الجديد برس| تجد الولايات المتحدة الامريكية نفسها مضطرة لمواجهة استحقاقات لم تكن في حسبان جنرالات البنتاغون ولا خبراء الاستراتيجيا في واشنطن. فلم يكن في تصور دوائر القرار العسكري الأمريكي أن تتحول ساحة البحر الأحمر، ذات الأهمية الجيواقتصادية والعسكرية القصوى، إلى ميدان يُعيد رسم ملامح القوة البحرية العالمية، ويكشف هشاشة الترسانة الأمريكية أمام صواريخ نوعية، تنطلق من جبال اليمن وتضرب بدقة، في وقت كانت فيه واشنطن تعتبر السيطرة على البحار من المسلمات الاستراتيجية.
لكن المشهد انقلب. فمنذ أن دخلت القوات المسلحة اليمنية على خط المواجهة دفاعًا واسنادا للمقاومة وللشعب الفلسطيني تحولت المياه الإقليمية إلى حقل اختبار مرير لقدرات أمريكا، واستنزافٍ صامت لخزائنها العسكرية، لم تفلح حملات التضليل الإعلامي في التغطية عليه. اليوم، وبعد سلسلة من الهزائم العملياتية والانكشافات التكتيكية، تعترف واشنطن – بلسان مشرعيها – أن معركة البحر
الأحمر لم تكن عابرة، بل زلزالاً عسكريًا أجبر الإدارة الأمريكية على إعادة النظر في بنية عقيدتها الدفاعية وأولويات تمويلها الحربي. حيث نشرت صحيفة الواشنطن بوست مقالًا مشتركًا بين عضوي مجلس الشيوخ الأمريكي، ميتش ماكونيل وكريس كونز، حملا فيه رسالة إنذار مبطنة حول حالة التآكل المتسارع في الجاهزية العسكرية الأمريكية، نتيجة استنزاف الذخائر وفشل التمويل الدفاعي في مواكبة التحديات المفروضة على البنتاغون، وعلى رأسها ما أسموه “العمليات السريعة” في الشرق الأوسط، في إشارة مباشرة إلى المواجهة البحرية
التي خاضتها واشنطن في البحر الأحمر ضد اليمن. في الواقع، لا يمكن قراءة هذا المقال بعيدًا عن التحول الذي فرضته معركة البحر الأحمر على العقيدة القتالية الأمريكية، والتبدلات الاستراتيجية العميقة التي هزّت البنتاغون منذ بدأت البحرية الأمريكية تدخل في مواجهة مباشرة مع قوة عسكرية نوعية غير تقليدية مثل القوات البحرية اليمنية. فعلى الرغم من ترسانة الأساطيل، وتكدّس القواعد، والتفوق العددي والتقني، أثبتت المواجهة أن سلاح البحرية الأمريكي يمكن استنزافه، ويمكن إحراجه، بل ويمكن دفعه إلى الانسحاب تحت ضغط صواريخ محلية الصنع وطائرات مسيّرة أبدعت صنعاء في تطويرها وتشغيلها بمستوى تكتيكي لم تألفه واشنطن من قبل. إشارة كاتبي المقال إلى أن العمليات الأخيرة في الشرق الأوسط “استنفدت مخزونات الذخائر الحيوية بسرعة كبيرة” ليست مجرد اعتراف عابر، بل تمثل نقطة تحوّل خطيرة في التفكير العسكري الأمريكي. فقد وجدت واشنطن نفسها للمرة الأولى تخوض حربًا بحرية مستمرة، ذات وتيرة تصعيدية عالية، ضد خصم غير نووي، غير تقليدي، لكنه يمتلك مفاتيح المبادرة، ويجيد المناورة، ويضرب بدقة، ويعرف كيف يستدرج الأساطيل نحو المناطق الرمادية. وهذه ليست فقط معركة مدافع وبوارج، بل هي معركة أعصاب، وعمليات إمداد، وقرارات استراتيجية تُصاغ على وقع صواريخ كروز تنطلق من جبال اليمن وتصيب أهدافًا في عمق البحر. الأرقام المتداولة داخل الكونغرس، كما تُظهرها الوثائق الأخيرة، تكشف بوضوح عن التكاليف الباهظة التي دفعتها الولايات المتحدة في هذه المعركة، سواء في الذخائر، أو في استهلاك منظومات الاعتراض، أو في استنفار قطع الأسطول الخامس والسادس، أو حتى في تكلفة إعادة الانتشار المستعجل لحاملات الطائرات والأنظمة الدفاعية. كل