المفتي: الشريعة بطبيعتها متزنة لا تقبل استبدال الظن الخاطئ باليقين
تاريخ النشر: 5th, August 2025 GMT
أكد د. نظير محمد عياد -مفتي الجمهورية رئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم-، أن تدشين المشروع العلمي المشترك بين مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف ووكالة الفضاء المصرية يمثل خطوة رائدة نحو تأسيس فقه كوني معاصر، يستجيب لتحديات العصر، ويراعي واقعا علميا تتسارع فيه الاكتشافات، وتستجد فيه أسئلة شرعية غير مسبوقة.
جاء ذلك خلال كلمته في تدشين "المشروع العلمي المشترك بين مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف ووكالة الفضاء المصرية"، لدراسة "النوازل الفقهية المستجدة المتعلقة بأحكام الفضاء"، حيث أشار إلى أن الاهتمام بالفضاء من منظور شرعي يعكس رؤية واعية لمقاصد الشريعة، التي لم تأتِ لتكون حبيسة الأرض، بل قادرة على مواكبة التطور الإنساني أينما حل وارتحل، حتى في مدارات الكواكب وأسطح الأقمار.
الظواهر الكونية والفلكيةوأكد المفتي أن الدين الإسلامي لم يترك شاردة ولا واردة في حياة الإنسان إلا وقد تناولها توجيها أو حكما، بما في ذلك الظواهر الكونية والفلكية التي ترتبط بها كثير من العبادات والمعاملات، مشيرا إلى أن الشريعة الغراء تراعي التكامل بين الجانبين المادي والروحي في حياة المسلم، وتحث على الاستفادة من كافة العلوم في تحقيق مقاصدها.
وأضاف أن العلوم الشرعية كثيرا ما تحتاج إلى معاضدة العلوم التجريبية، مستشهدا بعلم الفلك في ضبط مواقيت الصلاة، ورؤية الهلال، وتحديد القبلة، وكذلك بعلم الرياضيات في المواريث، مؤكدا أن الخطأ في هذه الحسابات لا يترتب عليه فقط خلل دنيوي، بل قد يعرض المسلم للمساءلة أمام الله سبحانه وتعالى، وهو ما يبرز الحاجة إلى التكامل بين الدين والعلم، وتوقف فضيلة المفتي عند المنجز الحضاري للمسلمين في علم الفلك، مشيرا إلى أن العلماء المسلمين لم يتعاملوا مع الظواهر الكونية كفضول علمي، بل كمدخل ضروري لضبط العبادات وتيسير أداء التكليفات، فأنشأوا الأرصاد، وصمموا الأدوات، وألفوا المصنفات التي تجمع بين الفقه والحساب والكون.
أهمية الفلك في معرفة أوقات الصلاةوساق مفتي الجمهورية مثالا بالفلكي المصري الشهير ابن يونس الصدفي، الذي تحدث في مؤلفه عن العلاقة الوثيقة بين مواقع الكواكب والأحكام الشرعية، مشيرا إلى أهمية الفلك في معرفة أوقات الصلاة، والإمساك، وطلوع الفجر، وغروب الشمس، وظهور الشفق، وتحديد القبلة، ودخول الأشهر القمرية، بل حتى أوان الزرع وجني الثمار، موضحا أن هذا التأسيس العلمي ساهم في تميز الحضارة الإسلامية عن غيرها من الحضارات، حيث اعتبر الفلك علمًا حضاريا مرتبطا بالعبادة والسلوك اليومي للمسلم، لا علما نظريا مجردا.
وتطرق مفتي الجمهورية للحديث عن التحديات الفقهية التي تطرحها الحياة في الفضاء الخارجي، مشيرا إلى أن رواد الفضاء الذين يعيشون على سطح القمر أو في المحطات المدارية، يواجهون ظروفا زمنية ومكانية تختلف جذريا عن سكان الأرض، من حيث طول الليل والنهار، أو دوران الأجرام، أو ظروف الطهارة والوضوء، بل وحتى الاتجاهات والقبلة، وهي كلها عناصر تؤثر بشكل مباشر في أداء العبادات، وأكد أن تطبيق الأحكام نفسها على رواد الفضاء كما تُطبق على أهل الأرض، دون مراعاة الواقع الفلكي المختلف، يعد إخلالا بمبدأ رفع الحرج، وهو ما يخالف صريح قوله تعالى: "وما جعل عليكم في الدين من حرج" [الحج: 78].
إمداد علماء الفضاء بالمراجع الفقهية المعتمدةوفي هذا السياق، دعا إلى ضرورة إمداد علماء الفضاء بالمراجع الفقهية المعتمدة، ونتاجات المجامع الفقهية، وفتاوى المؤسسات الإفتائية الرسمية، لمساعدتهم في أداء واجباتهم وفقا لمقاصد الشريعة، ووفقا لمبدأ التيسير المبني على العلم، لا التساهل المبني على الجهل، وتناول في كلمته التحذير من توجهات الإفراط والتفريط في التعامل مع قضايا الفضاء، معتبرا أن بعض الاجتهادات قد تفرط في تحميل النصوص الشرعية ما لا تحتمل، في محاولة لإثبات توافق النص مع نظريات علمية متغيرة، وهو مسلك – كما قال – قد يؤدي إلى اهتزاز ثقة الشباب في الدين، ويفتح الباب أمام دعاوى الإلحاد واللادينية.
