الأسبوع:
2025-08-14@18:37:13 GMT

خطاب المخابرات و«إسرائيل الكبرى»

تاريخ النشر: 14th, August 2025 GMT

خطاب المخابرات و«إسرائيل الكبرى»

في الحروب القديمة، كانت البنادق والمدافع تحدد مصير المعارك، بينما الدخان المتصاعد من ميادين القتال يروي حكايات الانتصارات والإخفاقات، تغيّر المشهد، ولم تعد الميادين أراضٍ محددة بخطوط النار، لكنها صارت فضاءً واسعًا بلا خرائط أو أسوار.

تتسع الميادين بعدد مليارات الهواتف المحمولة، وشاشات التلفزيون، وتطبيقات التواصل، بينما الأسلحة: مقالات، وفيديوهات، وصور، وكوميكس، تتسرب في لحظات إلى عقول أعياها: الجهل، الفراغ، وسطوة الاستهداف، حرب بلا رصاص، تصيب الأدمغة فتتهاوى إرادة الأجساد.

وسط هذا الصراع الكبير، ينشط الإعلام الإسرائيلي، يحيط به حزام من منصات أوروبية، وأمريكية، وعربية «أحيانًا»، بعضها متحالف معه رسميًا، وبعضها الآخر متشابك معه في المصالح والارتباطات حتى صار جزءًا من بنيته، ومعبرًا عن رسائله المشبوهة.

الإعلام الإسرائيلي يمارس وظيفة تتجاوز الإخبار إلى صناعة الإدراك، لا يكتفي بنقل الأحداث، بل يعيد تشكيلها داخل قوالب تخدم مصالحه الاستراتيجية، وفي غرف الأخبار المغلقة، يتم تخليق روايات، وانتقاء المعلومات، وتكييف الصور، وترسيخ مصطلحات خبيثة.

لا يقدم الإعلام الإسرائيلي الصورة الكاملة لما يحدث، يتعمد الحد أو إخفاء جرائم الاحتلال الشاملة «عسكريًا، وسياسيًا، واجتماعيًا.. .»، يبالغ في عرض تفاصيل صغيرة إذا كانت تخدم أهدافه، ويتعمد جعل المتلقي، محليًا أو دوليًا، أسيرًا لرؤية معدة سلفًا.

ينتجون خطابًا يوظف الخوف والتحريض ليخلق بيئة مهيأة لتقبل السياسات التوسعية، يزرع الإعلام الإسرائيلي «رغم تباين الخطاب» صورة نمطية عن العرب والمسلمين بوصفهم تهديدًا دائمًا، ويحاول تحميلهم مسئولية أي عنف أو تصعيد، حتى وإن كانوا ضحاياه.

إعلام الاحتلال يستهدف الرأي العام العالمي عبر تسويق الأوهام كحقائق، مؤسسات الأمن والاستخبارات تغذي منظومتهم الإعلامية، والتنسيق الوثيق يربط مزاعم متجددة، كـ«إسرائيل الكبرى»، بعمليات ميدانية ونفسية، في محاولة لجعل المخططات قدرًا لا مفر منه.

طرح رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو لمفهوم «إسرائيل الكبرى»، إعلاميًا ونفسيًا على الجوار العربي يستهدف ترسيخ صورة ذهنية بأن المشروع الصهيوني لا يزال في أوج قوته وأن طموحاته التوسعية لم تتراجع، بما يزرع الإحباط والخوف لدى الشعوب.

رسالة خبيثة، هدفها دفع النخب السياسية إلى التعامل مع إسرائيل باعتبارها قوة أمر واقع لا يمكن كسرها، تشتيت الأولويات العربية عبر الإيحاء بأن الخطر الإسرائيلي شامل ومرتبط بـ«قدر تاريخي» لا بممارسات سياسية قابلة للتغيير، يحاول خلق بيئة نفسية تقبل تدريجيًا بفكرة التنازل أو التطبيع كخيار لتجنب الصدام، ويغذي روايته أمام الداخل الإسرائيلي بأنه الزعيم القادر على إعادة المشروع التوراتي إلى الواجهة.

أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية تبني حملاتها على تكرار الرسائل «الإخوان يستنسخون ذلك في أكاذيبهم»، ويتعمدون صياغتها بأشكال متعددة حتى تصبح جزءًا من اللغة اليومية، يتشربها المتلقي دون مقاومة، فيتحول الإعلام إلى أداة سيطرة معرفية ونفسية، تستهدف إعادة صياغة الوعي وتقبل المطلوب.

يعيدون تعريف المفاهيم على مقاسهم، فيصبح القصف «دفاعًا»، والقتل «أخطاء عفوية»، والمجازر «حوادث مؤسفة»، أساليبهم ليست حيلًا عابرة، بل خططًا استراتيجية، تحترف التلاعب بالعقول أمام الشاشات: الكلمات، الصور، وحتى الصمت، كلها رسائل ملغمة.

المسألة ليست عشوائية: المذيع، والمراسل، والمحرر، كلهم أجزاء في منظومة تعرف تمامًا ما تريد أن تقول، ومتى وأين تقولها. فالمراسل على خط الجبهة ليس عينًا محايدة، بل ذراعًا من أذرع عملية أوسع توظفها حكومات الاحتلال في تغيير الانطباعات.

حين ننتقل إلى الغرب، نجد أن كثيرًا من المنصات الإعلامية لا تقف على مسافة واحدة من الحقيقة، بعضها يكرر خطاب إسرائيل حرفيًا: كل جملة، وكل صورة، وكل زاوية تصوير، يتم اختيارها بعناية لتترك في ذهن المتلقي الأثر المطلوب.

بعضها يموّه انحيازه، لكنه يبقي الإطار السردي مأمورًا: الاحتلال يصير «إدارة أمنية»، والحق العربي يصير «إرهابًا»، والدم الفلسطيني يصبح خبرًا ثانويًا يتيمًا في أسفل الشاشة، بينما الدموع الإسرائيلية تحتل العناوين العريضة.

في قضايا كثيرة يزعم إعلامهم التوازن، لكنه في المسألة الإسرائيلية - الفلسطينية يصطف لخدمة رواية واحدة: رواية الاحتلال، تلعب المصالح السياسية والأمنية دورها، فتصبح حماية الرواية الإسرائيلية جزءًا من أمن تلك الدول.

اللوبيات لا تتوقف عن الضغط، من أروقة الكونجرس إلى مكاتب المعلنين، تلعب القيم الانتقائية دورها في خدمة إسرائيل الوظيفية، حامية مصالح القوى الدولية في الشرق الأوسط، يرفعون شعارات حقوق الإنسان والحريات، ثم يغضون الطرف حين يتعلق الأمر بالعرب.

يفرغون نصف الحقيقة من سياقها لتصبح شيئًا آخر، ويستدعون العاطفة الغربية القديمة تجاه «الضحايا الدائمين»، فيستحضر «المحرقة» للتغطية على البشاعة الحقيقية في الانتقام من أصحاب الأرض، ويغرقون المتلقي في أخبار متناقضة تفقده القدرة على التمييز.

المتلقي «القارئ، أو المستمع، أو المشاهد» في هذه البيئة يصبح أسيرًا لصورة ناقصة أو مشوهة، الاستهلاك السلبي لهذا الخطاب خطر ناعم، مصادر بلا تدقيق، تتسرب المفاهيم المفخخة، وتتغير الأولويات، ويُصرف الانتباه عن قلب الصراع إلى قضايا هامشية.

هم محترفون في صياغة وتنفيذ وترويج خطابهم، بينما هناك من يرسخ بيننا لتصديق خطابهم «بأسلوب: شوفت الإعلام الإسرائيلي - الغربي بيقول إيه؟!»، فيستهلكون ما هو مشكوك فيه بديهيًا، تحت تأثير الحملات الممنهجة، وترسانة الأدوات النفسية، التي تتفنن في تضخيم ما يخدمهم وتهميش ما يضرهم.

نحن وسط حرب متطورة، وسائلها تتغير لحظيًا بحكم سرعة التقدم التكنولوجي، الذكاء الاصطناعي بات جزءًا من اللعبة، قادرًا على إنتاج صور وفيديوهات تكاد تخدع حتى العيون المدربة. البيانات الضخمة جزء من تصميم رسائل الصراع على مقاس كل شخص، تبدأ بدراسة نفسيته وتوجيه إرادته.