ذلك حدث أمام أعين البنتاغون الذي لم يكن يتوقع أن تتحول مواجهة محدودة في البحر الأحمر إلى ثقبٍ أسود يبتلع جاهزية سلاح البحرية. لقد فرضت معركة البحر الأحمر على واشنطن إعادة تعريف مفهوم “الردع”، بعد أن تبيّن أن الحروب الحديثة تستنزف المخزون العسكري بشكل أسرع بكثير مما يمكن تعويضه. وهذا ما دفع الكونغرس إلى تخصيص 7.3 مليار دولار إضافية فقط لتوسيع إنتاج الذخائر. وهي خطوةٌ تعبّر عن قلقٍ حقيقي داخل المؤسسات الأمريكية من أن تتعرض واشنطن إلى صدمة مفاجئة في حال نشوب صراع متعدد الجبهات، في ظل الاستنزاف الجاري في أوكرانيا، والانكشاف الأمني في الشرق الأوسط، والفجوة البحرية المتنامية مع الصين. وبحسب ما أشار إليه المقال، فإن الفجوة في القدرات البحرية الأمريكية تتسع يومًا بعد يوم أمام الوتيرة التصاعدية في بناء الأسطول الصيني. وهو ما يدفع نحو إنفاق إضافي يقترب من 9 مليار دولار فقط لتحديث قدرات أحواض بناء السفن، وتعويض العجز في الغواصات والمدمرات، في ظل خشية من ألا تستطيع أمريكا الحفاظ حتى على أسطولها الحالي، ناهيك عن بناء “بحرية المستقبل”. تبدلات العقيدة العسكرية الأمريكية لم تعد محصورة في ميدان التسليح، بل امتدت لتشمل ملف “التحالفات”. فقد باتت واشنطن تُدرك أن خوض حرب كبرى ضد خصوم مثل الصين أو روسيا أو حتى إيران، دون “تحالف واسع ومموّل”، يعني السير إلى الهزيمة. ولهذا، تحوّل الاستثمار في الحلفاء إلى جزءٍ أساسي من استراتيجيتها الدفاعية، وهو ما دفعها إلى إعادة تمويل برامج الدعم العسكري لأوكرانيا، وزيادة المساعدات الأمنية لشركائها في الشرق الأوسط، في محاولة لاستعادة الهيبة المفقودة وردم الثغرات التي كشفتها عمليات صنعاء. لكنّ اللافت في خطاب ماكونيل وكونز، هو تركيزهم الصريح على ضرورة “توسيع الطاقة الإنتاجية للذخائر من أبسط قذائف المدفعية إلى أكثر أنظمة الدفاع تطورًا”، في إقرارٍ غير مباشر بأن أنظمة الاعتراض الحديثة التي تباهت بها واشنطن – من باتريوت إلى ثاد – قد تعرضت للاستنزاف أو الفشل أمام ضربات ذكية منخفضة التكلفة. ويكفي أن نشير إلى أن البحرية الأمريكية، وخلال أسابيع فقط، وجدت نفسها تطلق صواريخ بملايين الدولارات لاعتراض طائرات مسيّرة لا تتجاوز تكلفتها بضع آلاف، في معادلة نزيف اقتصادي لا يمكن تحملها. الأخطر من ذلك أن معركة البحر الأحمر أفرزت “أزمة زمنية” للبنتاغون، فبينما كانت واشنطن تُراهن على حرب خاطفة لإخضاع صنعاء وردعها، وجدت نفسها أمام حرب استنزاف طويلة الأمد، تُجبرها على تغيير استراتيجيتها من الهجوم إلى الدفاع، ومن الحسم إلى الاحتواء، ومن المبادرة إلى الترقّب. وهذا ما يمكن قراءته بوضوح في سياسات التراجع التدريجي للقوات الأمريكية من الخطوط الأمامية، وتعويلها على الرد غير المباشر، أو حتى على التفاوض مع أطراف ثالثة، لتجنّب استمرار النزيف. إن معركة البحر الأحمر لم تكن مجرد مواجهة محدودة على خطوط الملاحة، بل كانت مواجهة فلسفية بين نموذجين: الأول، يقوم على القوة العمياء والإنفاق الهائل والردع بالنار؛ والثاني، يُجسّد الذكاء العملياتي، والفاعلية التكتيكية، والتصعيد المتدرج المدروس. وقد انتصر النموذج الثاني، وفرض منطقه على وزارة الدفاع الأمريكية التي اضطرت إلى مراجعة كاملة لأولوياتها الدفاعية والمالية، بل وتقديم مشروع قانون دفاعي هو الأضخم في تاريخ البلاد. لقد فاجأت اليمنُ العالم، وأربكت أمريكا، وأجبرت الإمبراطورية على التفكير مرة أخرى: هل لا تزال تملك القدرة على خوض حروبٍ خارجية بلا نهاية؟ أم أن زمن الهيمنة العسكرية قد بدأ بالأفول من البحر الأحمر؟ البحر الأحمر يعيد ترتيب أولويات البنتاغون.. خسائر بالمليارات وتغيير في العقيدة القتالية بين حملات التصعيد العسكري في أوكرانيا، وتعاظم الضربات اليمنية في البحر الأحمر، تجد واشنطن نفسها اليوم في سباق مع الزمن لإعادة ترميم ترسانة باتت تُستنزف على أكثر من جبهة. فعلى الرغم من فائض القوة الذي طالما تباهت به الإدارات الأمريكية، إلا أن واقع الميدان بات يفرض إيقاعًا جديدًا على المؤسسة العسكرية، عنوانه القلق من النضوب، والتأهب لعجز استراتيجي بات يلوح في الأفق. في قلب هذه التحولات، تكشف الصحافة الأمريكية حجم الورطة التي خلفتها الحملة الفاشلة ضد اليمن، حين دفعت إدارة ترامب بسلاح الجو إلى مواجهة مباشرة مع قوات صنعاء، فكانت النتيجة كارثية: طائرات تغرق، ومسيّرات تُسقط تباعًا، وذخائر متطورة تُستهلك بوتيرة لم تشهدها الحروب الأمريكية الحديثة. وفيما تحاول المؤسسة السياسية في واشنطن حجب آثار هذا الاستنزاف المتسارع، تخرج تقارير إعلامية لتكشف، بالأرقام والوقائع، ما بات يشكل قلقًا وجوديًا لدى البنتاغون: تفكك في خطوط الإمداد، وارتفاع صاروخي في تكلفة العمليات، وإقرار رسمي بأن المعارك “غير المتكافئة” باتت قادرة على إنهاك أكبر قوة عسكرية في العالم، انطلاقًا من بقعة اسمها اليمن. في هذا السياق نشرت صحيفة USA Today الأمريكية تقريرًا كشفت فيه عن تحركات عاجلة في مجلس الشيوخ الأمريكي لتجديد مخزونات الذخيرة المستنزفة بفعل حرب أوكرانيا من جهة، والحملة العسكرية التي شنّتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ضد اليمن من جهة أخرى، تحت مسمى “عملية الفارس الخشن”. التقرير أشار إلى أن لجنة المخصصات في مجلس الشيوخ صوّتت في 31 يوليو/تموز بأغلبية 26 صوتًا مقابل 3، لتمرير مشروع قانون يزيد الإنفاق الدفاعي المخصّص لإنتاج وشراء الذخائر بمقدار 7.3 مليار دولار إضافية فوق طلب البنتاغون الأصلي البالغ 9 مليارات. السيناتور الجمهوري ميتش ماكونيل قال إن العمليات الأخيرة في الشرق الأوسط، في إشارة إلى البحر الأحمر، كشفت عن سرعة استنزاف الذخائر الأمريكية، متهمًا الإدارة السابقة بعدم استغلال الطاقة الإنتاجية بشكل كافٍ، فيما أضاف السيناتور الديمقراطي كريس كونز أن تجربة القصف على اليمن، وخصوصًا ضد حركة أنصار الله، أظهرت الحاجة إلى تجديد الإمدادات بسرعة، مشيرًا إلى التحدي القائم في تلبية متطلبات أوكرانيا في الوقت ذاته. الصحيفة كشفت أن الحملة الجوية التي قادها ترامب ضد اليمن كلّفت الولايات المتحدة ما لا يقل عن نصف مليار دولار في الذخائر وحدها خلال أقل من شهرين، بينما قُدّرت الخسائر الكلية، بما في ذلك العمليات الجوية وخسائر الطائرات، بأكثر من مليار دولار. وبحسب مساعد في مجلس الشيوخ رفض الكشف عن اسمه، فقد استخدم الجيش الأمريكي خلال تلك العملية أسلحة من أكثر ما في ترسانته تطورًا، دون أن يتم إبلاغ الكونغرس رسميًا بتكلفة العملية. وأشار التقرير إلى أن طائرتين مقاتلتين من طراز F/A-18E سقطتا من على متن حاملة طائرات في البحر الأحمر وغرقتا، فيما أسقطت قوات صنعاء تسع طائرات مسيّرة هجومية