عبدالوهاب البلوشي

 

منذ سبعينيات القرن الماضي، ارتكز الاقتصاد العُماني على عائدات النفط الوفيرة. وعلى الرغم من ترديد شعار «تنويع مصادر الدخل» لعقود، يبقى السؤال المُلح: لماذا ظلَّ هذا الشعار حبيس الأوراق، من رؤية عُمان 2020 مرورًا بالخطط الخمسية المُتعاقبة، دون أن يتحول إلى واقع ملموس؟

الإجابة، للأسف، تكمن في غياب الإرادة السياسية الحقيقية والالتزام العملي اللذين كانا كفيلين بتحويل تلك الطموحات إلى إنجازات.

القطاع الخاص: تابع لا شريك

لم يُمنح القطاع الخاص في عُمان فرصة لينمو كقوة اقتصادية فاعلة ومستقلة. بل جرى ترويضه ليظل رهينًا لعباءة الدولة، مُعتمدًا في بقائه واستمراره على المشاريع الحكومية والعقود الممنوحة.

هذا الوضع لم يكن وليد الصدفة، بل نتيجة حسابات ومصالح متشابكة:

السيطرة السياسية على الاقتصاد: إبقاء دواليب الاقتصاد تحت سيطرة الدولة المباشرة. اقتصاد الوكالات والعمولات: استفادة نافذين من نظام الكفالات الذي يضمن فوز شركات أجنبية محددة بمناقصات حكومية ضخمة، غالبًا ما تتضاعف تكاليفها الأصلية أضعافًا، على حساب المال العام والكفاءة. تفضيل المظاهر على الجوهر: ضخ مليارات الريالات في مشاريع بنية تحتية وصروح ضخمة، تفتقر غالبًا لأثر مستدام على الاقتصاد الإنتاجي المحلي، مقابل إهمال الاستثمار في قاعدة إنتاجية تنافسية.

التحول المجتمعي: من الفلاحة إلى الوظيفة

مع انطلاق مسيرة النهضة، بعثت الحكومة رسالة واضحة للمجتمع عبر سياسات التوظيف المباشر: «اتركوا أراضيكم وحرفكم، وتوجهوا إلى وظائف الحكومة والجيش والأمن».

النتائج كانت سلبية جدًا على المدى المتوسط والطويل:

تخلى المزارعُ عن أرضه. باع الراعي مواشيه. ترك الصياد شباكه. اتجهت الأجيال اللاحقة إلى الوظيفة الحكومية براتب مضمون ومستقر، بغض النظر عن الإنتاجية أو الحاجة الفعلية.

وترسخت بذلك قناعة عامة بأنَّ الوظيفة الحكومية حق دائم للمواطن وأبنائه وأحفاده، لا عقد عمل مرتبط باحتياجات السوق وقدرة الاقتصاد.

النتيجة بعد نصف قرن: بطالة وهشاشة واتكالية؛ حيث إننا، اليوم، نواجه بطالة متصاعدة، خاصة بين الشباب، بينما نميل إلى تحميل العمالة الوافدة المسؤولية. لكن التشخيص الحقيقي يكشف جذورًا أعمق:

اقتصاد ريعي غير مُنتج: يعتمد على ريع النفط والغاز دون قدرة حقيقية على خلق فرص عمل مستدامة أو تنويع الدخل. بيئة أعمال غير جاذبة للاستثمار: تُعاني من بيروقراطية معقدة وتفتقر للحوافز الجاذبة للاستثمار المحلي والأجنبي المنتج. ثقافة اتكالية: غياب روح المبادرة الفردية والمخاطرة المحسوبة، مع اعتماد شبه كلي على الدولة.

في هذا السياق، تحول التعمين من سياسة جادة إلى شعار سياسي أو مُسكِّن مؤقت.

كيف يمكن إحلال مواطن محل وافد في اقتصاد قائم على الاستيراد والخدمات الحكومية، بينما يفتقر تقريبًا إلى قطاعات إنتاجية وتكنولوجية مولدة لفرص عمل جيِّدة ومستدامة؟

الخلاصة: الفاتورة المتأخرة وضرورة العلاج الجذري

التعمين بصورته الحالية ليس أزمة طارئة؛ بل هو فاتورة متأخرة لسياسات اقتصادية واجتماعية بدأت قبل نصف قرن. إنِّه عرض لمرض مزمن في بنية الاقتصاد ونظام الحوافز وعلاقة الدولة بالمجتمع.

