الإبادة الجماعية هي تخصصي لذلك أعرفها حينما أراها
تاريخ النشر: 22nd, July 2025 GMT
بعد شهر من هجمة حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر سنة 2023، اعتقدت بوجود أدلة على ارتكاب الجيش الإسرائيلي جرائم حرب وربما جرائم ضد الإنسانية في هجومه المضاد على غزة. لكن، خلافا لصرخات أشد منتقدي إسرائيل، لم يبد لي أن الأدلة ترقى إلى جريمة الإبادة الجماعية.
بحلول مايو من عام 2024، كانت القوات الإسرائيلية قد أمرت قرابة مليون فلسطيني لاجئ إلى رفح ـ وهي آخر مدينة غير متضررة نسبيا في أقصى جنوب قطاع غزة ـ بالانتقال إلى منطقة المواصي الساحلية، التي لم يكن لهم فيها مأوى يذكر.
في تلك المرحلة بدا أنه لم يعد بالإمكان أن ننكر أن النمط الذي تتبعه عمليات الجيش الإسرائيلي يتسق مع التصريحات القائلة بوجود نية إبادة جماعية، وهي تصريحات صدرت عن قادة إسرائيليين في الأيام التالية لهجمة حماس. إذ تعهد رئيس الوزراء الإسرائيلي بأن يدفع العدو «ثمنا باهظا» للهجمة وبأن الجيش سوف يحول أجزاء غزة ـ التي تعمل منها حماس ـ «إلى حطام»، ودعا «المقيمين في غزة» إلى «المغادرة فورا لأننا سوف نعمل بقوة في كل مكان».
وحث نتنياهو مواطنيه على أن يتذكروا «ما فعله بكم العماليق»، ففسر كثيرون هذا الاقتباس باعتباره إشارة إلى نص توراتي يطالب بني إسرائيل بـ«قتل الرجال والنساء والأطفال والرضع على السواء» ممن ينتمون إلى أعدائهم القدامى. وقال مسؤولون في الحكومة والجيش إنهم يقاتلون «حيوانات آدمية» ثم دعوا لاحقا إلى «الإبادة الكاملة». وقال نيسيم فاتوري، نائب رئيس البرلمان في موقع إكس إن مهمة إسرائيل لا بد أن تتمثل في «محو قطاع غزة عن وجه الأرض». ولا سبيل إلى فهم أفعال إسرائيل إلا بوصفها تنفيذا لهذه النية المعلنة بجعل قطاع غزة غير قابل لسكنى الشعب الفلسطيني. وأعتقد أن الهدف كان ولا يزال هو إرغام الشعب على مغادرة قطاع غزة كليا أو إضعاف القطاع ـ نظرا لعدم وجود مكان غيره للشعب الفلسطيني ـ عبر القصف والحرمان الحاد من الطعام والمياه النظيفة والشروط الصحية والطبية بحيث يستحيل على الفلسطينيين في غزة أن يحافظوا فيه على وجود جماعتهم أو يعيدوا تأسيسه.
وبات استنتاجي الحتمي هو أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في حق الشعب الفلسطيني. ولأنني نشأت في بيت صهيوني، وعشت نصف عمري الأول في إسرائيل، وخدمت في الجيش الإسرائيلي جنديا وضابطا وقضيت أغلب حياتي المهنية أبحث وأكتب عن جرائم الحرب والهولوكوست، فقد كان هذا الاستنتاج مؤلما، فقاومت الانتهاء إليه قدر استطاعتي. ولكنني ظللت ربع قرن أقوم بتدريس الإبادة الجماعية، وبوسعي أن أعرفها حين أراها.
وليس هذا استنتاجي وحدي. فثمة عدد متزايد من الخبراء في دراسات الإبادة الجماعية والقانون الدولي توصلوا إلى أنه لا يمكن تعريف أفعال إسرائيل في غزة إلا بوصفها إبادة جماعية. فذلك هو حال فرانشيسكا ألبانيز، مقررة الأمم المتحدة الخاصة في الضفة الغربية وغزة، ومنظمة العفو الدولية. كما رفعت جنوب إفريقيا قضية إبادة جماعية على إسرائيل في محكمة العدل الدولية.
