في زاوية الغرفة الضيقة التي لا يتجاوز عرضها مترين، ترقد الحاجة أم طلال الخالدي، البالغة من العمر ثمانين عامًا، على سرير معدني بارد، تغطي جسدها النحيل بطانية ممزقة بالكاد تحجب عنها لفحات البرد، التي تشعر بها في الصيف. عينان غائرتان تحت جبهة يعلوها الشحوب، وجسد نحيل حتى تكاد عظامها تبرز من تحت الجلد. تقول بصوت مرتجف: «غدائي نصف رغيف فقط، وبعض المياه.

دائمًا ما أشعر بالدوار من قلة الغذاء، والدواء ليس له مفعول مع نقص الطعام».

دمعة على نصف رغيف

تتوقف أم طلال عن الحديث، ثم تتنهد طويلًا، كأنما تسرد عمرًا من المعاناة. كانت في شبابها تعمل خياطة في مخيم الشاطئ، وما زالت تذكر صوت ماكينة الخياطة وهي تخيط الثياب لأطفال الحي. أما اليوم، فلا ثياب ولا ماكينة ولا حتى أمل في وجبة ساخنة. «وزني نقص جدًا»

تقول وهي تشير خلال حديثها لـ«عُمان» إلى ردفيها وقد غار الجسد فيهما. «لم أعد أقوى على الجلوس، وأنتظر الموت».

قبل الحرب، كانت تتناول ثلاث وجبات في اليوم داخل المركز، وتزور الحديقة الصغيرة حين تسنح الفرصة. أما الآن، فلا طعام، ولا حديقة، ولا أصوات إلا أنين الرفاق المنهكين، وصمت العالم القاسي. «كنت أشتهي الملوخية والدجاج.. الآن أشتهي فقط أن أعيش بلا دوار».

عيناها تفيضان بالدموع كلما تحدثت عن أحفادها الذين استشهدوا، أو عن النزوح المتكرر منذ بداية الحرب. هي لا تطلب الكثير، فقط وجبة تغنيها عن الإغماء، ودواءً لا يحتاج معدة خاوية ليعمل. قالت: «كل شيء صار مرًا، حتى الماء. لكني ما زلت أقول الحمد لله».

مأساة جماعية صامتة

داخل أروقة مركز الوفاء لرعاية المسنين في غزة، حيث يتكدس العشرات من كبار السن في غرف ضيقة، على أسرة مهترئة. فالمسنون في القطاع لا يختلفون في معاناتهم عن سائر فئات الشعب الفلسطيني، بل ربما يفوقونهم ضعفًا ووحدة. يموتون ببطء، وبصمتٍ ثقيل، من الجوع ونقص الدواء، ولا من يسمع أو يرى.

ووفقًا لبيانات أوردها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، فإن نحو 62% من كبار السن في قطاع غزة يعانون من سوء تغذية حاد، في ظل انعدام الأمن الغذائي وشح الموارد. بعضهم فقد نصف وزنه منذ بداية الحرب، وبعضهم الآخر يعاني من أمراض مزمنة يتفاقم خطرها مع نقص الطعام.

الطعام الذي كان يُقدم داخل المركز لم يعد متاحًا كما كان. فلا لحوم، ولا خضار، ولا حتى جبن أو فواكه. بعضهم يقتات على البقوليات فقط، وآخرون على بقايا الخبز الجاف، والماء الملوث الذي يسيل من صنابير متآكلة. البعض تسوء حالته الطبية، والبعض يموت دون أن يُذكر اسمه في نشرة.

في مشهد يعكس الانهيار الكامل للمنظومة الصحية والإنسانية، باتت عظام المسنين تبرز تحت ملابسهم الرثة. يُشبههم العاملون في المركز بأشباحٍ يمشون في صمت، ينتظرون نهاية ما.

محمد القصاص أحد الممرضين قال لـ«عُمان»: «لم نعد نميز بين المريض والجائع، الكل يعاني من نفس الأعراض: دوخة، هزال، نسيان، وصمت مرير».

كل غرفة في المركز تحكي قصة من الصبر، كل سرير يحمل جسدًا أنهكته السنون والحصار، وكل وجه يرسم ملامح وطن يذوي، وأمة تخلّت.

ذكريات مملحة بالدموع

في سرير مجاور ترقد أم هشام الحلو، تبلغ من العمر 74 عامًا، كانت في شبابها معلمة للغة العربية في مدرسة حي الرمال الثانوية. ذاكرة حية رغم الجوع، لكنها باهتة بفعل القهر. تقول بصوت لا يكاد يُسمع من شدة الضعف: «أشتهي المحاشي، والدجاج، اشتهي الطبيخ الممتاز، والشوكولاتة. هذه الأشياء لم نرها ولم نأكلها منذ عامين، وأيضًا أتمنى أكل فواكه».

