تتميز السلطة بكونها الفاعل الرئيس في حياة البشر منذ القدم، فصاحب السلطة يملي آراءه بما يخدم سلطته وبقاءها بالقوة لا بالإقناع، سواء أكان على المستوى الأصغر كالعائلة أو البيت، أم على المستوى الأكبر، القبيلة، فالدولة، فالإقليم، فالعالم. ومنذ البدء، كان واضحا بأن القوة المطلقة تفضي إلى الديكتاتورية الوحشية التي تُبيد وتجعل الخاضع للسيطرة جزءا وظيفيا يؤدي منفعته لصاحب السلطة والقوة فحسب، سواء أكان على المدى القصير أم الطويل.
هنا تطور الأمر وانتقل إلى مرحلة جديدة من الشر، فبدلا من أن يكون القتل موجها لأي جهة تُعادي الكيان الداخلي، صار موجها لصنع عدو خارجي يتم قتله بضمير مرتاح وبدون مسؤولية أخلاقية أو مجرد همس من الضمير، فضلا عن المراجعات المصيرية للمرء ذاته، ومساءلته لنفسه. وبعدما كان الإنسان كُلًّا واحدًا، أنشأ الغيتوهات، وهي مناطق معزولة لفئة من المجتمع يعتبرهم الناس منبوذين وغير مرغوب بهم، وارتبط هذا الاسم باليهود في أوروبا قديما؛ حيث كانوا يعيشون في مناطق كهذه بعيدا عن بيئة المجتمع وعن الاختلاط به. ثم تحول الأمر إلى تصدير فكرة الغيتوهات من المجتمع الصغير، إلى مناطق أو دول بعينها باعتبارها الغيتو الذي يمكن فيه ممارسة كل شيء بحرية وبدون حساب أو عقاب. فلك أن تقتل أحدا من الغيتو، ولن تتم مساءلتك، ولكن أن تسرق أو ترتكب أي شر بحق أحد من تلك الغيتوهات وتكون آمنا من الحساب أو المسؤولية. وهنا تحديدا، أنشئت الغيتوهات الكبرى، وهي البؤر الاستيطانية.
كان لأصحاب القوة أن يحتلوا مدنا أو دولا وأقاليم بفضل قوتهم وحدها لا لشرعية استقوها من دفع للظلم أو دفاع عن الأرض والعرض. وكان هذا الأمر يسمى استعمارا، وهو أن يتم احتلال أرض ما بهدف نهب ثرواتها، واستغلال أهلها باعتبارهم أياديَ بشرية عاملة ومنتجة، ولبسط النفوذ السياسي والهيمنة العسكرية على المنطقة المستعمرة ذاتها -كالعراق- أو لأهميتها وتأثير استعمارها لا على البلد المُستَعمر وحده؛ بل على الإقليم المحيط به، لتأثيره السياسي والاقتصادي وثقله الجغرافي -كاستعمار مصر قديما- أو لأجل كل ما سبق وأكثر باعتبار ذلك البلد كالكنز الذي لا يحتوي على ما يريده المستعمر ويحتاجه فحسب، بل يتجاوزه إلى مكاسب لا نهائية تؤثر على العالم أجمع كاستعمار الهند من قبل بريطانيا.
انتهت هذه الحقبة الكريهة والمنتنة من تاريخ البشرية، وكانت الأعناق تشرئب لأن يلقى الإنسان أخيرا حريته في وطنه ويبني وطنه بعيدا عن التدخل في شؤون غيره أو أطماعه فيما عند ذلك الآخر، ولكن واقع الحال أنتج ظلما أشد جورا وشرا، فجاءت فكرة الجيوب الاستيطانية الخبيثة. تعد الأمريكيتان الأنموذج الأول للاستيطان بمعناه الخبيث؛ أي بمعنى إحلال أو إبادة شعب مكان آخر. أعجب الأمر الأوروبيين الذين أبادوا أكثر من 90% من السكان الأصليين وفقا لبعض المصادر، فاستنسخوا التجربة في كندا، وجنوب إفريقيا وأستراليا ونيوزيلندا مرورا بالجزائر التي تحررت في عهد قريب، وبعد أكثر من مائة وثلاثين عاما تحت نير الاحتلال والاستيطان الجزئي الفرنسي لها، ومن أشهر مواليد تلك المستوطنات هو الأديب الفرنسي ألبير كامو، الذي لم يكن من الغريب تأليفه لروايته الأشهر «الغريب» بعد تلك التجربة الاستيطانية التي وسمت هويته وذاته للأبد.
