كاتب إسرائيلي: يهود العالم في مأزق بسبب ما يجري في غزة.. طوق النفور يشتد حولهم
تاريخ النشر: 7th, September 2025 GMT
قال الكاتب المحلل السياسي الإسرائيلي نداف أيال، إن الإبادة الجارية بغزة، كشفت هشاشة دولة الاحتلال، وتسببت بتراجع صورتها عالميا وزادت من عزلة اليهود في الشتات ورفع المخاطر تجاههم.
وأشار في مقال بصحيفة يديعوت أحرونوت، ترجمته "عربي21" إلى أن اليهود باتوا أمام مفترق طرق جديد، فإما أن يتوجهوا إلى دولة الاحتلال كملاذ أو أن يهاجر المستوطنون إلى الخارج أو يحدث كلامها، قبل أن ينفجر الوضع داخليا وخارجيا إلى مسار كارثي.
وشدد على أن، "إسرائيل"، تعيش أزمة سياسية وأخلاقية عميقة، بسبب فساد قيادتها وانقسامها الداخلي، ما يضعف تماسكها ويهدد مستقبلها.
وفيما يلي النص الكامل للمقال:
في البيان الذي كتبه قاتل الأطفال من مينيابوليس، ذكر أن هدفه الأول المفضل هو “اليهود الصهاينة”. مثل هؤلاء اليهود يشكلون نقطة التقاء نادرة بين اليمين المتطرف في الولايات المتحدة واليسار الراديكالي؛ إذ يعتبرهم كلا الطرفين العدو الأول.
سلّطت وسائل الإعلام الإسرائيلية هذا الأسبوع الضوء على اتجاه مقلق يتمثل في تزايد شعور النفور لدى الجمهوريين الشباب تجاه إسرائيل. وفي سياق آخر، قامت أستراليا بطرد السفير الإيراني قبل عشرة أيام، بعد أن أشارت معلومات استخباراتية إلى تورّط طهران في هجمات معادية للسامية داخل البلاد.
في ألمانيا، واجه بعض الأفراد من الجالية اليهودية مضايقات بعد أن قاموا بتعليق صور للرهائن. كما سُجّلت حوادث مشابهة في عدة مناطق أوروبية خلال الفترة الأخيرة. وفي كندا، تعرضت سيدة مسنّة لاعتداء، واعتُبر الحادث مرتبطًا بخلفيات معادية للسامية.
في القدس، تجنّب مجلس الوزراء مناقشة قضية الرهائن في غزة، فيما سارع الوزراء لحضور مأدبة احتفالية نظّمها مجلس مستوطنة بنيامين في أحد المطاعم. وفي المقابل، كرّست الحكومة جهودها لتسهيل السفر إلى مدينة أومان، ما يعني أن إسرائيل ستدفع الآن ما يُعرف بـ”ضريبة اليهود” لمولدوفا مقابل المرور الآمن. وفي ظل الحرب، يسافر المتهربون من الخدمة العسكرية من الحريديم إلى الخارج دون أي عوائق.
وتلقى ثلاثة من الأصدقاء أوامر استدعاء احتياطي طارئة ضمن جولة التعبئة السادسة القادمة. وقد أخبرني أحدهم أنه لا يعرف كيف يُخبر زوجته؛ إذ يحمل سره في قلبه أينما ذهب، ويتألّم بحثًا عن اللحظة المناسبة للكشف عنه.
أيضًا هذا الأسبوع، واصل رئيس الوزراء نتنياهو الصدام مع المؤسسة الدفاعية المنهكة، التي تصر مرارًا وتكرارًا على الحاجة إلى وقف إطلاق النار وإبرام صفقة للرهائن في غزة؛ فيما يهدد حلفاؤه – بتهديد فارغ ولكنه خطير – بتعيين رئيس أركان فوق رئيس الأركان. وعلى الصعيد الدولي، استمرت الأزمة الدبلوماسية التي تواجهها إسرائيل؛ فمن المملكة المتحدة إلى فرنسا وتركيا، تلقّت الحكومة الإسرائيلية سلسلة من العقوبات والتهديدات.
