السياسة البريطانية تقوم على المراوغة والمناورة والتلاعب بالكلمات، وذلك ديدنها في التعامل مع الآخر وخصوصا إذا ما كان هذا الآخر هم العرب. فعندما أعلنت نيتها الاعتراف بالدولة الفلسطينية في سبتمبر القادم، تبادر إلى ذهني بريطانيا العظمى التي ظلت ممهورة في أذهاننا: فهي هيئة الإذاعة البريطانية، الدراسة والجامعات وتعلم اللغة الإنجليزية وكرة القدم ولندن، وهي الفنون والمتاحف، متحف (مدام توسو) والموسيقى والمسارح وحديقة الهايدبارك بارك و(الكورنر سبيتش) وميدان البيكادلي وشاشاته الضخمة، وهي معقل الدبلوماسية ومدرسة في البرتوكول.
كل ذلك لم يعد، وتحولت بريطانيا إلى دولة عادية جدًا تلاشت عظمتها إن لم تكن تبخرت وتآكلت قوتها وغربت شمسها التي كانت يوما ما لا تغيب. لكن نشوة العظمة لا تزال تجري في عروقها، تحاول أن تتمسك بجلباب العظمة وجاهدة تحاول أن تبقي نفسها في مضمار السباق رغم أن ليس في الحلبة غير متسابق واحد لا يسابق إلا نفسه وهو فقط يقرر متى يفوز بينما الآخرون بما فيهم بريطانيا يجلسون متفرجين ومشجعين في بعض المرات.
لكن، بلا شك أن ما تبقى لبريطانيا هي العلاقة مع دول الشرق العربي وهي علاقة تاريخية غالبا ما توصف بالمعقدة والمتشابكة. حوادث ومواقف كثيرة تظهر السياسة البريطانية ولعل آخرها ذلك الإعلان. وجريًا على عادة بريطانيا التلاعب بالكلمات وذر الرماد في عيون الآخرين فقط لتجاوز الضغوط. فالعارفون في دهاليز السياسة لا يستطيعون الخروج بشيء من هذا إلا أماني وأحلام.
نعود إلى إعلان بريطانيا نيتها الاعتراف بالدولة الفلسطينية في سبتمبر القادم أثناء انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة. وما يجعلنا نشك في ذلك الإعلان هو الشرط المتبوع به، إذا لم تستجب إسرائيل لشروط معينة أو توافق على وقف إطلاق النار في غزة. إعلان قد لا يغني ولا يسمن كما يقال فهو مشروط إذا فعلت إسرائيل كذا وكذا سنعترف. طبعًا هم يعرفون أكثر من غيرهم أن إسرائيل لن تفعل. ولم تصدر بريطانيا إعلانها إلا وهي عارفة تمامًا بل ومتأكدة أن تلك الشروط لن تتحقق أبدًا. لأن بكل بساطة إسرائيل ليست دولة عادية وربما أقرب وصف لها هي ثلة من الإرهابيين وعصابة لا يهمهم تطبيق قانون أو الالتزام بمعاهدة أو اتفاقية يضربون عرض الحائط بكل المواثيق ويرون أنهم أمة مميزة لا تعنيها القوانين البشرية، متى التزمت إسرائيل بشروط والتزام.
السياسة البريطانية في العالم العربي معروفة فهي لا تمد يدها ولا تبسطها كل البسط تمسك العصا من المنتصف وهكذا. سياسة متأنية غير متسرعة لا ترمي الكلمات جزافًا كما يفعل ترامب. لكن ذلك بقدر ما يكون ميزة في وقت معين وفي ظروف معينة نفعت فيه إلا أنها عيب ومذمة في وقت بلغ سيل سياسة الكيل بمكاييل متعددة وسياسة العنصرية والتعالي ونبذ الآخر بلغ الزبى ولم يعد تحتمل سياسة الغموض والتخفي خلف الكلمات أو الولوج إلى المناطق الضبابية.
وعندما تقول بريطانيا بأنها ستعترف بالدولة الفلسطينية فإن ذلك أقل ما يمكن أن تقدمه للعرب هو الاعتراف بدولة فلسطين، وهذا الأقل القليل، وفي الحقيقة هو ليس أمنية أو ترفا لكن هذا حق للعرب والفلسطينيين بالخصوص فهي الدولة الاستعمارية التي سلمت فلسطين لعصابة الهاغانا الإرهابية والعصابة الصهيونية ليقيموا عليها كيانًا على حساب أصحاب الأرض الأصليين وهي التي مهدت وهيأت لهم الأرضية لارتكاب كل هذه الجرائم منذ ذلك التاريخ، فمسؤولية بريطانيا مسؤولية مباشرة عن هذه الفظاعات والمجازر.
لماذا بريطانيا دون غيرها من الدول الاستعمارية؟ رغم أن ما تفعله أمريكا في حق العرب يفوق كل التوقعات. لكن لماذا بريطانيا؟ الحساب بين الشعوب العربية وبريطانيا لهو عسير جدًا.
لأنها مارست ولا تزال مستمرة لسياستها الاستعمارية البغيضة كنا نتمنى إن لم تعتذر بريطانيا عما فعلته عن خطيئتها نتمنى أن تتوقف عن مسايرة القوى الاستعمارية وتنأى بنفسها لكنها إن لم تعتذر عن خطيئتها ولن تعتذر عن غرورها وغطرستها.