ولن يتسبب استمرار دول ومنظمات دولية وخبراء قانونيين وباحثين في إنكار هذا التوصيف إلا في إلحاق ضرر بالغ لا بشعب غزة وإسرائيل فقط وإنما سيضر أيضا نظام القانون الدولي الذي تأسس غداة أهوال الهولوكوست، مستهدفا منع حدوث هذه الأعمال الوحشية مرة أخرى. وهو أيضا تهديد لأسس النظام الأخلاقي الذي نعتمد عليها ذاتها.
***
تم تعريف جريمة الإبادة الجماعية في عام 1948 في الأمم المتحدة باعتبارها «نية التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة وطنية أو عرقية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه». ومن ثم فمن أجل تحديد ما يمثل إبادة جماعية، لا بد أن نثبت النية ونبين تنفيذها. وفي حالة إسرائيل، تم التعبير علنا عن هذه النية مرارا من خلال العديد من المسؤولين والقادة. غير أن من الممكن تبين النية أيضا من خلال نمط عمليات على الأرض، وقد بات هذا النمط واضحا بحلول مايو من عام 2024، ثم ازداد بعد ذلك وضوحا، إذ دأب الجيش الإسرائيلي على تدمير قطاع غزة تدميرا منهجيا.
يحذر أغلب دارسي الإبادة الجماعية من تطبيق المصطلح على أحداث معاصرة، وسبب ذلك تحديدا هو نزوع المصطلح منذ سكِّه في عام 1944 على يد المحامي اليهودي البولندي رفائيل لِيمْكِن إلى وصف أي مجزرة أو عمل مناف للإنسانية، والحق أن البعض يذهب إلى وجوب التخلي عن هذا التصنيف تماما لأنه كثيرا ما يستعمل للتعبير عن الغضب أكثر ما يستعمل لتوصيف جريمة معينة.
غير أنه مثلما اعترف لِيمْكِن ـ ووافقته الأمم المتحدة لاحقا ـ فإنه من الضروري أن نفرق بين محاولة تدمير جماعة معينة من الناس وأفعال أخرى يجرّمها القانون الدولي، من قبيل جرائم الحرب والجرائم المقترفة في حق الإنسانية. ففي حين تنطوي جرائم أخرى على القتل العشوائي أو العمدي لمدنيين بوصفهم أفرادا، فإن الإبادة الجماعية تتعلق بقتل الناس بسبب انتمائهم إلى جماعة، وبهدف تدمير الجماعة نفسها تدميرا يعجزها عن إعادة تكوين نفسها مرة أخرى بوصفها كيانا سياسيا أو اجتماعيا أو ثقافيا. ومثلما أشار المجتمع الدولي بتبنيه الاتفاقية، فإن على جميع الدول الموقعة أن تمنع مثل هذه المحاولة، وأن تفعل كل ما في وسعها لإيقافها حال حدوثها ولتعاقب لاحقا المتورطين في جريمة الجرائم هذه، حتى لو جرت داخل حدود دولة ذات سيادة.
وهذا التصنيف له تداعيات كبيرة سياسيا وقانونيا وأخلاقيا. فالدول والسياسيون والعسكريون المشتبه في ارتكابهم إبادة جماعية أو المتهمون أو المدانون بذلك يعتبرون خارجين عن نطاق الإنسانية، وقد يتعرض حقهم في البقاء ضمن المجتمع الدولي للخطر أو يفقدون هذا الحق. فانتهاء محكمة العدل الدولية إلى أن دولة معينة متورطة في إبادة جماعية، وبخاصة في حال تفعيل مجلس الأمن الأممي للقرار، قد يفضي إلى عقوبات قاسية.
والسياسيون أو العسكريون المتهمون من المحكمة الجنائية الدولية بارتكاب إبادة جماعية أو انتهاكات أخرى للقانون الإنساني الدولي، أو المدانون بذلك، قد يتعرضون للاعتقال خارج بلادهم. والمجتمع الذي يتغاضى عن الإبادة الجماعية ويتواطأ فيها، مهما تكن مواقف مواطنيه الفردية، سيظل موصوما بوصمة العار هذه لفترة طويلة بعد خمود نيران الكراهية والعنف.