تشير هذه الأحداث إلى مسار أوسع يمر به اليهود اليوم، سواء في الشتات أو داخل إسرائيل. ففي مختلف الأماكن، تتعدد مصادر القلق والمخاطر، وتأتي أحيانًا من الخارج وأحيانًا من الداخل.
ورغم أن طبيعة هذه التحديات تختلف من بلد إلى آخر، يبقى الشعور العام بالقلق حاضرًا بين اليهود، سواء في باريس أو تل أبيب أو نيويورك. ولم تكن الحرب في غزة سببًا مباشرًا لظهور هذه المخاوف، لكنها أسهمت في تسريع وتيرتها وزيادة وضوحها. كما أن تحولات أخرى، مثل تطور وسائل التواصل الاجتماعي، وانتشار التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، وتصاعد الشعبوية والقومية، تساهم بدورها في تشكيل هذا الواقع.
إن الكارثة لم تحل بعد، لكن الخطر يترصّد من قريب.
لنبدأ بالشتات؛ حيث يحضر في الذهن خطاب دان سِينور حول وضع الشعب اليهودي، والذي استهله بكلمات مأخوذة من أغنية معادية للسامية أطلقها كانييه ويست مؤخرًا، وهي كلمات كانت لتبدو غير مفهومة أو حتى غير قابلة للتصديق قبل عقد من الزمن.
وجد اليهود خارج إسرائيل أنفسهم محاصرين داخل مثلث من النفور والتحامل. أحد أضلاع هذا المثلث هو الكلاسيكي: التطرف اليميني المعادي للسامية، وقد ازدهر اليمين المتطرف منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008. في ذلك العام، أجريت مقابلة مع زعيم الحزب القومي البريطاني، وهو من منكري الهولوكوست؛ وقد توقّع حينها، وبشكل صحيح، أنه “عندما تفرغ الثلاجات، سيزداد الدعم لليمين المتطرف”. صحيح أن بعض الحركات اليمينية المتطرفة تحاول النأي بنفسها عن معاداة السامية التقليدية، لكن هذه تبقى استثناءات. فالبنية الأيديولوجية للسياسات القومية المتشددة ما زالت تنظر إلى اليهودي على أنه “الآخر” المطلق. ولا شك أن العقد الأخير كان الأنسب لصعود اليمين المتطرف عالميًا منذ ثلاثينيات القرن الماضي.
جانب آخر من التحديات يرتبط بتيارات أصولية داخل بعض الأوساط الإسلامية المتشددة، حيث يُنظر إلى اليهود (وأحيانًا المسيحيين أيضًا) من منظور ديني متشدد. وفي هذا السياق، تُربط باليهود اتهامات خاصة، من أبرزها ارتباطهم المُتصوَّر بدعم إسرائيل. كما أن تنامي بعض مظاهر التطرف داخل مجتمعات مهاجرة في أوروبا وفّر بيئة لخطابات أو ممارسات سلبية تستهدف اليهود.
والضلع الثالث يتمثل في اليسار الراديكالي، والذي على خلاف الضلعين الآخرين، لا يرفض وجود اليهود بشكل عقائدي. لكن الصهيونية، التي تُعد السمة المميزة لهوية اليهود الحديثة، تُنظر إليها باعتبارها خطيئة لا تُغتفر. وهذا لا يقتصر على معارضة فكرة الدولة اليهودية في أرض إسرائيل، بل يمتد إلى رفض الطبيعة المزدوجة للوجود اليهودي: كقومية ودين في آنٍ واحد.