الرسائل السياسية يتم دمجها في مسلسلات وأفلام، وأغانٍ، وألعاب إلكترونية، ومحتوى الشبكات الاجتماعية، حتى تصل إلى الجمهور بلا مقاومة. تطبيقات الفيديو القصير تُستخدم لبث مشاهد عاطفية خاطفة، سهلة الحفظ والمشاركة.

التحالفات الإعلامية تغير جلدها، فتبحث عن شركاء إقليميين يمنحون الرسالة مظهرًا محليًا، حين ندرك هذا المسار، نفهم أن الانتظار حتى تصلنا الضربة الإعلامية ليس خيارًا حكيمًا، الاستعداد يبدأ قبل أن تُطلق الرصاصة الأولى في معركة الوعي.

الخداع الاستراتيجي ينجح حين نقف في مربع المتفرجين، ويفشل حين ندخل إلى قلب النص والصورة ونفككهما. المعركة الحقيقية الآن ليست في إطلاق الرصاص، بل في القدرة على حماية العقول من أن تتحول إلى أهداف سهلة.

من يسيطر على وعيك، يحدد لك كيف ترى العالم، ومن الصديق ومن العدو، وما الحق وما الباطل وفق خطابه وروايته. إذا تركت وعيك بلا حراسة، فقد سلمت مصيرك لمن لا يرى فيك إلا رقمًا في معادلة أكبر.

المواجهة ليست في إغلاق النوافذ، بل في تعلم كيفية النظر من خلالها بوعي، والتعامل مع خطابهم كطرف في الصراع، لا كحكم محايد.علينا أن نبحث عن مصادر مستقلة، وأن نقرأ السياق قبل الحدث، وأن نفكك اللغة، وأن ننتبه للمصطلحات، وأن نرى ما وراء الكاميرا.

المجابهة لا تعني أن نغلق أعيننا عن الإعلام الدولي، بل أن نفتحها أكثر، وأن نرى الألوان الحقيقية خلف دهانات الخداع، والكذب بالألوان الطبيعية. علينا أن نتذكر أن كل رسالة إعلامية تحمل بصمة مصلحة، وأن الأخبار ليست نهاية البحث، بل بدايته.

نحن في حاجة إلى جيل يعتبر الخبر مادة للفحص لا للتلقين، وإلى مدارس وجامعات تعلم الطلاب كيف يفكون الشيفرات التي تختبئ في لغة المذيع وزوايا الصورة، وإلى مجتمع لا يكتفي بسرد ما يراه، بل يسأل: من يريدنا أن نراه بهذه الطريقة؟ ولماذا الآن؟

نحن في زمن تتحول فيه الكلمة إلى رصاصة، والصورة إلى قذيفة، لذا يصبح الوعي خط الدفاع الأول، وأحيانًا الأخير، في حرب مفروضة عليك عبر هاتفك، وتلفزيونك، وخياراتك على مواقع التواصل.

المحترفون في صناعة الإدراك يدركون طبيعة ما يتم، وكيف تُصاغ روايات مشبوهة تخدم الاحتلال وحلفاءه، في حرب لا يربحها من يملك أقوى الأسلحة، بل من يتسلح بالفهم لحماية عقله، وذاكرته، وأسرته، ومحيطه، ومجتمعه ككل، حتى لا يصبح ممن جار عليهم الزمن بعدما فرطوا «بإرادة حرة» في نعمة العقل.

المصدر: الأسبوع

كلمات دلالية: الذكاء الاصطناعي الإعلام الإسرائيلي الرأي العام الخداع الاستراتيجي الإعلام الإسرائیلی جزء ا من

إقرأ أيضاً:

إسرائيل الكبرى تشعل أزمة مع الأردن.. وعمّان تتحدى الاحتلال

عمّان – أدانت وزارة الخارجية وشؤون المغتربين اليوم الأربعاء تصريحات رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي، التي تحدث فيها عن التمسك بما يسمى "رؤية إسرائيل الكبرى"، واعتبرتها تصعيدًا استفزازيًا خطيرًا يمثل تهديدًا لسيادة الدول ومخالفة صريحة للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة.