***
أنكرت إسرائيل جميع مزاعم جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية. ويقول الجيش الإسرائيلي إنه يحقق في ما تردد عن الجرائم، برغم أنه نادرا ما يعلن نتائج تحقيقاته، وعند الاعتراف بانتهاك الانضباط أو البروتوكول، فإن الجيش بصفة عامة يوجه توبيخا رقيقا لأفراده. ودأب القادة العسكريون والسياسيون الإسرائيليون على أن يصفوا الجيش الإسرائيلي بأنه يتصرف بموجب القانون، فيقولون إنه يوجه تحذيرات للسكان المدنيين لإخلاء المواقع التي يوشك على مهاجمتها ويوجهون اللوم لحماس لاستعمالها المدنيين دروعا بشرية.
والواقع، أن التدمير الممنهج في غزة، لا للمساكن وحدها، وإنما للبنية الأساسية الأخرى أيضا ـ من المباني الحكومية والمستشفيات والجامعات والمدارس والمساجد ومواقع التراث الثقافي ومحطات معالجة المياه والمناطق الزراعية والحدائق ـ يعكس سياسة ترمي إلى جعل إحياء الحياة الفلسطينية في القطاع أمرا مستبعدا أشد الاستبعاد. فوفقا لتحقيق حديث أجرته صحيفة هآرتس، تعرض ما يقدر بمائة وأربعة وسبعين ألف مبنى، أي ما يمثل 70% من إجمالي المباني في القطاع، إما للتدمير أو التضرر. وحتى الآن، لقي أكثر من ثمانية وخمسين ألف شخص مصرعهم، وفقا لتقديرات السلطات الصحية في غزة، من بينهم أكثر من سبعة عشر ألف طفل أي ما يقرب من ثلث إجمالي عدد القتلى. وكان أكثر من ثمانمائة وسبعين طفلا من هؤلاء دون سن العام الواحد.
وأفادت السلطات الصحية أيضا بأن أكثر من ألفي عائلة قد انتهت. فضلا عن خمسة آلاف وستمائة عائلة لم يبق منها الآن سوى ناج واحد. ومن المعتقد أن ما لا يقل عن عشرة آلاف شخص ما زالوا مدفونين تحت أنقاض بيوتهم. كما تعرض أكثر من مائة وثمانية وثلاثين ألف شخص للإصابة أو التشوه.
تتميز غزة الآن بميزة كريهة هي أن بها أعلى نسبة أطفال مبتوري الأطراف في العالم. فثمة جيل كامل من الأطفال الذين يتعرضون للهجمات العسكرية المستمرة وفقدان الآباء وسوء التغذية طويل الأمد، سوف يعاني هذا الجيل من عواقب جسدية ونفسية وخيمة لبقية حياته. كما أن آلافا لا تحصى من الأشخاص المصابين بأمراض مزمنة لم يحصلوا إلا على قدر ضئيل من الرعاية الصحية في المستشفيات.
ولا يزال معظم المراقبين يصفون بشاعة ما يجري في غزة بأنه «حرب». وهذه مغالطة. فعلى مدار العام الماضي، لم يقاتل الجيش الإسرائيلي جهة عسكرية منظمة. ذلك أن نسخة حماس التي خططت ونفذت هجمات السابع من أكتوبر قد تدمرت، وإن بقيت الجماعة الضعيفة تقاتل القوات الإسرائيلية وتحتفظ بالسيطرة على السكان في المناطق غير الخاضعة لسيطرة الجيش الإسرائيلي.
واليوم، ينخرط الجيش الإسرائيلي بشكل رئيسي في عملية هدم وتطهير عرقي. وهذا ما قاله رئيس أركان نتنياهو السابق ووزير دفاعه المتشدد، موشيه يعالون، في نوفمبر على قناة «ديموكرات تي في» الإسرائيلية وفي مقالات ومقابلات لاحقة، في وصفه لمحاولة تطهير شمال غزة من سكانها.