في هذا السياق ذاته، لم يكتف الأوروبيون بقرون من الاستيطان والإبادة؛ فكانت خاتمة مستوطناتهم أشدها فتكا ووحشية، وهي الكيان الصهيوني. ولماذا لا نقول الكيان الإسرائيلي أو اليهودي؟؛ لأنه وببساطة شديدة جاءت هذه المستوطنات نتيجة للحركة الصهيونية ذات الأيديولوجيا السياسية، ثم تم استعمال اليهود لتبريرها، ومن ثم «إسرائيل» لإذابة المكونات المختلفة التي لم تعد تقتصر على السكان اليهود. إن قراءة التاريخ الطويل من القتل المتعمد والاستعمار وإبادة الشعوب الأصلية واستيطان مواطنها الهانئة قبل المقدم المشؤوم للمحتل، يجعلنا ندرك المنطلقات الفكرية والسياسية والهوياتية التي تشرعن ما يفعله الصهاينة في فلسطين المحتلة. ولأن حرب الإبادة الأخيرة على غزة وكل أشكال الحياة فيها كان شيئا مختلفا وصادما هز الوعي الأوروبي الحديث الذي اعتاد سماع الخطابات الكولونيالية التي تبرر «تمدين الآخر» و«نشر الديمقراطية والحرية والمساواة»، بسبب وسائل الإعلام الحرة ووسائل التواصل الاجتماعي التي أفلتت سلطة أي وسيلة إعلام عليها أو على احتكارها لرواية «الحقيقة» و«الواقع»؛ لأجل هذا كله ليس مستغربا أن يقدم الكيان الصهيوني على قصف خيمة الصحفيين واغتيال صوت الحقيقة قبل أربعة أيام. فليس أنس الشريف ومحمد قريقع وزملاؤهما من الصحفيين الذين تخطى عددهم المائتي شهيد، ليسوا هم المقصودين لذواتهم؛ بل لما يمثله صوته من مساءلة السائد في الوعي الغربي تجاه الشعوب «المتخلفة والإرهابية» التي اكتشف بغتة أنها شعوب أصيلة تدافع عن أرضها وعرضها، وأن الذي يسمهم بالإرهاب هو ذاته أُسُّ الإرهاب ومنبعه. إن العالم مقبل على تغيير شامل لا محالة، فهزات الوعي الجمعي لا تلبث أن تتحول إلى ردة فعل على أرض الواقع، فكيف سيتصرف من بيدهم زمام التغيير في قادم الوقت؟ أم أننا سنترقب التسونامي العالمي بمراكب خشبية تستجدي رحمة الموج؟
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
كريم خالد عبد العزيز يكتب: انتقادات تعدت الحدود.. متى نتعلم فن التعليق على الآخر؟
الناس الذين لا يملكون شيئًا يفعلونه يجدون متعة في انتقاد الآخرين الذين يحققون إنجازات.... هناك كم كبير من الحقد والغيرة يظهر في تعليقات كثير من الناس السلبيين من الذين يعلقون على المشاهير.... هؤلاء ليس لديهم ما يفعلونه في حياتهم إلا انتقاد تصرفات غيرهم، وللأسف منهم من قد يشتهر على حساب غيرهم.... هؤلاء يتقمصون دور المصلحين الاجتماعيين وأحيانًا دور الطهر والقداسة، وكأنهم بلا خطيئة.... لماذا لا يركز كل شخص في حياته الشخصية فقط وفي نفسه؟ لماذا كل هذه التعليقات السلبية التي نراها معبرة عن غيرة وحقد وضغينة تجاه الآخر؟
الفنانة الكبيرة الرقيقة لبنى عبد العزيز احتفلت بعيد ميلادها التسعين، وصرحت أنها سعيدة بأنها حية إلى الآن، واستعادت ذكرياتها الجميلة مع الجمهور في زمن الفن الجميل.... هناك من انتقد كلامها، ومن انتقد ظهورها بدون حجاب، ومن قام بدور المصلح الاجتماعي وأمرها بالتوبة.... على الجميع أن نتعلم فن التعليق على الآخر.... هؤلاء المصلحون أين هم من قول النبي محمد ﷺ: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت."
فيديو آخر نشرته الفنانة نانسي عجرم معبرًا عن الأمومة، وهي تودع ابنتها الصغيرة قبل الذهاب إلى حفلتها وتقبلها وتحتضنها وتخبرها أنها ستعود وهي نائمة.... لم يترك الناس أي تعليق سلبي إلا وعلقوا به لماذا؟ ليس فقط تعليقات سلبية، وإنما تعليقات غير أخلاقية ولا تمت بالذوق والأخلاق بصلة، سخرية وسباب وتعدي للحدود وإتهام للفنانة بالإهمال لأنها تركت ابنتها من أجل المال.
الشخص الفنان أو المشهور بشكل عام للأسف الشديد يتعرض لكم كبير من الحقد والغيرة من قبل الأشخاص الفاشلين الذين ليس لديهم أي إنجاز في حياتهم، فيحاربون فشلهم بإحباط غيرهم من الناجحين أصحاب الإنجازات.... حتى رجال الدين يتعرضون لإنتقادات ساخرة بسبب السوشال ميديا التي تركت مجالًا لهؤلاء الأشخاص المتطفلين، وأغلبهم للأسف الشديد جهلاء وغير مثقفين.
الكلمة الطيبة صدقة.... علينا أن نعزز قيم الذوق العام واحترام الآخر حتى لو كان مختلفًا ببيئته وفكره.... احترام الاختلاف بشكل عام وتقدير الفن بشكل خاص أمر طبيعي داخل المجتمع السوي.... في النهاية، على كل إنسان الانشغال بنفسه فقط دون إصدار أحكامه على الآخر.... لا تحاسبوا غيركم، بل حاسبوا أنفسكم.... فكرة الحكم على أخلاق الغير من مظهره الخارجي فكرة فاشلة لأن المظاهر خداعة ولا نعلم النوايا الداخلية لكل إنسان.... علينا أن نهتم بالجوهر أولًا ثم المظهر الخارجي المكمل لهذا الجوهر وليس العكس.