منوها إلى أنّ "إسرائيل تسعى لاحتلال كامل القطاع لمنع إقامة دولة فلسطينية مستقلة".
وفجر الجمعة، أقر المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر "الكابينت" خطة تبدأ باحتلال مدينة غزة، عبر تهجير سكانها البالغ عددهم نحو مليون نسمة إلى الجنوب، ثم تطويق المدينة وتنفيذ عمليات توغل في التجمعات السكنية.
ويلي ذلك مرحلة ثانية تشمل احتلال مخيمات اللاجئين وسط قطاع غزة، والتي دمرت إسرائيل أجزاء واسعة منها، ضمن حرب متواصلة بدعم أمريكي منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
وأشار منصور، إلى أنه في غزة "يعاني أكثر من مليوني ضحية معاناة كبيرة لا يمكن للعقل البشري أن يتصورها، ولم يعد مسموحا لنا خذلانهم أكثر من ذلك، ولا يجب أن نكتفي بالشعور بالذنب أو العار، والمجلس مدين بالتحرك الآن لإيقاف الإبادة الجماعية".
وتابع: "لا يمكن نكران أن إسرائيل لا تبالي بما يقوله أحد، وأن كل ما يهم الآن هو القدرة على تحويل الإدانات إلى أعمال عادلة، وأن التاريخ سيحكم على الجميع"، معربا عن تقديره لـ"وصف الجميع تقريبا لعمق الألم والمأساة التي يعاني منها الشعب الفلسطيني".
واستدرك: "إلا أن ذلك ليس كافيا ويجب التحرك لمعالجة الوضع ووضع حد له وإلا فإن هذا الوصف لا يعني شيئا إن لم يتم التحرك"، داعيا مجلس الأمن إلى التحرك "بموجب الفصل السابع، لحرمان إسرائيل من السعي وراء أو الاستمرار بهذه الحرب المليئة بالجرائم الفظيعة".
ويسمح الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة باستخدام القوة أو العقوبات الاقتصادية لفرض تنفيذ القرارات. وخلال أكثر من جلسة سابقة حاول مجلس الأمن الدولي اتخاذ قرار بوقف دائم لحرب الإبادة التي تقوم بها إسرائيل في قطاع غزة، إلا أن "الفيتو" الأمريكي كان يجهض تلك المحاولات.
وعن خطط احتلال غزة، قال مندوب فلسطين إن "تدمير شعبنا والقضاء على الحياة في غزة ما زالت مستمرة حتى هذه اللحظة، وبالتالي نظرا لإصرار نتنياهو للاستمرار بهذه المجزرة للقضاء على شعبنا من خلال الدمار والموت وضم أرضنا لتدمير فلسطين ومعها أي فرصة لتحقيق السلام، آن لهذا المجلس أن يتحرك".
وتابع أن "ثمة خطة دولية اعتمدها المؤتمر الدولي رفيع المستوى بشأن فلسطين تبدأ بإنهاء استخدام التجويع كسلاح حرب، وإنهاء الحرب على غزة من خلال وقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن (الإسرائيليين) والأسرى (الفلسطينيين)، وزيادة كبيرة في المساعدات الإنسانية بقيادة الأمم المتحدة وبحسب المبادئ الإنسانية، والانسحاب الكامل لإسرائيل من قطاع غزة".
وذكر منصور، أن الخطة "تأخذ بالاعتبار أن السلطة الوطنية الفلسطينية ستستأنف مهامها الأمنية وفي مجال الحكم في قطاع غزة مع دعم دولي وإقليمي في سياق إنهاء الحرب، مع تحديد مسار لا يمكن العودة عنه نحو دولة فلسطينية ذات سيادة للوصول إلى السلام".
وعقد المؤتمر الدولي لحل الدولتين، برئاسة السعودية وفرنسا وبمشاركة رفيعة المستوى، في مقر الأمم المتحدة بنيويورك أواخر يوليو/تموز الماضي، وقاطعته واشنطن وتل أبيب، وصدر عنه إعلان تضمن اتفاقا بين الدول المشاركة على اتخاذ خطوات ملموسة محددة زمنيا لتحقيق حل الدولتين (فلسطينية وإسرائيلية).
ولفت منصور، إلى أنه "لو كان شاغل إسرائيل هو الأمن كانت ستصادق على هذه الخطة (...) إلا أن إسرائيل تسعى إلى تعزيز سيطرتها العسكرية الكاملة على قطاع غزة وتطيل أمد الحرب لمنع إقامة دولة فلسطينية مستقلة، والحكومة الإسرائيلية قالت ذلك مرة تلو أخرى".
ومنذ 7 أكتوبر 2023، ترتكب إسرائيل إبادة جماعية بغزة، تشمل القتل والتجويع والتدمير والتهجير القسري، متجاهلة النداءات الدولية كافة وأوامر لمحكمة العدل الدولية بوقفها.
وخلّفت الإبادة 61 ألفا و430 شهيدا فلسطينيا و153 ألفا و213 جريحا، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 9 آلاف مفقود، ومئات آلاف النازحين، ومجاعة قتلت 217 شخصا، بينهم 100 طفل.