في التاسع عشر من يناير، وبضغط من دونالد ترامب، الذي كان على بعد يوم واحد من استئناف رئاسته، دخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، فتم تبادل الرهائن في غزة بالسجناء الفلسطينيين في إسرائيل. لكن بعد خرق إسرائيل لوقف إطلاق النار في الثامن عشر من مارس، نفذ الجيش الإسرائيلي خطة حظيت بتغطية إعلامية واسعة لتجميع سكان غزة بالكامل في ربع مساحة القطاع في ثلاث مناطق هي مدينة غزة، ومخيمات اللاجئين المركزية، وساحل المواصي في الطرف الجنوبي الغربي للقطاع.
وباستخدام أعداد كبيرة من الجرافات والقنابل الجوية الضخمة التي وفرتها الولايات المتحدة، يبدو أن الجيش يحاول هدم كل مبنى متبق، وفرض سيطرته على ثلاثة أرباع القطاع الأخرى.
ويتيسر ذلك أيضا من خلال خطة توفر - بشكل متقطع - مساعدات محدودة في عدد قليل من نقاط التوزيع التي يحرسها الجيش الإسرائيلي، بما يجذب الناس إلى الجنوب. فيلقى العديد من سكان غزة مصرعهم وهم يحاولون محاولة يائسة الحصول على الطعام، وتتفاقم أزمة المجاعة. وفي السابع من يوليو، قال وزير الدفاع إسرائيل كاتس إن الجيش الإسرائيلي سوف يقيم «مدينة إنسانية» على أطلال رفح لتستوعب مبدئيا ستمائة ألف فلسطيني من منطقة المواصي، تمدهم هيئات دولية بالمؤن ولا يتاح لهم المغادرة.
***
قد يصف البعض هذه الحملة بالتطهير العرقي، لا بالإبادة الجماعية. لكن ثمة رابطا بين الجريمتين. فعندما لا تجد جماعة عرقية ملاذا آمنا، وتظل تنزح من منطقة آمنة مزعومة إلى أخرى، وتتعرض للقصف والتجويع بلا هوادة، يمكن أن يتحول التطهير العرقي إلى إبادة جماعية.
ولقد كان هذا هو الحال في العديد من الإبادات الجماعية المعروفة في القرن العشرين، من قبيل إبادة هيريرو وناما في جنوب غرب إفريقيا الألمانية، ناميبيا حاليا، والتي بدأت عام 1904، والأرمن في الحرب العالمية الأولى، بل وحتى في الهولوكوست، التي بدأت بمحاولة ألمانيا طرد اليهود وانتهت بقتلهم.
وحتى يومنا هذا، لم يصدر سوى قليل من الباحثين في الهولوكوست تحذيرات من إمكانية اتهام إسرائيل بارتكاب جرائم حرب، أو جرائم ضد الإنسانية، أو تطهير عرقي، أو إبادة جماعية، فضلا عن أنه لا توجد مؤسسات مخصصة لبحث ما يجري وإحياء ذكراه. ويمثل هذا الصمت سخرية من شعار «لن يتكررها ثانية»- وهو شعار يعد يعدم تكرار الهولوكوست -، ويحول معناه من تأكيد مقاومة اللاإنسانية أينما ارتكبت، إلى ذريعة أو تبرير بل حتى تفويض مطلق لتدمير الآخرين باستحضار ضحايا الماضي.
وهذه تكلفة أخرى من التكاليف الباهظة للكارثة الحالية. فبينما تسعى إسرائيل حرفيا إلى محو الوجود الفلسطيني في غزة، وتمارس عنفا متزايدا ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، فإن المصداقية الأخلاقية والتاريخية التي استندت إليها الدولة اليهودية حتى الآن آخذة في النفاد.
فطالما أصرت إسرائيل -التي تأسست في أعقاب الهولوكوست ردا على الإبادة الجماعية النازية لليهود- على أنه يجب النظر إلى أي تهديد لأمنها باعتباره مفضيا إلى أوشفيتز آخر. فيخول هذا لإسرائيل تصوير من تعتبرهم أعداءها بأنهم نازيون - وقد استعمل الإعلام الإسرائيلي هذا المصطلح مرارا في تصوير حماس، وبالتالي جميع سكان غزة، استنادا إلى الادعاء السائد بأنهم جميعا «متورطون»، بلا استثناء حتى للرضع الذين سيكبرون ليصبحوا مقاتلين.