أصبحت فكرة أن اليهود يشكّلون أمة ويملكون حق تقرير المصير غير مشروعة في نظر اليسار الراديكالي، سواء من غير اليهود أو حتى من بعض اليهود أنفسهم. فالأشخاص الذين يرون في كل قومية شكلاً من أشكال الفاشية يجدون صعوبة خاصة في تقبّل أحدث المنضمّين إلى “نادي الدول القومية”: اليهود. وبموجب منطق “الخطيئة الأصلية” لوجود إسرائيل، أي النكبة، فإن أي دعم يهودي لإسرائيل يُجرّمهم ويُجرّم مجتمعاتهم بكل الاتهامات الممكنة؛ من الفصل العنصري إلى التطهير العرقي وصولًا إلى الإبادة الجماعية. وقد تبنّى اليسار الراديكالي موقفًا مفاده أن إسرائيل، دون غيرها، لا تملك الحق في الوجود بسبب ما يُنسب إليها من خطايا.
يمكن النظر إلى ما يواجهه اليهود في الشتات من خلال ما يشبه مثلثًا متعدد الأوجه، يختلف تأثير كل ضلع منه بحسب المكان. ففي بعض الدول، يظهر التيار اليساري الراديكالي باعتباره مصدر القلق الأبرز. أما في فرنسا، فتتركز المخاوف على احتمالية وقوع هجمات عنيفة تحمل طابعًا دينيًا متشددًا. وفي الولايات المتحدة، يبرز صعود بعض التيارات اليمينية الشعبوية التي تتداخل أحيانًا مع خطاب متطرف ذي طابع معادٍ للسامية، وقد طُرحت أسماء بارزة في هذا السياق مثل كانديس أوينز.
في جميع الأحوال – وهذه نقطة محورية – لم تعد أضلاع مثلث النفور منفصلة عن بعضها، وهذا هو التطور الجوهري الذي ساهمت فيه حرب غزة؛ فاليمين المتطرف في أمريكا بات يُظهر فجأة “تعاطفًا” مع الفلسطينيين، بينما يحتفظ في الواقع بنفس النظرة العنصرية البيضاء تجاههم، فقط ليستغل ذلك في انتقاد إسرائيل واليهود. أما أجزاء من اليسار التقدمي، فقد أصبحت مستعدة لتبنّي روايات مناهضة للاستعمار مصدرها الجزيرة وقطر وحماس، وهي جهات تدافع إما عن أنظمة ديكتاتورية أو تروّج لثيوقراطيات شمولية. وهذه الأضلاع الثلاثة باتت تلتقي الآن عند نقطة إجماع نادرة، وهي: رفض إسرائيل، والنتيجة هي خليط مشحون من التحامل.
إن استمرار الحرب في غزة، والتضامن حول قضية المحتجزين، والقيمة اليهودية التي تقول إن “كل إسرائيلي مسؤول عن الآخر”، إلى جانب الأذى الواضح الذي يلحق بالمدنيين الأبرياء في غزة، كلها عوامل تضع المجتمعات اليهودية في الشتات أمام مأزق لا يمكن تجاوزه. فالغالبية ترغب، وتشعر بأنها ملزمة، بدعم إسرائيل، لكن هذا الدعم لا يؤدي إلا إلى تشديد طوق النفور من حولهم.
إن العديد من هذه التطورات تنبع من اتجاهات اجتماعية محلية لا علاقة لها باليهود، فبينما يعود بعضها الآخر إلى قرارات متهورة اتخذتها الحكومة الإسرائيلية، وتراجع شعبية إسرائيل عالميًا، بالإضافة إلى ترسّخ معاداة السامية. وهذا المثلث من النفور لم يعد محصورًا في الأطراف المتطرفة، بل بدأ يتسرّب إلى التيار الرئيسي، مما يزيد من تعريض اليهود للخطر. وباتت برامج البودكاست الشهيرة تُفسح المجال أمام “مؤرخين زائفين” يعيدون طرح إنكار الهولوكوست تحت مسمّى “المراجعة التاريخية”، وهؤلاء لا يسعون إلا إلى استغلال موجة الرفض الشعبية المتنامية ضد اليهود، والتي أصبحت الآن أكثر شرعية.
