بين بسطات خلت إلا من بعض حبات الخضار وبقايا الطعام المعلّب، تتفحّص سُعاد عفانة، نازحة من مخيم جباليا، نقودها المعدنية، باحثةً عن معادلة حسابية من شأنها أن تساعدها على العودة بطعامٍ يكفي أطفالها بما تملكه من شواكل معدودة.

تقول عفانة: «منذ أن استُشهد زوجي، وأنا أواجه هذه الحياة وحدي؛ صرتُ الأم والأب معًا لخمسة أطفالٍ، أصغرهم لم يُكمل عامه الرابع».

مُضيفةً: «لا أحد يسأل عنّي، ولا قريب يطرق بابي؛ فالجميع غارقٌ في أزمته مثلي. في كل صباحٍ، أحمِل مسؤولية بيتي على كتفيّ، وأخرج بما توفّر معي من نقودٍ قليلة لأشتري ما يسدّ رمق أطفالي. لا أطلب من أحد، ولا أمدّ يدي لأحد».

وتتابع عفانة: «أعود إلى بيتي بكيس خبز، وربما بعض العدس إن وُجد، وأحاول أن أُخفي خوفي عن أطفالي بابتسامةٍ مطمئنة؛ لكن في داخلي صراعٌ لا ينتهي: "هل سيكفيهم هذا؟ ماذا لو لم أستطع أن أُطعمهم غدًا؟ أصعب ما في الأمر ليس الجوع، بل أن أشعر أنني وحدي تمامًا، لأن كل من حولي أيضًا يقاوم وجعه بصمتٍ ثقيل".

مراكز الإيواء.. مساحات تعج بالضغط والانفجار:

ويروي محمود أبو عودة، نازح يعيش مع عائلته المكوّنة من 17 فردًا داخل غرفة لا تتجاوز 20 مترًا في إحدى المدارس التي تحوّلت إلى مراكز إيواء، إن المشاحنات اليومية باتت واقعًا لا مفرّ منه.

ويُكمل أبو عودة: "والدي يتشاجر مع عمي، ووالدتي تدخل في خلافات متكررة مع زوجة عمي، مرة على تنظيف المكان وتارةً لأنها استخدمت أدوات المطبخ دون إذن، وبين شدّ هذا وجذب ذاك تنفجر براكين الكبت في وجوهنا جميعًا".

ويشير إلى أن ابنهم الأكبر، الذي كان طالبًا متفوّقًا، أصبح سريع الانفعال ومنعزلًا، لا يتحدث مع أحد، وينفجر لأتفه الأسباب: "حتى الأطفال لم نعد نسمح لهم باللعب معًا، نخشى أن ينقلب اللعب إلى شجار، فصارت البراءة عبئًا إضافيًا".

ويعزي أبو عودة هذه الصراعات اليومية كنتيجة حتمية للواقع الذي فرضته الحرب، فيقول: "الضغط، والتكدّس، وقلة الحيلة، حوّلونا من عائلة متماسكة إلى غرباء تحت سقفٍ واحد... وكأننا نعيش حربًا أخرى، لكن هذه المرة بيننا".

بفعل منهجية الاحتلال التي تغلغلت في تفاصيل الحياة اليوميّة، لم يَعُد الدمار مقتصرًا على البيوت والشوارع فحسب، بل امتدَّ ليَهُزّ الروابط والعلاقات داخل الأسرة والمجتمع، ويزرع التزعزع والخلاف بدل الأمان والتماسك؛ ليُهدِّد النسيج الاجتماعيّ من الداخل بصمتٍ أخطر من أصوات القصف.


 

تفتيت المجتمع كإستراتيجية 

يشير الدكتور سلامة أبو زعيتر، رئيس نقابة الأخصائيين الاجتماعيين والنفسيين، إلى أن الحرب على غزة وما صاحبها من أزماتٍ إنسانية تسبّبت بضغوطٍ مركبة على الروابط الأسرية والنسيج الاجتماعي، وزيادة حدّة التوتر وضعف الاستقرار والثقة بين الأفراد والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية، مما أدّى إلى انتشار ظواهر اجتماعية سلبية كالسرقة والعنف والانحراف؛ مدفوعين باليأس والإحباط.

ويؤكّد أبو زعيتر أن ما يجري في غزة ليس عشوائيًا، بل هو جزء من استراتيجيةٍ ممنهجة ينفّذها الاحتلال لإضعاف وتفتيت المجتمع الفلسطيني، عبر الحصار وتدمير البنية التحتية ومنع المساعدات واستمرار القصف والتهجير، مما يهدّد بزيادة التفكك الأسري وتآكل الهوية الوطنية، ويترك آثارًا نفسية واجتماعية خطيرة على الأجيال المقبلة، ويحرم غزة من مقوّمات التنمية وإعادة الإعمار؛ نتيجة دفع الكفاءات الشابة للهجرة.