ترتبك في كلامها: «لا أدري هل مر على الحرب فعلًا عامان؟ والله لا أتذكر. هذان العامان من القتل والتجويع يبدوان كسبع سنوات عجاف».

تتحدث كأنها تسرد حلمًا لا يُنال. «الآن أقتات على قليل من الخبز وبعض البقوليات طوال النهار، وأفتقد للعلاج، ما يضاعف من مأساتي التي تراكمت من قصف ونزوح ونقص في الغذاء والدواء». تتوقف عن الكلام لتسعل قليلًا، ثم تمسح دمعة سالت على وجنتها ببطء.

تضيف لـ«عُمان» بصوت خافت: «كلما غابت الشمس شعرت أن ليلًا جديدًا من الجوع ينتظرني. لم أعد أفرق بين أيام الأسبوع، فكلها متشابهة: ألم، وجوع، وانتظار لا ينتهي».

وتختم حديثها قائلة: «كنا نحلم أن نموت بكرامة، لا أن ننزف على سرير صدئ في زمن لا يرحم».

ذاكرة تتراجع وعضلات تهن

داخل إحدى الغرف الضيقة، حيث يعمل الطبيب د. عبد الحليم شبير، يبدو عليه الإرهاق وهو يتفقد المسنين واحدًا تلو الآخر، يحمل دفترًا صغيرًا يسجل فيه ضغط الدم ونسبة السكر، ويهمس لزملائه: «لا يوجد هناك أي شيء اسمه خضار متوفر في الأسواق للمسنين أو لحوم أو أسماك أو أجبان أو فواكه، أو غير ذلك من المواد الغذائية الصحية التي كانت لابد أن تكون متوفرة لديهم».

يتوقف لحظة ثم يضيف لـ«عُمان»: «انعكس ذلك سلبًا على حياة المسن بشكل حاد. أغلبهم يعانون من نقص في البروتين والحديد والفيتامينات الأساسية. وهذا يؤدي إلى تراجع الذاكرة، وضعف العضلات، وحتى فشل في وظائف الكلى أو الكبد».

يشير إلى إحدى المريضات قائلاً: «هذه المرأة فقدت 14 كيلوغرامًا منذ مايو الماضي فقط، ومع ذلك لا نستطيع فعل شيء سوى إعطائها بعض السوائل المغذية، وهي غير كافية أبدًا». يقول الطبيب إن الأمر وصل إلى حد الخوف من الموت الجماعي الصامت.

ثم يختم حديثه بنبرة حزينة: «فالمشكلة ليست في انعدام العلاج فحسب، بل في أن أجسادهم لم تعد تحتمل العلاج أصلًا. ما الفائدة من الدواء إن لم يجد الجسد ما يقويه؟».

تنهيدة ألم

بعينين دامعتين ووجه متجعد، تحكي أم ناهض الجعبة، ذات الـ76 عامًا، قصتها من فوق سرير خشبي متهالك. «قبل الحرب كنت أتناول حساء العدس، وأشرب الحليب، وأتناول الدواء في وقته. الآن لا حساء، ولا دواء، ولا حتى ماء نظيف».

تتوقف عن الحديث قليلاً، كأنها تحبس دمعة، ثم تقول: «قبل يومين أغمي عليّ. الطبيب قال إن السبب هو انخفاض ضغط الدم بسبب الجوع. لم آكل شيئًا منذ الفجر، فقط بعض الماء». ترفع يدها المرتجفة وتضيف لـ«عُمان»: «أنظر إلى يدي، أصبحت جلداً على عظم. هذا لا يُحتمل».

كل ما تحلم به هو طبق صغير من الأرز المطبوخ، وقليل من الدواء الذي يمنع ألم المفاصل من التغلغل في جسدها. «أنا لا أطلب حياةً طويلة، فقط أن أموت بشبع».

صوت المجاعة الشائخ

في تصريح لـ«عُمان»، تحدث أحمد مشتهى، مدير مركز الوفاء لرعاية المسنين، بلهجة مزيج من الألم والعزيمة، قائلاً: «الوضع الإنساني داخل المركز كارثي. منذ بدء الحرب، ونحن نقاتل من أجل البقاء. المسنون يعيشون المجاعة بأبشع صورها، دون طعامٍ كافٍ، أو دواءٍ متوفر».