الحياة اليومية مستمرة، لكنها تتأثر بالظروف المحيطة. فالأسر التي ترسل أبناءها إلى المدارس اليهودية تبدي شيئًا من القلق، والمصلون في الكُنُس يلاحظون حضورًا أمنيًا أوضح. كما أن النقاشات السياسية حول إسرائيل أو الحرب في غزة أضفت قدرًا من الحساسية على المشهد العام، ما يشير إلى تغير ملموس في تفاصيل الحياة اليومية.
هذا ما حدث خلال الأزمة الكبرى التي واجهها الشعب اليهودي قبل الهولوكوست، عقب اغتيال القيصر ألكسندر الثاني في روسيا. فقد أعقب ذلك موجة من المذابح والتشريعات العنصرية، إلى جانب ترويج افتراء دموي يتّهم اليهود زورًا بالتورط في عملية الاغتيال، مما ولّد شعورًا حادًا بالخطر العميق لدى يهود أوروبا الشرقية. وقد أدّت هذه الأحداث إلى موجة هجرة غير مسبوقة، وأسّست لبدايات الفكر الصهيوني. واستنتج بينسكر أن الشعب اليهودي لن يكون “طبيعيًا” في المنفى، وأن عليه أن يتحرّر في نهاية المطاف داخل دولة خاصة به. ومع ذلك، فإن الخيار الذي لجأ إليه معظم اليهود كان أمريكا.
كان ذلك هو المفترق السابق، وقد دارت حوله مناقشة كبرى: أرض إسرائيل أم أمريكا؟ لكن في النقطة الجوهرية، كان هناك إجماع: اليهود كانوا مرفوضين، وكان عليهم أن يختاروا. وكما جاء في كلمات محرر صحيفة “هَيوم” في يناير/ كانون الثاني 1886 (نقلًا عن الدكتورة نعومي فريدمان): “نحن جميعًا مسؤولون عن بعضنا البعض، نحن جميعًا مكروهون ومحتقرون ومُهانون. فما الذي ينبغي أن يُفرّق بين قلوبنا؟ أهو لأن أحدنا يرغب في الاستيطان بأرض إسرائيل، بينما يرسل الآخر قريبه الفقير إلى بلاد أمريكا؟”.
قد نكون مرة أخرى عند مفترق طرق، ومن الناحية النظرية، فإن الحل جاهز سلفًا؛ فقد أُسست إسرائيل لتكون ملاذًا، أو الملجأ النهائي؛ أي ذلك “التحرّر الذاتي” الذي تصوّره ليون بينسكر.
غير أنه حتى داخل إسرائيل؛ لم يعد الوجود اليهودي بمنأى عن الخطر، فبعيدًا عن الجدل الداخلي، يحيط باليهود في الشرق الأوسط محيطٌ من العداء لا يقتصر على المواقف السياسية، بل يمتد إلى رفض وجودهم ذاته. وقد أثبتت أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول بشكل قاطع أن التيارات الأصولية في المنطقة تؤمن حقًا بإمكانية القضاء على إسرائيل، وقتل سكانها، وطرد من يبقى منهم.
لقد أعلنت جماعة الإخوان المسلمين والقوى الشيعية المتطرفة عن هذا الموقف بشكل علني منذ سنوات. وعلى الرغم من الضربات القاسية التي وجّهتها إسرائيل لها خلال الحرب، فإن هذه القوى لا تزال تحظى بشعبية واسعة في العالمين العربي والإسلامي.