 

مبادرة الصمود والدعم: 

ويشدّد على أن المجتمع الغزّي، برغم الحصار والحرب، لا يزال يثبت قدرةً عالية على الصمود والتحصين الذاتي، من خلال شبكة دعم تشكّلها العائلات الممتدة والمبادرات الشبابية واللجان التطوعية التي تعمل على تأمين الاحتياجات التي تعجز المؤسسات الرسمية عن توفيرها وابتكار حلول اقتصادية وإبداعية وتوثيق الانتهاكات ليظلّ نسيجه الاجتماعي متماسكًا، وتبقى هويّته حاضرة في مواجهة التفتيت والعزل.

خطة إنقاذ متكاملة: 

ويختم رئيس نقابة الأخصائيين الاجتماعيين والنفسيين بالتأكيد على ضرورة تبنّي خطة متكاملة لمواجهة الظروف المعقّدة في غزة، تقوم على تخفيف الأزمة الإنسانية بتدخّلاتٍ فورية طارئة على صعيد الدعم المادي والنفسي، ودفع التنمية المستدامة بإنهاء الحرب والحصار ومعالجة الاقتصاد، وتعزيز قيم التماسك الاجتماعي والوحدة الوطنية وإصلاح الحوكمة ومؤسسات الدولة والاستثمار في الأجيال القادمة.

أرقام واحصائيات أممية: 

وتشير تقارير صادرة عن هيئات الأمم المتحدة إلى أن قطاع غزة يعاني من أزمةٍ إنسانية حادة، بعد أن تسبّبت الحرب في تدمير 92% من المنازل وتشريد نحو 1.9 مليون شخص داخليًا، في ظروفٍ مأساوية وانعدامٍ لتوفّر المقوّمات الأساسية للحياة، في ظلّ تفشّي المجاعة والنقص الحاد في مصادر المياه الصالحة للشرب، مما يستدعي تحرّكًا عاجلًا لإنقاذ الوضع الإنساني في قطاع غزة المنكوب.

لم يختر الغزيون أن يعيشوا هكذا، ولم تكن لهم حرية تقرير مصيرهم؛ بل هو واقعٌ فُرض عليهم، وما زالوا يحاولون النجاة رغم كل شيء أمام محتلٍّ لا يترك فرصة لإضعافهم وكسر صمودهم.

ملاحظة : هذا مخرج عملي لدورة " الصحفيات والقيادة الإعلامية" التي نفذتها مؤسسة بيت الصحافة في الفترة من 22 إلى 30 يونيو 2025

المصدر : وكالة سوا - حلا أبو لمضي اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد المزيد من تقارير خاصة المساعدات الأمريكية.. غزة بين جوع قاتل ونار لا ترحم أطفال غزة.. ضحايا الحصار الغذائي والتجويع المتعمّد أزمة العملات الذائبة بغزة... بين عجز السوق وصمت السياسات الأكثر قراءة تفاصيل لقاء الشيخ مع وفد أوروبي لبحث وقف العدوان على غزة ألبانيز: إسرائيل مسؤولة عن إحدى أقسى جرائم الإبادة بالتاريخ الحديث مصطفى: حريصون على الارتقاء بقطاع الحكم المحلي الاحتلال يمهل 22 عائلة بإخلاء منازلها للسيطرة على أراضيهم في صور باهر عاجل

جميع الحقوق محفوظة لوكالة سوا الإخبارية @ 2025

المصدر: وكالة سوا الإخبارية

إقرأ أيضاً:

الضفة تواجه الحصار: الاحتلال يصعد عدوانه ضد الفلسطنيين

شنت قوات الاحتلال الإسرائيلي، فجر اليوم الجمعة، حملة اقتحامات في مناطق متفرقة من الضفة الغربية، فيما شنّ مستوطنون اعتداءات جديدة استهدفت ممتلكات الفلسطينيين ومنازلهم جنوب الضفة، في تصعيد متزامن مع العدوان المستمر على قطاع غزة.

وأفادت مصادر محلية فلسطينية بأن جنود الاحتلال أطلقوا النار تجاه مركبة قرب منطقة بلاطة البلد شرق نابلس، دون أن ترد تقارير فورية عن الإصابات. كما اقتحمت قوات الاحتلال بلدة بزاريا غرب نابلس واعتقلت ثلاثة شبان، إلى جانب مداهمات في بلدة صيدا شمال طولكرم.

وفي محافظة الخليل، اقتحمت قوات الاحتلال المنطقة الجنوبية من المدينة، وداهمت منازل عدة، كما شنت اقتحامًا مماثلًا في مدينة أريحا شرقي الضفة.

واقتحمت قوات الاحتلال اقتحمت منزلي منفذي عملية "غوش عتصيون" في كل من بلدة حلحول شمال الخليل وبزاريا غرب نابلس، في أعقاب العملية التي أسفرت عن مقتل جندي احتياط يعمل حارس أمن، بعد أن نفّذ فلسطينيان هجومًا مزدوجًا تضمن إطلاق نار وطعن عند مفترق المستوطنة جنوبي الضفة.