والخروج من هذه الدائرة يتطلب شجاعة سياسية لاتخاذ إجراءات جذرية:

كسر إدمان النفط والغاز: الإسراع في التنويع الاقتصادي نحو قطاعات إنتاجية وتصديرية قادرة على خلق وظائف نوعية (صناعات متقدمة، تقنية، سياحة مستدامة، زراعة حديثة، لوجستيات). تحرير القطاع الخاص: فك ارتباطه بالمناقصات الحكومية وتهيئة بيئة تنافسية تشجع الابتكار والاستثمار المنتج، مع إصلاح جذري لنظام الكفالات والمناقصات لضمان الشفافية والكفاءة. إصلاح سوق العمل: مراجعة سياسات التوظيف والأجور في القطاع الحكومي، وتطوير التعليم والتدريب المهني بما يلائم احتياجات السوق المستقبلية. تعزيز ثقافة الإنتاج والمبادرة: تغيير العقد الاجتماعي القائم على الوظيفة المضمونة، وبناء ثقافة تقدّر العمل الحر والإنتاجية والريادة.

كلمة أخيرة

الوقت ليس في صالحنا. ومع الضغوط السكانية، واقتراب عصر ذروة النفط والغاز عالميًا، فإن الاستمرار بالسياسات الحالية يقود إلى سيناريو خطير: بطالة متفاقمة، اقتصاد هش، وضغوط اجتماعية متصاعدة.

التعمين الحقيقي لن يتحقق بملء وظائف شكلية، بل ببناء اقتصاد وطني قوي قادر على استيعاب طاقات أبنائه وضمان رخائهم.

هذه ليست رفاهية؛ بل ضرورة وجودية لمستقبل عُمان.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

حين يتحول الأثاث إلى وقود.. حكايات الغزيين بين نار الحصار ولهيب الجوع

في أحد الأزقة الضيقة لمدينة غزة، يجلس الفنان التشكيلي طه أبو غالي (42 عامًا) في فناء منزله المتصدع، يتأمل لوحاته التي رسمها على مدى سنوات طويلة. كانت هذه اللوحات ملاذه من ضجيج الحرب وأداة للتعبير عن روحه المرهقة، لكنها اليوم تتحول إلى وقود لإبقاء النار مشتعلة تحت قدر صغير يغلي بماء وفتات طحين. ينظر إليها بأسى، يمسح بيده الغبار عن إطار خشبي ويقول بصوت مخنوق: «لم أكن أتصور أن يأتي يوم أرى فيه فني يتحول إلى رماد كي تطعم عائلتي».

في مساء بارد، وبينما تتعالى أصوات الطائرات في السماء، جمع طه عائلته الصغيرة حوله وأخذ يفرغ بعض اللوحات من إطاراتها الخشبية، يشرح لأطفاله الصغار أن هذه الأخشاب ستساعدهم على طهي وجبة وحيدة لهذا اليوم. كان قلبه يتفتت مع كل كسر للخشب، لكنه يعلم أن الجوع لا يرحم وأن الصغار بحاجة إلى ما يسد رمقهم.

طه الذي كان معلمًا للفنون في إحدى مدارس القطاع قبل الحرب، لم يعد يعرف للفن مكانًا في حياته سوى كمصدر وقود.

يروي بمرارة: «الرسم لم يعد يطعم خبزًا، اللوحات التي شاركت بها في معارض داخل غزة وخارجها تنتهي الآن رمادًا على عتبة بيتي». ينطق الكلمات وهو ينزع آخر مسمار من إطار لوحة كانت الأقرب إلى قلبه، لوحة تجسد طفولةً حالمة وسط بحر غزة الأزرق الذي صار اليوم محاصرًا مثله.

بينما تتصاعد رائحة الخشب المحترق، تتزاحم في ذهنه ذكريات معارضه الفنية، أصدقائه الرسامين، أحلامه التي كانت تحلق بعيدًا عن الحرب. اليوم، كل تلك الأحلام تُدفن مع دخان اللوحات المتصاعد في السماء، لعلها تصل إلى ضمير عالمي غائب.