وليست هذه بظاهرة جديدة. فمنذ غزو إسرائيل للبنان عام 1982، شبَّه رئيس الوزراء مناحيم بيجن ياسر عرفات الذي كان آنذاك متحصنا في بيروت، بأدولف هتلر المختبئ في برلين. وفي هذه المرة، يجري استعمال التشبيه في سياق سياسة ترمي إلى إبعاد سكان غزة بالكامل.
ومشاهد الرعب اليومية في غزة، التي لا يتعرض لها الشعب الإسرائيلي بفعل رقابة ذاتية من وسائل إعلامه، تكشف أكاذيب الدعاية الإسرائيلية القائلة بأن هذه حرب دفاعية ضد عدو شبه نازي. وإن المرء ليرتعد عندما يردد المتحدثون باسم إسرائيل، بلا خجل، شعار الجيش الإسرائيلي الأجوف بأنه «الجيش الأكثر أخلاقية في العالم».
ولقد احتجت بعض الدول الأوروبية، من قبيل فرنسا وبريطانيا وألمانيا، بالإضافة إلى كندا، احتجاجا واهنا على الأفعال الإسرائيلية، وبخاصة منذ خرق إسرائيل لوقف إطلاق النار في مارس. لكنها لم تعلق شحنات الأسلحة ولم تتخذ خطوات اقتصادية أو سياسية ملموسة وذات مغزى لتردع حكومة نتنياهو.
لقد بدا لفترة أن حكومة الولايات المتحدة فقدت اهتمامها بغزة، إذ أعلن الرئيس ترامب في البداية في فبراير أن الولايات المتحدة ستتولى إدارة غزة، ووعد بتحويلها إلى «ريفييرا الشرق الأوسط»، ثم ترك إسرائيل تكمل تدمير القطاع، محولا انتباهه إلى إيران. وفي الوقت الحالي، لا يملك المرء إلا الأمل في أن يعيد الرئيس ترامب الضغط على نتنياهو للتوصل على الأقل إلى وقف إطلاق نار جديد ووضع حد للقتل المستمر.
***
كيف سيتأثر مستقبل إسرائيل بالهدم الحتمي لأخلاقياتها الراسخة، المستمدة من ولادتها على أنقاض الهولوكوست؟
هذا ما سيتعين على القيادة السياسية والمواطنين في إسرائيل أن يقرروه. فالظاهر أنه لا يوجد ضغط محلي كبير للتغيير الواجب للنموذج أي الاعتراف بأنه لا حل لهذا الصراع سوى اتفاق إسرائيلي فلسطيني على تقاسم الأرض وفقا لأي معايير يتفق عليها الجانبان، سواء أكانت دولتين أو دولة واحدة أو كونفدرالية. كما يبدو أن ممارسة حلفاء إسرائيل ضغطا خارجيا قويا أمر غير مرجح. وإنني ليساورني قلق عميق من أن تستمر إسرائيل في مسارها الكارثي، معيدة تشكيل نفسها، بشكل قد لا تكون له رجعة، لتصبح دولة فصل عنصري استبدادية كاملة الأركان. فهذه الدول، كما علمنا التاريخ، لا تدوم.
وهنا ينشأ سؤال آخر: ما تبعات تراجع إسرائيل الأخلاقي عن ثقافة إحياء ذكرى الهولوكوست، وسياسات الذاكرة والتعليم والبحث، إذ يرفض العديد من قادتها المثقفين والإداريين حتى الآن تحمل مسؤوليتهم في إدانة اللاإنسانية والإبادة الجماعية أينما وقعت؟
سيواجه المنخرطون في ثقافة إحياء الذكرى العالمية، التي بنيت حول الهولوكوست نوعا من المساءلة الأخلاقية. والمجتمع الأوسع لباحثي الإبادة الجماعية، ممن يدرسون الإبادة الجماعية المقارنة أو أيا من الإبادات الجماعية العديدة الأخرى التي شوهت التاريخ البشري ـ يقترب الآن أكثر فأكثر من توافق حول وصف أحداث غزة بالإبادة الجماعية.
ففي نوفمبر، أي بعد مرور أكثر قليلا من عام على بدء الحرب، انضم باحث الإبادة الجماعية الإسرائيلي شموئيل ليدرمان إلى الرأي المتنامي بأن إسرائيل متورطة في أعمال إبادة جماعية. وتوصل المحامي الدولي الكندي ويليام شاباس إلى النتيجة نفسها في العام الماضي، ووصف أخيرا الحملة العسكرية الإسرائيلية على غزة بأنها إبادة جماعية «بالتأكيد».