وعقب العملية، فرضت قوات الاحتلال طوقًا أمنيًا مشددًا في المنطقة، وأغلقت مفترق غوش عتصيون في جميع الاتجاهات، كما منعت الدخول والخروج من 6 مستوطنات مجاورة.

هيئة البث الإسرائيلية أكدت إغلاق مداخل مدينتي الخليل وبيت لحم، وبدء عمليات تمشيط بحثًا عن منفذين محتملين. كما أعلن جيش الاحتلال أنه ينفذ عمليات تفتيش في قرية حلحول ضمن التحقيقات الجارية في الهجوم.

وفي تطور آخر، أعلن جيش الاحتلال إصابة أحد جنوده بجروح بعد تعرضه للطعن من قبل فلسطيني في بلدة رمانة غرب جنين. وقد نعت حركة حماس منفذ العملية، مؤكدة أنها تأتي "ردًا على جرائم الاحتلال في غزة والضفة الغربية وانتهاكاته بحق الأسرى والمقدسات".

من جهة أخرى، تواصلت اعتداءات المستوطنين في الضفة الغربية، حيث هاجمت مجموعة منهم مركبات فلسطينية بالحجارة مساء أمس عند المدخل الغربي لبلدة تقوع جنوب شرقي بيت لحم، ما تسبب بأضرار لعدد من المركبات، وفقًا لوكالة الأنباء الفلسطينية (وفا).

وفي الخليل، أقدم مستوطنون على الاعتداء على منزل المواطن نادي العطاونة في بلدة بيت كاحل، حيث حطموا محتوياته واقتلعوا عددًا من الأشجار من أرضه الزراعية، في إطار اعتداءات ممنهجة تستهدف الوجود الفلسطيني في المنطقة.

وبحسب هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، نفذ المستوطنون 2153 اعتداءً في النصف الأول من العام الجاري، أسفرت عن مقتل أربعة فلسطينيين.

وفي ظل استمرار العدوان الشامل على غزة، صعد الاحتلال الإسرائيلي اعتداءاته في الضفة الغربية بما في ذلك القدس المحتلة، حيث استشهد ما لا يقل عن 996 فلسطينيًا، وأُصيب نحو 7 آلاف آخرين، وتم اعتقال أكثر من 18 ألف شخص منذ بداية العدوان في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وفق بيانات فلسطينية.

 


© 2000 - 2025 البوابة (www.albawaba.com)

سيف الزعبي

قانوني وكاتب حاصل على درجة البكالوريوس في الحقوق، وأحضر حالياً لدرجة الماجستير في القانون الجزائي، انضممت لأسرة البوابة عام 2023 حيث أعمل كمحرر مختص بتغطية الشؤون المحلية والإقليمية والدولية.

الأحدثترند الضفة تواجه الحصار: الاحتلال يصعد عدوانه ضد الفلسطنيين حدث أمني كبير يهز الاحتلال شمالي غزة وتفاصيل جديدة حول خسائره هدنة قريبة في غزة؟ نتنياهو يتحدث عن اتفاق محتمل لمدة 60 يومًا طريقة تحضير ماسك الطحينة لتبييض البشرة طريقة عمل معمول بالسمسم Loading content ... الاشتراك اشترك في النشرة الإخبارية للحصول على تحديثات حصرية ومحتوى محسّن إشترك الآن Arabic Footer Menu عن البوابة أعلن معنا اشترك معنا حل مشكلة فنية الشكاوى والتصحيحات تواصل معنا شروط الاستخدام تلقيمات (RSS) Social media links FB Linkedin Twitter YouTube

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا للحصول على تحديثات حصرية والمحتوى المحسن

اشترك الآن

© 2000 - 2025 البوابة (www.albawaba.com) Arabic social media links FB Linkedin Twitter

مقالات مشابهة

  • أوجلان والكلمة التي أنهت حربا
  • الضفة تواجه الحصار: الاحتلال يصعد عدوانه ضد الفلسطنيين
  • والي ولاية الخرطوم يرحب بعودة نشاط جهاز الاستثمار بصندوق الضمان الاجتماعي وتشغيل مؤسساته داخل الولاية
  • أطفال غزة.. ضحايا الحصار الغذائي والتجويع المتعمّد
  • 14 حالة انتحار بين جنود الجيش الإسرائيلي في 2025
  • فوضى طرابلس: عشرات القتلى و461 سجيناً هارباً وآلاف الأضرار
  • السويدي للتنمية الصناعية تجذب استثمارات تركية جديدة لتعزيز صناعة النسيج في مصر بالتعاون مع التمثيل التجاري
  • فوضى التعليم في عدن: المدارس الخاصة تضاعف الرسوم رغم تعميم التربية!
  • السويدي للتنمية الصناعية تجذب استثمارات تركية جديدة لتعزيز صناعة النسيج في مصر