يتساءل بحزن خلال حديثه لـ«عُمان»: «أهكذا يكون ثمن البقاء على قيد الحياة؟ أن ندفن أرواحنا وأحلامنا في نار الطهي؟».

لم تكن هذه المرة الأولى التي يضطر فيها طه لتكسير لوحاته، لكنه يقول إن الألم يزداد مع كل مرة، وكأن قطعة من روحه تُكسر معه. وبينما ينظر إلى أطفاله يأكلون القليل مما طبخه، يدرك أنه رغم قسوة المشهد، فإن الجوع أشد قسوة من أي خسارة.

حصار يخنق الحياة

في شوارع غزة المدمرة، يتناثر أثاث البيوت المحطمة، فيما يسعى الأهالي إلى جمع ما تبقى منه لا ليعيدوا ترتيب منازلهم، بل ليحولوه إلى وقود للطهي. انقطع الغاز منذ أشهر طويلة، وأغلقت المعابر منذ مارس الماضي بشكل شبه كامل، ما جعل دخول الوقود والمساعدات أمرًا شبه معدوم. ما يصل من الشاحنات لا يغطي سوى 0.02% من احتياجات القطاع، تاركًا أكثر من مليوني إنسان في مواجهة الموت البطيء.

المشهد في الأحياء الشعبية لا يختلف كثيرًا: دخان يتصاعد من نار مكشوفة، نساء يقدن أطفالهن حول قدر يغلي بالماء وبقايا العدس، وأصوات الحطب المكسر تختلط بأنين الجوع.

يقول أشرف الجعب أحد السكان: «الحياة هنا صارت سباقًا مع الموت، ليس فقط بسبب القصف بل بسبب الجوع الذي يخنق كل بيت».

في بيان له، أكد المكتب الإعلامي الحكومي في غزة أن القطاع بحاجة يوميًا إلى 500 شاحنة مساعدات و50 شاحنة وقود كحد أدنى لتفادي الكارثة الإنسانية المتصاعدة.

وأضاف البيان: «المخابز توقفت، المستشفيات تتهاوى، السكان بلا غذاء ولا ماء ولا دواء، والمجاعة تتفشى بين الأطفال والمرضى وكبار السن». دعوات عاجلة أطلقها البيان لتمكين المنظمات الإغاثية من العمل بحرية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لكن الصمت الدولي يبدو أثقل من الحصار ذاته.

وسط هذه المأساة، تتجسد صور لا تُنسى: أطفال يبيعون ألعابهم الخشبية مقابل ثمن كيلو دقيق، عائلات تفكك أبواب غرفها وسرائرها لتشعل النار، أمهات يحاولن طمأنة صغارهن بأن الغد قد يكون أفضل، رغم أن الأفق مسدود بنيران الحرب والجوع معًا.

حرق الذكريات

في بيت متواضع في مدينة دير البلح، وسط غزة، يقف ماهر الجرجاوي، شاب ثلاثيني، يراقب بألم شقيقته رشا وهي تكسر بقايا طاولة قديمة ليشعلوا النار تحت قدر طعام هزيل.

يقول ماهر بحزن: «لم نعد نستطيع شراء الحطب، سعره وصل إلى ثلاثة دولارات للكيلوجرام الواحد، ونحن بالكاد نجد ما نأكله. لذلك نأخذ من أثاث بيتنا ونكسر الأشياء غير الضرورية لنطهو عليها الطعام والمشروبات». ثم يضيف وهو يحاول إشعال النار: «حتى هذه الحيلة صارت مكلفة، فثمن الطعام نفسه لم يعد بمتناول يدنا».

رشا، التي كانت تحتفظ بقطع خشبية تزين زوايا البيت وتحمل ذكريات عائلية، لم تتخيل يومًا أنها ستلقي بها في النار. تقول والدموع تلمع في عينيها: «هذه التحف التي أحببناها واحترمناها تحولت الآن إلى وقود للنار تأكلها، فقط لأننا لا نستطيع شراء الحطب ولا الغاز». كلماتها تختلط مع أصوات تكسير الخشب، ومع كل كسرة ينهار شيء من تاريخ العائلة وذكرياتها.