وتوصل خبراء آخرون في الإبادة الجماعية، من أمثال ميلاني أوبراين، رئيسة الرابطة الدولية لعلماء الإبادة الجماعية، والمتخصص البريطاني مارتن شو (الذي صرح أيضا بأن هجوم حماس كان إبادة جماعية)، إلى النتيجة نفسها، بينما وصف الباحث الأسترالي آيه ديرك موسى من جامعة مدينة نيويورك هذه الأحداث في صحيفة (إن آر سي) الهولندية بأنها «مزيج من المنطقين الإبادي والعسكري». وفي المقال نفسه، قال أوجور أوميت أونجور، الأستاذ في معهد NIOD لدراسات الحرب والهولوكوست والإبادة الجماعية في أمستردام، إن من المحتمل وجود باحثين لا يزالون يعتقدون بأنها ليست إبادة جماعية، لكنني «لا أعرفهم».
معظم باحثي الهولوكوست الذين أعرفهم لا يتبنون هذا الرأي، أو على الأقل لا يعبرون عنه علنا. وباستثناءات قليلة ملحوظة، من قبيل الإسرائيلي راز سيجال، مدير برنامج دراسات الهولوكوست والإبادة الجماعية في جامعة ستوكتون في نيوجيرسي، ومؤرخي الجامعة العبرية في القدس عاموس جولدبرج ودانيال بلاتمان، التزم غالبية الأكاديميين المنخرطين في تاريخ الإبادة الجماعية النازية لليهود الصمت المطبق، بينما أنكر بعضهم علنا جرائم إسرائيل في غزة، أو اتهموا زملاءهم الأكثر انتقادا بالخطاب التحريضي والمبالغة الجامحة وتسميم الآبار ومعاداة السامية.
في ديسمبر، أعرب باحث شؤون الهولوكوست نورمان جيه دبليو جودا عن رأيه بأن «تهم الإبادة الجماعية كهذه استخدمت منذ فترة طويلة كغطاء لتحديات أوسع نطاقا لشرعية إسرائيل»، معربا عن قلقه من أن هذه الاتهامات قد «قللت من شأن كلمة الإبادة الجماعية نفسها».
و«تشهير الإبادة الجماعية» هذا، حسبما كتب جودا في مقال له، «يستخدم مجموعة من المجازات المعادية للسامية»، من قبيل «ربط تهمة الإبادة الجماعية بالقتل المتعمد للأطفال، الذين تنتشر صورهم على نطاق واسع من خلال المنظمات غير الحكومية ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من المنصات التي تتهم إسرائيل بالإبادة الجماعية».
ومعنى هذا هو أن عرض صور الأطفال الفلسطينيين الممزقين بفعل القنابل أمريكية الصنع التي أطلقها طيارون إسرائيليون، يعد من هذا المنظور عملا معاديا للسامية.
وفي الآونة الأخيرة، كتب جودا والمؤرخ الأوروبي المرموق جيفري هيرف في صحيفة واشنطن بوست أن «اتهام الإبادة الجماعية الموجه لإسرائيل يصدر من ينابيع عميقة من الخوف والكراهية» موجودة في «التفسيرات المتطرفة لكل من المسيحية والإسلام». فقد «نقل الازدراء من اليهود كجماعة دينية/عرقية، إلى دولة إسرائيل التي يصورها على أنها شريرة بطبيعتها».
***
ما تداعيات هذا الخلاف بين باحثي الإبادة الجماعية ومؤرخي الهولوكوست؟ ليس هذا مجرد خلاف أكاديمي. فثقافة الذاكرة التي تأسست في العقود الأخيرة حول الهولوكوست تشمل أكثر بكثير من إبادة اليهود. إذ أصبحت تلعب دورا حاسما في السياسة والتعليم والهوية.
