أمريكا استفادت من التجارة الحرة
تاريخ النشر: 14th, August 2025 GMT
((يشعر كثير من الأمريكيين بأنهم ضحايا لنظام التجارة الحرة رغم ازدهار بلدهم، مما ساعد على صعود رواية سياسية مضللة. الدخل الوسطي والأجور تحسّنت، لكن قلق التغيير وثبات الناس في أماكنهم زاد الاضطراب السياسي))
فيما يشاهِد العالم المذعور نظاما اقتصاديا جَلَب الاستقرارَ والازدهار لِعُقودٍ وهو يُقلَب رأسا على عقب ظللتُ أسمع من بلدٍ إلى بلدٍ نفسَ السؤال وهو: لماذا تشرَع الولاياتُ المتحدة في هدم النظام الذي حقق لها ازدهارا عظيما؟ عندما أشرح للسائلين أن أمريكيين عديدين بمن فيهم الرئيس يعتقدون أن أمريكا ظلت ضحية لهذا النظام (نظام التجارة الحرة) يحتارون.
صاغ الرئيس دونالد ترامب مع "حركة ماغا" هذه السردية (سردية أمريكا ضحية التجارة الحرة) بقدرٍ عظيم من النجاح. فرغم نجاح الأمريكيين الأثرياء وكبرى الشركات الأمريكية في العقود الأخيرة يميل حتى أولئك الذين يعارضون ترامب الى الإقرار بأن الدُّخول التي يحصل عليها معظم الأمريكيين ظلت على حالها والوظائف نقلت الى الخارج ومستويات المعيشة تدهورت. لكن أيّا من هذا لا يخبرنا بالقصة الحقيقية. فالتحولات الهائلة في السياسة العامة والمغيِّرة للعالم تُصنع استنادا الى سلسلة من الافتراضات التي هي حكايات شخصية ومبالغات وأكاذيب.
الرقم الأساسي والمهم الذي يجب وضعه في البال هو الدخل الوَسَطِي. فمتوسط الدخل أقل كشفا للحقيقة لأن دخول (أصحاب البلايين) إيلون ماسك وبيل جيتس وجيف بيزوس ترفع متوسط الدخل في الولايات المتحدة.
أما الدخل الوَسَطي فهو دخل الأمريكي في "وسط" توزيع الدخل. بمعنى أن نصف الأمريكيين يحصلون على دخول أعلى منه والنصف الآخر على دخول أقل منه.
وفقا لمقياس منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية كان الدخل العائلي الوَسَطي المتاح (للإنفاق أو الادخار) في الولايات المتحدة كما في عام 2021 أعلى من نظيره في كل بلدان الاقتصادات الصناعية المتقدمة ما عدا بلد واحد. فهو أعلى من سويسرا وألمانيا وبريطانيا واليابان. أما الاستثناء فدولة لوكسمبورغ الصغيرة. بل في الحقيقة الدخل العائلي الوسطي المتاح في أمريكا حوالي ضعف حجمه في اليابان.
وكما أشار الكاتب نوح سميث في مقالة ممتازة، الدخل الوَسَطي الأمريكي لم يكن راكدا كما يُقال لنا عادة. فقد ظل ينمو بسرعة على مدى عقود. يذكر سميث أن الدخل الشخصي الوَسَطي الحقيقي ارتفع بنسبة 50%منذ سبعينيات القرن الماضي. وارتفعت الأجور بالساعة، بعد حساب التضخم، بقدر ملحوظ منذ التسعينيات. بل شهدت الأجور المحسوبة بالساعة لثلث الأمريكيين في قاع سُلّم الدخل ارتفاعا بنسبة أكبر تجاوزت 40%.
لا يوجد شك في وقوع اضطرابات خلال هذه العقود المنصرمة. تلك هي طبيعة الرأسمالية. كتب ديفيد اوتور وآخرون عن "صدمة الصين" التي فُقِدَت فيها حوالي مليوني وظيفة بين عامي 1999 و2011 نتيجة صعود الصين في ميدان الصناعة التحويلية. ومؤخرا، ضخَّم وزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسينت هذا الرقم الى 3.7 مليون وظيفة. لكن مقالة لمركز الأبحاث المحافظ "معهد أميركان انتربرايز" تشكك في صحة ذلك الرقم تماما. بل تثير الشكوك حتى في صحة الرقم الأقل الذي ورد في بحث اوتور.
النقطة الرئيسية هي التقلب الهائل في سوق العمل الأمريكي. فهذه الأيام يفقد في المتوسط حوالي 30 مليون أمريكي بالقطاع الخاص وظائفهم سنويا. ويحصل عدد مماثل على وظائف في كل عام. وخلال سنوات "صدمة الصين" كسبت الولايات المتحدة في الواقع أكثر من مليوني وظيفة بشكل إجمالي. ولم تكن تلك وظائف متدنية الدخل في مطاعم الوجبات السريعة.
خذوا مثلا بلدتي فلينت في ولاية ميشيجان وجرينسبورو في ولاية كارولاينا الشمالية وهما كثيرا ما تعتبران نموذجا كلاسيكيا للبلدة التي دمَّرها فقدان الصناعة التحويلية. فخلال ربع القرن الماضي ارتفع الأجر الحقيقي لأفقر الأمريكيين بأكثر من 40% في فلينت وفوق 26% في جرينسبورو.