مع انقطاع الكهرباء والغاز، عادت العائلة للطهي على النار المكشوفة في فناء البيت. الدخان يملأ المكان، والأطفال يحاولون الابتعاد عنه لكنهم يتشبثون بوعود وجبة وحيدة قد تملأ بطونهم الخاوية. يقول ماهر لـ«عُمان»: «حتى نطهو رغيفًا من الخبز، نحتاج لبيع باب أو سرير، أو قطعة خشبية من بيتنا. أصبحنا نحرق ذكرياتنا كي نبقى أحياء».

الحياة اليومية لعائلة الجرجاوي تحولت إلى معركة بقاء قاسية، فكل وجبة تحتاج إلى تضحية جديدة من أثاث المنزل. وبينما تتصاعد رائحة الخشب المحترق، يتساءل ماهر ورشا: «إلى متى سنبقى نطعم النار ذكرياتنا كي نبقى على قيد الحياة؟».

ثمن الحطب

في سوق شعبي مكتظ بالوجوه المتعبة في مدينة خان يونس، يقف أحمد الحلو، مواطن أربعيني، يحمل في يده حفنة من قطع الخشب جمعها من بقايا أثاث مهترئ. يقول بصوت مبحوح: «اليوم في غزة، شراء الحطب لم يعد أمرًا بسيطًا، بل صار معركة اقتصادية مرهقة. سعر الكيلوجرام الواحد ثلاثة دولارات، ونحن نحتاج خمسة كيلوجرامات لطبخة واحدة، أي 15 دولارًا فقط لإشعال النار».

يضيف متألمًا خلال حديثه لـ«عُمان»: «لم نتحدث عن ثمن الطعام، فهذا أمر آخر في ظل المجاعة، الكلام فقط عن الوقود البدائي غير المتوفر والمكلف».

يشرح أحمد أن البحث عن الحطب أصبح جزءًا من الروتين اليومي للأهالي، حيث يجوبون الأحياء بحثًا عن أي قطعة خشبية يمكن أن تُشعل نارًا لبضع دقائق. «نعيش بين نارين؛ نار الحرب ونار الطهي، ولا خيار أمامنا سوى أن نحرق أثاثنا أو أن نموت جوعًا». يقولها والمرارة تتساقط مع كلماته مثل قطرات حبر على ورق ممزق.

يروي أحمد أنه رأى أطفالًا يبيعون ألعابهم الخشبية مقابل بعض الطحين، ونساءً يقطعن أبواب بيوتهن ليتمكنّ من إعداد وجبة وحيدة في اليوم. «كل شيء أصبح له ثمن فادح، حتى النار التي كنا نعتبرها أبسط وسائل الحياة، صارت رفاهية باهظة الثمن».

مع غياب الغاز وندرة الحطب، تحولت المدينة إلى لوحة رمادية يغلفها دخان الخشب المحترق، رائحة البؤس تنتشر في الأزقة، وصوت الجوع يعلو على كل شيء آخر. هذه ليست حياة، بل انتظار طويل للمجهول وسط حصار بلا نهاية.

مقالات مشابهة

  • الإدارية العليا تعدل معاقبة موظف إخواني من الغرامة لخفض الوظيفة
  • «اقتصاد ما بعد النفط»رحلة سلطنة عُمان نحو التعقيد الاقتصادي
  • احذر.. عدم تنظيف أسنانك قبل النوم يعرضك لمرض قاتل
  • حين يتحول الأثاث إلى وقود.. حكايات الغزيين بين نار الحصار ولهيب الجوع
  • اجتماع لمناقشة آليات التعاون بين وزارة الاقتصاد وهيئة الابتكار في مجال توطين الصناعات
  • مناقشة آليات التعاون بين وزارة الاقتصاد وهيئة الابتكار في مجال توطين الصناعات
  • بيان القاعدة في حضرموت.. تماهٍ واضح مع أجندة الحوثي لنشر الفوضى وضرب الاقتصاد
  • نائب: زيادة حجم الصادرات الزراعية فرصة ذهبية للتوسع في التصنيع الغذائي
  • لابيد يقول إن احتلال غزة يعني موت الأسرى وانهيار اقتصاد إسرائيل