وفي الوقت نفسه، حذر من تفريط يُقصي الدين عن ميادين البحث الكوني، مؤكدا أن الشريعة بطبيعتها متزنة، لا تقبل استبدال الظن الخاطئ باليقين، ولا تقف عند ظاهر حرفي يجهل مقاصدها العليا، وأكد فضيلته أن الفتوى في قضايا الفضاء لا يمكن أن تصدر بمنأى عن التخصصات الدقيقة، مشددًا على أن المفتي لا بد أن يكون محصنًا بأصول الشريعة، ومدركا للمستجدات، وواعيا بالحقائق العلمية، محيطا بخلفيات المسائل التي يُفتى فيها.
أفضل دعاء يريح القلب والنفس ويزيل الهم.. ردده الآن يشرح صدرك
دعاء الصباح للرزق .. ردده يقضي حوائجك ويرزقك من حيث لا تحتسب
وفي ختام كلمته، أعلن مفتي الجمهورية أن دار الإفتاء المصرية ترحب بكامل طاقتها بالتعاون العلمي مع وكالة الفضاء المصرية ومجمع البحوث الإسلامية، بهدف إعداد دليل فقهي شامل للنوازل الفضائية، يشكل مرجعا موثوقا ودقيقا للمفتين والباحثين ووكالات الفضاء، ويضع لبنة أولى في فقه حضاري راشد، يجمع بين أصالة النص واجتهاد الواقع، كما دعا فضيلته إلى إدراج فقه الفضاء ضمن مناهج كليات الشريعة ومقررات مراكز البحث والتدريب، من أجل تأهيل جيل جديد من العلماء يمتلك أدوات الفقه وعلوم الواقع معا، ويكون قادرا على التعامل مع مستحدثات الكون بعلم وعدل ووعي.
يذكر أن تدشين المشروع العلمي المشترك بين مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف، ووكالة الفضاء المصرية، شهد حضور الدكتور محمد عبد الرحمن الضويني -وكيل الأزهر الشريف، رئيس مركز الأزهر العالمي للفلك الشرعي وعلوم الفضاء-، و الدكتور أسامة الأزهري -وزير الأوقاف-، والدكتور سلامة داوود، رئيس جامعة الأزهر، و الدكتور شريف صدقي -الرئيس التنفيذي لوكالة الفضاء المصرية-، و الدكتور محمد الجندي -الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية ونائب رئيس مركز الأزهر العالمي للفلك.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: نظير محمد عياد مفتي الجمهورية دار الإفتاء البحوث الإسلامیة الظواهر الکونیة الفضاء المصریة مفتی الجمهوریة الأزهر الشریف مشیرا إلى إلى أن
إقرأ أيضاً:
الاختلافات الفقهية وأدب الحوار
في لحظات الطواف بين الزحام والأنفاس الراجفة ، رأيت شيخًا مسنًا، عليه وقار العلماء، وسِمت أهل الهيبة والسكينة، يمضي في طوافه بثبات، وقد غطّى كتفه الأيمن بردائه، على خلاف ما اعتاده الناس من الاضطباع.
دفعني حبّ السنة، فدنوت منه بأدب واحترام ، وقلت برفق:
“يا عم، من السنة في الطواف كشف الكتف الأيمن.”
فابتسم، والتفت إليّ بعينٍ هادئة وصوتٍ مطمئن، وقال: “يا بني، ليست هذه سنةٌ متفقًا عليها عند جماهير العلماء، فالإمام مالك – رحمه الله – لم يقل بها، بل يرى أن ستر الكتفين أولى، وهذا ما عليه علماؤنا في المغرب العربي.”
عندها، أدركت أنني لم أقف أمام رجلٍ عادي، بل أمام رُوحٍ فقيهةٍ، ومدرسةٍ صامتة تنطق بالحكمة.
فقلت له بأدب التلميذ: “أفِض علينا مما أفاض الله عليك.”
فحدثني عن الاختلاف الذي هو سعة، لا نزاع، وعن العلماء الذين كانوا يختلفون في المسائل، ثم يُصلّون خلف بعضهم البعض، ولا يزيدهم ذلك إلا توقيرًا ومودة.
قال لي: “الناس يظنون أن الصواب حكر على مذهبهم، ولو علموا أن الأئمة ما اختلفوا إلا لثبوت الأثر عند أحدهم، أو لطريقة في الفهم، ما جُرح بعضهم بعضًا، ولا تطاول أحد على أحد.”
ورضي الله عن الإمام الشافعي الذي قال : والله ما أبالي أن يظهر الحق على لساني أو على لسان خصمي
أتممت طوافي، وأنا أحمل في قلبي نورًا آخر لم أكن أبحث عنه:
نور فقه الخلاف حين يُجمّله الأدب،
ونور الحوار حين يُزينه التواضع،
ونور السنة حين تُفهم في ضوء مقاصدها، لا على ضيق ظاهرها.
فمن بين صفوف الطائفين، عرفت أن الحرم لا يعلّمنا فقط كيف نُكبر ونُلبي… بل كيف نُصغي ونتواضع، وكيف نختلف ونتراحم.