هذه ليست أمثلة فردية أو حكايات شخصية. فمعهد بروكنجز في عام 2018 درس 185 مقاطعة حضرية كان بها الكثير من الوظائف الصناعية في عام 1970 واكتشف أن 115 مقاطعة منها تمكنت من الانتقال من الصناعة التحويلية وتحسين المستوى المعيشي للمقيمين بها. فقط 14 مقاطعة من هذه المقاطعات الصناعية يمكن وصف وضعها بالهشاشة. لكن ينبغي تذكُّر أن البطالة في الولايات المتحدة ظلت قريبة من أدني مستوى لها على مدي 50 عاما لأكثر من ثلاث سنوات.
في اقتصاد بحجم وتنوع اقتصاد الولايات المتحدة ستكون هنالك دائما أماكن تعاني. ومن بين العوامل التي تجعل هذه المشكلة ضاغطة أن الأمريكيين نادرا ما ينتقلون من الأماكن التي ينهار فيها الاقتصاد بحثا عن وضع أفضل. وكما لاحظ يوني ابلباوم في كتابه " لا يتزحزحون" كان الأمريكيون في العادة يتنقلون بوتيرة عالية ويبحثون دائما عن فرص أفضل. لكن في العقود الأخيرة لم يحركوا ساكنا (لم يتزحزحوا) من أماكن إقامتهم، بأمل أن تأتي الفرص الاقتصادية الأفضل إليهم.
يشير ابلباوم الى رقم احصائي لافت حول السباق الرئاسي في عام 2016. كتب "وسط الناخبين البيض الذين انتقلوا الى أماكن تبعد أكثر من ساعتين عن البلدة التي نشأوا فيها تمتعت (المرشحة الديموقراطية) هيلاري كلنتون بتفوق بلغ ست نقاط مئوية. لكن أولئك الذين يقيمون في مناطق أقل من ساعتين بالسيارة من بلدتهم الأصلية صوتوا (للمرشح الجمهوري) ترامب بفارق 9 نقاط. أما أولئك الذين لم يفارقوا أبدا مسقط الرأس فصوتوا له بفارق لافت بلغ 26 نقطة.
ترسم هذه الأرقام صورة مختلفة لطبيعة الاضطراب السياسي في الولايات المتحدة. فالتحول والتغيير الإحلالي الذي تسببت فيه الرأسمالية والعولمة والتقنية أو الثقافة المتغيرة (وهذا العامل الأخير مهم) أثار قلقا عميقا وسط العديدين. وهنالك من لا يطيقون هذا القلق ويريدون عودة العالم الى ما سبق أن كان عليه. لكنه لن يعود، بالرسوم الجمركية أو بدونها.
•فريد زكريا كاتب رأي ومقدم برنامج يتناول القضايا الدولية والشئون الخارجية على شبكة سي إن ان.
•الترجمة عن واشنطن بوست
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی الولایات المتحدة التجارة الحرة فی عام
إقرأ أيضاً:
ترامب يُصدر أمراً تنفيذياً لتعزيز أمن سلسلة الإمداد الدوائي في الولايات المتحدة
وقع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الأربعاء، أمراً تنفيذياً يهدف إلى تعزيز أمن واستدامة سلسلة الإمداد للأدوية الحيوية في الولايات المتحدة، من خلال إنشاء احتياطي استراتيجي من المواد الفعالة (SAPIR)، بحسب ما نقلته وكالة رويترز
وينص هذا القرار على أن تقوم وزارة الصحة والخدمات الإنسانية، عبر مكتب مساعد وزير الاستعداد والاستجابة، بإعداد قائمـة تقريبية تضم نحو 26 دواءً أساسياً، تشمل مكونات حيوية يجب تخزينها لضمان توفير الأدوية الضرورية في أوقات الأزمات.
استعدادا لقمة ترامب وبوتين.. روسيا تجهز لاختبار صاروخ كروز نووي جديد الأسبوع الجاري
ترامب يلتقي بوتين في ألاسكا.. قمة حاسمة لوقف الحرب وإعادة رسم خريطة السياسة العالمية
ويأتي القرار في إطار سعي الإدارة لتعزيز جاهزية البلاد للأزمات والتقليل من الاعتماد على سلاسل الإمداد الخارجية
يأتي الإجراء بعد خطوات سابقة أطلقها ترامب خلال العام، تهدف إلى تقليص الاعتماد على الأدوية المستوردة وتعزيز الإنتاج المحلي. ففي مايو 2025، وقّع ترامب أمراً تنفيذياً لتسهيل إنشاء مصانع تصنيع الأدوية في الداخل الأمريكي، عبر تبسيط إجراءات ترخيص تلك المصانع، قال إنه يأتي في إطار «إعادة بناء قاعدة إنتاج دوائي وطنية قوية»
في نفس السياق، سعى ترامب إلى ضبط أسعار الأدوية للمستهلكين، عبر سياسة تُعرف بـ "سعر أكثر الشعوب تفضيلاً"، حيث يأمل أن يُباع الدواء في الولايات المتحدة بما يوازي السعر الأدنى المتاح في الدول الصناعية الأخرى. وقد توقع أن تخفض هذه السياسة الأسعار بنسبة تتراوح بين 30% و80%