من نوع MQ-9 Reaper، تُقدّر قيمتها مجتمعة بـ270 مليون دولار كما نقل التقرير أن ترامب أوقف العملية العسكرية بشكل مفاجئ في السادس من مايو، زاعمًا أن الحوثيين “أبلغوا أنهم سيتوقفون عن ضرب السفن”، إلا أن الوقائع الميدانية كذّبت هذا الادعاء وفي خطوة تشير إلى استمرار الاستنزاف العسكري الأمريكي، أعادت لجنة الشيوخ توجيه جزء كبير من التمويل الإضافي إلى قطاع الدفاع الجوي، حيث خصصت 5.2 مليار دولار لشراء ذخائر جديدة، و2.1 مليار أخرى لتعزيز خطوط إنتاج أنظمة الدفاع الجوي المتقدمة، مثل صواريخ “باتريوت” و”ثاد”. وتأتي هذه الزيادة في ظل تصاعد الاعتماد على تلك المنظومات في الحرب الأوكرانية، حيث أعلن ترامب مؤخرًا عن إرسال بطاريات باتريوت لأوكرانيا، في حين تكفّلت ألمانيا والنرويج بتمويل ثلاث منظومات إضافية. من جهتها، استخدمت “إسرائيل” منظومات ثاد أمريكية الصنع لصدّ صواريخ إيرانية خلال حرب جوية استمرت 12 يومًا في يونيو الماضي، وهو ما اعتبرته الصحيفة دليلاً إضافيًا على الطلب المتزايد على هذه الأنظمة، وسط موجة من الحروب المتعددة التي تورطت فيها واشنطن. التقرير يعكس بوضوح حجم الورطة التي أوقعت فيها الإدارة الأمريكية نفسها، سواء من خلال تدخلاتها العسكرية المباشرة أو عبر التزاماتها مع الحلفاء، حيث تكشف الأرقام عن نزيف مالي وتسليحي متسارع، بلغ حدّ تآكل المخزون الاستراتيجي للجيش الأمريكي. ويأتي هذا في وقت تعجز فيه واشنطن عن حسم أي من المعارك التي افتعلتها، بينما تلقت قواتها ضربات موجعة من قوى صاعدة، كما حدث في البحر الأحمر، حيث تمكّن اليمنيون من إذلال سلاح الجو الأمريكي، وإسقاط طائراته المتطورة تباعًا، فيما تستمر ضرباتهم في استهداف السفن المرتبطة بالاحتلال الإسرائيلي. إن الصورة التي يرسمها تقرير USA Today تُظهر جيشًا منهكًا، وقرارًا سياسيًا مرتجفًا، وعالمًا يتغير بسرعة لا تستطيع الولايات المتحدة مجاراتها، رغم كل ما تنفقه من مليارات الدولارات على منظومات ثبت فشلها ميدانيًا في صدّ صواريخ صنعاء، أو منع غرق السفن في مياه البحر الأحمر. المصدر: عرب جورنال.
المصدر: الجديد برس
كلمات دلالية:
البحر الأحمر
القوات الأمريكية
غزة
معرکة البحر الأحمر
البحریة الأمریکی
الولایات المتحدة
فی البحر الأحمر
فی الشرق الأوسط
ملیار دولار
ضد الیمن
إلى أن
إقرأ أيضاً:
مصادر: الخزانة الأمريكية هددت وحذرت ''هوامير الصرف'' في اليمن من المضاربة بسعر العملة
أفادت مصادر مطلعة أن مسؤولين من وزارة الخزانة الأمريكية عقدوا لقاءات منفردة مع قيادات في عدد من البنوك اليمنية، حذروا خلالها من فرض عقوبات مشددة في حال ثبت تورط أي جهة في عمليات المضاربة بسعر صرف العملة.
ووفقًا للصحفي غمدان اليوسفي، فإن الرسالة الأمريكية كانت واضحة وحادة، واستهدفت ما وصفهم بـ"هوامير سوق الصرافة"، مشيرًا إلى أن أسعار الصرف التي كانت، لا تعكس القيمة الحقيقية للعملة، بل هي نتيجة تلاعب ممنهج تقوده أطراف نافذة، بعضها من داخل الشرعية نفسها.
وتأتي هذه التطورات في ظل تصاعد الغضب الشعبي من تفاقم الأزمة الاقتصادية وما صاحبها من انهيار العملة، وسط مطالبات بمحاسبة المتورطين وإنهاء العبث في السوق المالية.
ومنذ يوم الثلاثاء الماضي بدأت العملة اليمنية بالتعافي في مناطق الشرعية حيث تراجع الدولار من 2885 الى نحو 1600 في غضون أربعة أيام فقط.