وأكد الناطق الرسمي باسم الوزارة، السفير الدكتور سفيان القضاة، رفض المملكة القاطع لهذه التصريحات، واصفًا إياها بالتحريضية، ومشدداً على أن مثل هذه الأوهام السياسية لا تمس الأردن أو الدول العربية، ولا تُنقص من الحقوق الثابتة والمشروعة للشعب الفلسطيني.

وأشار القضاة إلى أن هذه التصريحات والممارسات تعكس عمق الأزمة التي تواجهها الحكومة الإسرائيلية، والتي تتزامن مع تزايد عزلتها الدولية في ظل استمرار عدوانها على قطاع غزة والضفة الغربية المحتلتين.

وحذر القضاة من أن تبني هذه الرؤى المتطرفة من قبل مسؤولين في حكومة الاحتلال يساهم في تأجيج العنف وإدامة الصراع، داعيًا إلى موقف دولي واضح يدين هذه التصريحات ويُحذر من تداعياتها الخطيرة على أمن المنطقة واستقرارها، ومطالبًا بمحاسبة المسؤولين عنها.

كما شدد على ضرورة تحرك المجتمع الدولي بشكل عاجل لوقف جميع الممارسات والتصريحات التحريضية الصادرة عن الاحتلال الإسرائيلي، لما تشكله من تهديد مباشر للأمن والسلم في المنطقة والعالم.
 


© 2000 - 2025 البوابة (www.albawaba.com)

سيف الزعبي

قانوني وكاتب حاصل على درجة البكالوريوس في الحقوق، وأحضر حالياً لدرجة الماجستير في القانون الجزائي، انضممت لأسرة البوابة عام 2023 حيث أعمل كمحرر مختص بتغطية الشؤون المحلية والإقليمية والدولية.

الأحدثترند "إسرائيل الكبرى" تشعل أزمة مع الأردن.. وعمّان تتحدى الاحتلال مسلسل "النسيان" على MBC.. قصة مشوقة ونجوم لامعون في دراما مشتركة إسرائيل تعتمد خطة :الخطوط العريضة" للهجوم على غزة دعوات أممية لإنقاذ مسلمي الروهينغا من الجوع جساس يعود إلى الشاشة: عابد فهد يعيد إحياء ملحمة الزير سالم Loading content ... الاشتراك اشترك في النشرة الإخبارية للحصول على تحديثات حصرية ومحتوى محسّن إشترك الآن Arabic Footer Menu عن البوابة أعلن معنا اشترك معنا حل مشكلة فنية الشكاوى والتصحيحات تواصل معنا شروط الاستخدام تلقيمات (RSS) Social media links FB Linkedin Twitter YouTube

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا للحصول على تحديثات حصرية والمحتوى المحسن

اشترك الآن

© 2000 - 2025 البوابة (www.albawaba.com) Arabic social media links FB Linkedin Twitter

مقالات مشابهة

  • مصطفى بكري: تصريحات نتنياهو حول إسرائيل الكبرى ليست صدفة و مصر لن تقبل بتصفية القضية
  • مصر تدين ما أثير ببعض وسائل الإعلام الإسرائيلية حول ما يسمى بـ «إسرائيل الكبرى»
  • "حماس": ندين تصريحات نتنياهو بشأن "إسرائيل الكبرى"
  • المملكة تدين تصريحات نتنياهو عن "إسرائيل الكبرى" وتتمسك بحق الفلسطينيين
  • إسرائيل الكبرى.. الأردن يرد على تصريحات نتنياهو: خطاب تحريضي يهدد السلام الدولي
  • قطر تعرب عن إدانتها واستنكارها لتصريحات رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بشأن ما يسمى بـ"رؤية إسرائيل الكبرى"
  • إسرائيل الكبرى تشعل أزمة مع الأردن.. وعمّان تتحدى الاحتلال
  • حلمي النمنم: فكرة تهجير الفلسطينيين مطروحة قبل قيام دولة إسرائيل
  • إسرائيل تواصل تجويع غزة رغم دخول بعض الشاحنات والشهداء فوق الــ100 بـ24 ساعة