وأضاف: «كانت الوجبات في المركز تحتوي على اللحوم والخضروات والفواكه. اليوم بالكاد نوفر نصف وجبة للمسن في اليوم، وغالبًا ما تكون غير مكتملة العناصر الغذائية». يتحدث مشتهى عن العجز في الكادر الطبي، وانقطاع الكهرباء، وانعدام الوقود، ما جعل إدارة المركز أشبه بخوض معركة يومية.

وأكد أن المسنين فقدوا القدرة على التعبير عن وجعهم، فهم لا يستطيعون الصراخ أو المناشدة، بل يئنّون بصمت. «بعضهم لا يشتكي، لكنه يبكي بصمت. وهذا أصعب أنواع الألم».

وأشار إلى أن المركز نزح أكثر من مرة منذ بدء العدوان، مما زاد من تفاقم الأوضاع النفسية للمسنين. «لا شيء يرسخ في أذهانهم سوى جحيم الإبادة الجماعية، والجوع، والعطش، وما يشتهون من طعام وأغذية تساعدهم على الاستمرار».

واختتم بالقول: «نحن بحاجة ماسة إلى تدخل عاجل من المنظمات الدولية، وإلى رفع الحصار فورًا. كل دقيقة تمر تساوي روحًا تموت ببطء، ونحن لا نملك ترف الوقت».

جسد بلا ظل

هكذا يمضي الزمن في مركز الوفاء لرعاية المسنين، ثقيلًا كالموت، متجمدًا كأطراف من لا يجد الدفء. أجسادٌ بلا غذاء، وأرواح تتنازع بين الموت والحياة، ومجتمع دولي صامت أمام مجزرة بطيئة عنوانها: الجوع.

المسنون في غزة لا يملكون الصوت، ولا الضوء، ولا أحد يسأل عنهم. يموتون كما عاشوا: صابرين، صامتين، مجروحين. فقط، أنصت قليلًا لصمتهم، فقد تسمع صوت وطن يئنّ من جوف الجوع.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: لـ ع مان

إقرأ أيضاً:

حماس تنعى الأسير الشهيد خضيرات وتحذر من سياسة القتل البطيء

صفا

نعت حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، مساء الثلاثاء، الأسير الشهيد أحمد خضيرات (22 عاما) محذرة من خطورة سياسيات القتل البطيء التي ينتهجها الاحتلال بحق الأسرى وحولت السجون إلى مقابر جماعية صامتة.

وقالت حماس، في تصريح وصل وكالة "صفا"، إن جرائم الاحتلال تتواصل بحق الأسرى داخل السجون، حيث ارتقى الشهيد أحمد حاتم محمد خضيرات (22 عامًا) من بلدة الظاهرية بمحافظة الخليل، نتيجة الإهمال الطبي المتعمّد والتعذيب البطيء الذي تمارسه إدارة السجون بحقه وبحق آلاف الأسرى الفلسطينيين.

وأكدت أن استشهاد الأسرى واحداً تلو الآخر، وارتفاع عدد شهداء الحركة الأسيرة منذ بدء الإبادة إلى (78) شهيداً، يستدعي تحركًا دوليًا عاجلًا على كافة المستويات لمحاسبة قادة الاحتلال على جرائمهم المستمرة بحق الأسرى.

ودعت حركة حماس الجماهير لمزيد من النصرة والإسناد الجماهيري لأسرانا خلف القضبان، وتصعيد كل سبل الدعم لهم ولذويهم.

مقالات مشابهة

  • حماس تنعى الأسير الشهيد خضيرات وتحذر من سياسة القتل البطيء
  • أمير الشرقية: كبار السن ثروة حقيقية ورعايتهم واجب ديني ووطني
  • أمير المنطقة الشرقية: كبار السن ثروة حقيقية ورعايتهم واجب ديني ووطني
  • منظمة المرأة العربية تعقد ببيروت ورشة عمل حول حقوق كبار السن وذوي الإعاقة
  • أخصائي التغذية: البروتين مفتاح صحة كبار السن وعضلاتهم
  • شركات الشحن تراقب مفاوضات غزة لتقييم الوضع في البحر الأحمر
  • الأونروا: نواصل تقديم المساعدات المنقذة للحياة بغزة وسط الحرب والمجاعة
  • "الشباب والرياضة" تحتفل بذكرى إنتصارات أكتوبر ال٥٢ مع كبار السن علي مستوي المحافظات
  • المرأة العربية تعقد ورشة عمل إقليمية حول:"حقوق واحتياجات كبار السن والأشخاص ذوي الإعاقة" ببيروت
  • العالم الإسلامي: استجابة حماس لخطة ترامب تمهد لإنهاء الحرب على غزة