إذ أصبحت المتاحف المخصصة للهولوكوست نماذج لتمثيل الإبادات الجماعية الأخرى في العالم. والإصرار على أن دروس الهولوكوست تتطلب تعزيز التسامح والتنوع ومناهضة العنصرية ودعم المهاجرين واللاجئين، ناهيكم بحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي، متجذر في فهم الآثار المطلقة لهذه الجريمة في قلب الحضارة الغربية في ذروة الحداثة.
وتشويه سمعة باحثي الإبادة الجماعية الذين يتكلمون عن إبادة إسرائيل الجماعية في غزة بوصفهم بمعاداة السامية يهدد بتقويض أسس دراسات الإبادة الجماعية: أي الحاجة المستمرة إلى تعريف الإبادة الجماعية ومنعها ومعاقبة مرتكبيها وإعادة بناء تاريخها.
والقول بأن هذا المسعى إنما يتم بدافع من مصالح ومشاعر خبيثة - أي أنه مدفوع بالكراهية والتعصب اللذين كانا أساسا للهولوكوست - ليس فضيحة أخلاقية فحسب، بل إنه يفسح المجال لسياسات الإنكار والإفلات من العقاب أيضا.
وبالمثل، عندما يصر من كرسوا حياتهم المهنية لتدريس الهولوكوست وإحياء ذكراها على تجاهل أعمال الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة أو إنكارها، فإنهم يهددون بتقويض كل ما دافعت عنه دراسات الهولوكوست وإحياء ذكراها على مدى العقود الماضية. أي كرامة كل إنسان، واحترام سيادة القانون، والحاجة الملحة إلى عدم السماح للوحشية بالسيطرة على قلوب الناس وتوجيه أفعال الدول باسم الأمن والمصلحة الوطنية والانتقام المطلق.
ما أخشاه هو أنه في أعقاب مجزرة غزة، لن يكون من الممكن مواصلة تدريس الهولوكوست والبحث فيها بمثل الطريقة التي اتبعناها سابقا. ولأن دولة إسرائيل والمدافعين عنها استعانوا باستحضار الهولوكوست بلا هوادة لتغطية جرائم الجيش الإسرائيلي، فإن دراسة الهولوكوست وتذكرها قد يفقدان صفة الاهتمام بالعدالة المطلقة، ويعودان إلى الجيتو العرقي الذي انطلقا منه مع نهاية الحرب العالمية الثانية، باعتبارهما هاجسا مهمشا يسيطر على بقايا شعب مهمش، وحدثا عرقيا محددا، قبل أن ينجحا، بعد عقود، في أن يجدا مكانهما الصحيح بوصفهما درسا وتحذيرا للبشرية جمعاء.
ومما يثير القلق بالقدر نفسه احتمال أن تعجز دراسة الإبادة الجماعية كلها عن الصمود أمام اتهامات معاداة السامية، مما يتركنا محرومين من مجتمع العلماء والقانونيين الدوليين الأساسي الذي يدافع عن حقوقنا في وقت نشهد فيه تصاعد التعصب والكراهية العنصرية والشعبوية والاستبداد بما يهدد القيم التي شكلت جوهر هذه المساعي العلمية والثقافية والسياسية في القرن العشرين.
لعل بصيص النور الوحيد في نهاية هذا النفق المظلم هو إمكانية أن يواجه جيل جديد من الإسرائيليين مستقبلهم دون اللجوء إلى شبح الهولوكوست، حتى وإن اضطروا إلى تحمل وصمة الإبادة الجماعية التي ارتكبت باسمهم في غزة. سوف يتعين على إسرائيل أن تتعلم كيف تعيش دون اللجوء إلى الهولوكوست مبررا للوحشية. وهذا، برغم كل المعاناة المروعة التي نشهدها حاليا، أمر له قيمته، وقد يساعد إسرائيل، في المدى البعيد، على مواجهة المستقبل بطريقة أكثر صحة وعقلانية وأقل خوفا وعنفا.