حتى عندما أعلنت فرنسا نيتها الاعتراف بدولة فلسطين في سبتمبر القادم (رغم أني أشك في ذلك) تململت بريطانيا في موقفها كالحرباء وأعلنت موقفًا ضبابيًا من ذلك وإن انضمت لاحقا لفرنسا.
لا يمكن فصل ذلك عن السياسة البريطانية بشكل عام تجاه العرب. فكما يقال (المية تكذب الغطاس) ها هي الأفعال لا تحتاج إلى دليل أو برهان، وسياسة بريطانيا لن تتغير.
لذلك لم يعد مستغربًا من بريطانيا كل ما تفعله في الخفاء فتاريخها الاستعماري يقف شاهدًا على حاضرها. بريطانيا (العظمى) أو الإمبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس. يدرك العرب تمامًا بما فيهم من يمسك بتلابيب السلطة وإن كان همسًا أن كل ما يعانيه العرب من حروب ومجازر كله بسبب بريطانيا. بحكم خبرتها وماضيها الاستعماري البغيض في الشرق العربي تقف بريطانيا موقف العداء الظاهر والباطن للأمة العربية ولا يمكن أن تلوح فرصة إلا وتدخلت بما تملك من أدوات وخيوط تستطيع تحريكها في المنطقة. لذلك لن ننسى ولن تنسى الأجيال تلك الخطيئة الكبيرة والشنيعة التي ارتكبتها بحق الأمة العربية ووعدها المشؤوم (وعد بلفور) في عام1917 عندما أعطت الحكومة البريطانية الاستعمارية فلسطين موطنًا لليهود. جريمة لا تغتفر وهي البداية التي أشعلت كل حروب ومذابح الكيان الصهيوني للفلسطينيين ومنذ ذلك التاريخ والحروب تتوالى وتتناسخ بما فيها حرب الإبادة في غزة بدعم صريح ومشاركة من بريطانيا.
هذا العداء للأمة العربية والقضية الفلسطينية بالذات وانحيازها الأعمى لإسرائيل لا تحتاج إلى دليل أو برهان فيتساوى في ذلك الحزبان الرئيسيان المحافظين والعمال وعدد كبير من صحافتها وكتابها وبرلمانييها وساستها.. بريطانيا التي يتوالى تراجعها وانحيازها الأعمى للكيان الصهيوني ودعمهم للإبادة الممنهجة، ستبقى ملتوية متغيرة لا يقبض لها طرف طالما نحن العرب لا موقف لنا.
بدر الشيدي كاتب عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: السیاسة البریطانیة
إقرأ أيضاً:
ترامب يلتقي بوتين في ألاسكا.. قمة حاسمة لوقف الحرب وإعادة رسم خريطة السياسة العالمية
في خطوة تترقبها العواصم الكبرى، أعلن البيت الأبيض أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سيعقد لقاءً ثنائيًا مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، في مدينة "أنكوريج" بولاية ألاسكا، لتكون أرض الجليد مسرحًا لمحادثات قد تعيد رسم خريطة العلاقات الدولية في ظل أجواء عالمية مشحونة.
موعد اللقاء وأهميتهالمتحدثة باسم البيت الأبيض، كارولين ليفيت، أكدت خلال مؤتمر صحفي أن ترامب سيتوجه صباح الجمعة إلى ألاسكا للقاء بوتين، مشيرة إلى أن القمة تأتي في وقت بالغ الحساسية على الصعيد الدولي، وسط استمرار الحرب الروسية الأوكرانية، وتباين المواقف الغربية حيالها.
حرب أوكرانيا على طاولة النقاشلم تخفِ ليفيت انتقادها للإدارة السابقة، مشيرة إلى أن "الحرب القاسية بين روسيا وأوكرانيا اندلعت في عهد جو بايدن"، لكنها شددت على أن ترامب عازم على إنهاء النزاع ووقف نزيف الدم، مؤكدة أن الرئيس الأمريكي "يُفضّل دائمًا السلام والشراكة على الصراع". وأضافت بثقة: "لا يوجد أي زعيم في العالم اليوم أكثر تمسكًا بمنع الحروب أو إنهائها من الرئيس ترامب".
الهجرة غير الشرعية.. ملف داخلي حاضر في القمةورغم الطابع الدولي للقمة، لم تغب الملفات الداخلية عن تصريحات المتحدثة باسم البيت الأبيض، حيث سلطت الضوء على إنجازات إدارة ترامب في ملف الهجرة غير الشرعية، مؤكدة أنه خلال ستة أشهر فقط من ولايته تم اعتقال 300 ألف مهاجر غير شرعي، في إشارة إلى استمرار هذه السياسة الصارمة حتى القضاء على الظاهرة.
لقاء ترامب وبوتين في ألاسكا ليس مجرد اجتماع بروتوكولي، بل اختبار حقيقي لقدرة واشنطن وموسكو على تجاوز الخلافات وتبني لغة الحوار بدلًا من لغة السلاح. في ظل برودة الطقس في أنكوريج، تترقب العيون حرارة المواقف التي ستخرج من القاعة المغلقة، والتي قد تحدد شكل المرحلة المقبلة على الساحة الدولية.