لقد قوّضت حرب غزة آفاق المصالحة، إذ سمّمت صور الركام وموت المدنيين إمكانية تحقيق السلام. وهذا، إلى حد ما، كان الهدف الدقيق لحركة حماس: تقويض أي فرصة لحلّ سياسي، وإعادة إشعال شعلة الجهاد، هذا ما كان يسميه يحيى السنوار “مشروعه العظيم”.
نصف الإسرائيليين يُخبرون منظمي استطلاعات الرأي الآن أنهم يعتقدون أن وجود دولتهم بات في خطر جسيم، وذلك رغم أن إسرائيل قد قضت على القيادات العسكرية العليا في كلٍّ من إيران وحماس وحزب الله.
صحيح أن التهديد لوجود إسرائيل ليس جديدًا؛ فهو يلاحق الدولة منذ تأسيسها، لكن في العقود الأخيرة، أضيف إلى هذا التهديد عنصر سام جديد: سياسات فاسدة وقبلية وقمعية، وقبل كل شيء، غير مسؤولة.
حسب استطلاعات الرأي، أكثر ما يريده الإسرائيليون من قادتهم هو تحمل المسؤولية، لكن الحكومة تتنصل منها بشكل مستمر. فهي تتنصل من المسؤولية عن هجمات 7 أكتوبر/ تشرين الأول، الذي وُصف بأنه أخطر كارثة على اليهود منذ المحرقة. كما يريدون من قادتهم تحمل مسؤولية الفساد الذي بلغ مستويات غير مسبوقة؛ حيث يتلقون أموالًا من دولة معادية خلال فترة الحرب، وتحويلها مباشرة إلى مقرّبين من نتنياهو، كما كشفت تحقيقات قطر. بالإضافة إلى محاولة إسكات المعارضين، في حين أن النقد الذاتي لطالما كان فضيلة أساسية في الثقافة اليهودية، وركيزة من ركائز الديمقراطية. ويعتبر الكثير أن التظاهرات والصحافة الحرة علامة على المجتمع الإسرائيلي لا يزال نابضًا بالحياة. ومع ذلك، فإن النخبة الحاكمة تواصل تمرير القوانين واتخاذ الإجراءات التي تهدف إلى قمع المعارضة: من خلال تهديد الإعلام المستقل وإصدار أوامر للشرطة بقمع المعارضين بالقوة.
غالبًا ما يُعامل الوضوح الأخلاقي على أنه خيانة. وبذلك، جرى تحطيم أداة أساسية اعتمدت عليها الدولة اليهودية منذ تأسيسها، لصالح ولاء أقرب إلى الطابع الطائفي. ويشعر العديد من أعضاء الكنيست في الائتلاف بالاشمئزاز من قوانين التهرّب من الخدمة العسكرية الخاصة بالحريديم، لكنهم لا يتبعون ضمائرهم؛ بل يلتزمون بإملاءات أرييه درعي وموشيه غافني وبنيامين نتنياهو، لماذا؟ لأنهم يعلمون أن “الخيانة” – أي رفض التهرّب من الخدمة العسكرية في زمن الحرب – ستؤدي إلى سحقهم سياسيًا على يد الحزب الحاكم.
وفي عام 1948، عندما كتب أبرز كاتب وصحفي وشاعر في إسرائيل إلى دافيد بن غوريون بشأن مزاعم بارتكاب جرائم حرب، أمر رئيس الوزراء بنشر رسالته بين جميع الجنود الذين كانوا يخوضون حينها أكثر الحروب دمارًا ووجودية في تاريخ البلاد. أما في عام 2025، فعلى النقيض، عندما يثير مثقفون أو صحفيون شبهات حول جرائم حرب في غزة، يُوصَمون فورًا من قبل الطبقات الحاكمة بأنهم خونة محتملون أو متعاطفون مع حماس ومن أنصار العالم الثالث.