لن يعوض هذا الفلسطينيين عن الكم الهائل من القتلى والمعاناة التي لحقت بهم. لكن إسرائيل، إذا ما تحررت من وطأة الهولوكوست، قد تدرك أخيرا الحاجة الحتمية لسبعة ملايين يهودي من مواطنيها لتقاسم الأرض مع سبعة ملايين فلسطيني يعيشون في إسرائيل وغزة والضفة الغربية بسلام ومساواة وكرامة. وسوف يكون هذا هو الحساب العادل الوحيد.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: والإبادة الجماعیة الجیش الإسرائیلی الإبادة الجماعیة إبادة جماعیة الجماعیة فی فی إسرائیل إسرائیل فی العدید من جماعیة فی قطاع غزة سکان غزة من خلال أکثر من من قبیل على أن أنه لا فی غزة
إقرأ أيضاً:
بين تراجع الجيش واستمرار المجاعة.. هكذا تبحث إسرائيل عن مخرج من حرب غزة
نقلت قناة "كان" العبرية، عن عدد من الوزراء في حكومة الاحتلال الإسرائيلي، قولهم إنّ: "فرص استئناف القتال بعد الاتفاق القادم ضئيلة للغاية"، فيما أردفوا أنّ: "نتنياهو ورئيس الأركان زامير مهتمان بإنهاء الحرب بعد الاتفاق".
وتابع المصدر نفسه، مساء الأربعاء الماضي، بأنّ: فريق التفاوض الإسرائيلي الذي يتواجد في قطر منذ أكثر من أسبوعين، قد حصل على تفويض من أجل بحث إنهاء الحرب مع الوسطاء، لكن لا توجد اتفاقات بهذا الشأن حتى الآن.
وبحسب وزراء قد تحدث معهم رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في الآونة الأخيرة، فإنّ: الأخير يريد إنهاء الحرب خلال وقف إطلاق النار على كامل قطاع غزة المحاصر.
ومع ذلك، أكد رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي، لكل من الوزيرين سموتريتش وبن غفير، أن دولة الاحتلال الإسرائيلي ستعود للقتال بعد وقف إطلاق النار إذا لم تتحقق أهداف الحرب.
وبحسب عدد من التقارير، التي نُشرت في الصحافة العبرية، في الآونة الأخيرة، فإنّ: "إسرائيل مقتنعة بأن أهداف الحرب، المتمثلة في انهيار قدرات حماس العسكرية والحكومية، يمكن تحقيقها من خلال الاتفاق الذي يتم التفاوض عليه حاليا".
إلى ذلك، تشير مصادر أمنية إسرائيلية- وفقا لـ"قناة كان" إلى أنّ: "تآكل قوة الجيش الإسرائيلي في غزة هو أحد الأسباب وراء رغبة نتنياهو وزامير في إنهاء الحرب الجارية على غزة".
وبحسب هذه المصادر نفسها: "أطلع رئيس الأركان رئيس الوزراء على وضع القوات على الأرض، وهو أمر لا يمكن تجاهله، حيث أنّ نتنياهو يدرك أن هناك رغبة لدى الجمهور أيضا في السعي من أجل إنهاء الحرب".
تجدر الإشارة إلى أنّه بعيدا عن إشراف الأمم المتحدة والمنظمات الإغاثية الدولية، قد بدأت دولة الاحتلال في أيار/ مايو الماضي تنفيذ خطة توزيع مساعدات عبر ما يُعرف بمؤسسة غزة للإغاثة الإنسانية، وهي جهة مدعومة إسرائيليا وأمريكيا، لكنها مرفوضة من قبل الأمم المتحدة.
ومنذ 2 آذار/ مارس الماضي، تغلق دولة الاحتلال الإسرائيلي معابر قطاع غزة أمام شاحنات مساعدات إغاثية وإنسانية وغذائية وطبية مكدّسة على الحدود.
وفي وقت سابق الجمعة، أعلنت وزارة الصحة بغزة استشهاد تسعة فلسطينيين بينهم طفلان خلال 24 ساعة جراء سياسة التجويع الإسرائيلية، ما يرفع عدد الوفيات الناجمة عن التجويع وسوء التغذية إلى 122 منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 بينهم 83 طفلا، وفق تصريح أدلى به المدير العام للوزارة، منير البرش.
وتواصل دولة الاحتلال الإسرائيلي، بدعم أمريكي مطلق، منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، حرب إبادة جماعية في غزة أدّت إلى استشهاد أكثر من 203 آلاف فلسطيني بين شهيد وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 9 آلاف مفقود، إضافة إلى مئات آلاف النازحين، ومجاعة أزهقت أرواح كثيرين.