تعيش إسرائيل في ظل تناقض عميق، فهي تُعد معجزة من حي المجتمع والاقتصاد وروح الابتكار ذات القدرات الاستثنائية. لكن سياستها، ولا سيما داخل الائتلاف الحاكم، تشبه سياسات دول العالم الثالث. وكما يوضح البروفيسور دان بن دافيد من جامعة تل أبيب في رسومه البيانية القاتمة، فإن سيناريو التحوّل إلى دولة من العالم الثالث بات ممكنًا تمامًا في المستقبل القريب، وذلك أيضًا بسبب غياب التعليم الأساسي لدى المجتمع الحريدي، الذي يُعد الأسرع نموًا في إسرائيل. ويؤكد بن دافيد أن إسرائيل لا يمكنها الحفاظ على اقتصاد من طراز العالم الأول أو على جيش مثل الجيش الإسرائيلي في ظل هذه الظروف. فهي تعتمد على نحو 300,000 شخص من أصحاب الكفاءات العالية في مجالات التكنولوجيا المتقدمة والطب والأوساط الأكاديمية، والدفاع. وإذا بدأ هؤلاء في مغادرة البلاد بشكل جماعي، فإنه يُحذّر من أن دوامة الانهيار ستكون خارج السيطرة.
وتُظهر بياناته أن هذه الظاهرة تعود إلى العقود الماضية: ففي عام 1970، كان معدل كثافة المركبات في إسرائيل شبه مماثل لمعدله في أوروبا الغربية. أما اليوم، فقد أصبح أعلى بـ 3.4 مرات، رغم أن العدد الإجمالي للسيارات أقل. ويُعد التعليم الإسرائيلي في المواد الأساسية الأدنى بين دول العالم المتقدم، حتى دون احتساب الحريديم الذين رفضوا، حتى وقت قريب، السماح للدولة بمتابعة التعليم الابتدائي لتلاميذهم. وهذه لمحات موجزة فقط من مجموعة ضخمة من البيانات.
وكان العقد التأسيسي للمجتمع الإسرائيلي يقوم على بناء دولة في ظروف بالغة القسوة، وسط منطقة معادية، ولكن على أساس من المسؤولية المتبادلة، والخدمات الاجتماعية، والسعي إلى إنشاء مجتمع نموذجي. وقد تم انتهاك هذا العقد، كما يتجلّى في صرخات أهالي المحتجزين الذين يشعرون بأن حكومتهم قد تخلّت عنهم. سيجيب الكثيرون بتوجيه الأنظار إلى أخطاء حماس، لكن هذا يُغفل جوهر المسألة: فالطبقة السياسية الحاكمة، التي تتربع على السلطة منذ عقود، لم تثبت جدارتها بالمسؤولية، ولم تنجح في ترسيخ الوحدة الوطنية خلال أسوأ حرب تمرّ بها إسرائيل حتى الآن.
وفوق كل ذلك تلوح أزمة أخلاقية، فلا يزال الإسرائيليون يسمحون لبقاء حكومة 2023 الفاشلة في السلطة، ويواصل أعضاء الكنيست منحها الثقة. وفي الوقت نفسه، تتورط إسرائيل بشكل أعمق في حرب دموية في غزة، بينما يردد جزء من جمهورها وقيادتها شعارات مثل: “لا يوجد أبرياء” في القطاع. ولا توجد فترة توقف كافية، ولا مراجعة ذاتية، ولا مساءلة حقيقية ومؤلمة – لا مع قادتها الفاسدين، ولا مع الضحايا المدنيين في غزة الذين يعانون. ولا يُقصد من ذلك بأي شكل إعفاء حماس من مسؤوليتها الشاملة عن الحرب أو الدمار في غزة.
وهكذا، نصل إلى مفترق الطرق. ففي الشتات، يواجه الوجود اليهودي تهديدًا نتيجة العمليات الجارية في المجتمعات غير اليهودية المحيطة. أما في إسرائيل، فيتعرض الوجود اليهودي للخطر بفعل المنطقة نفسها وبسبب القيادة السياسية الإسرائيلية.
إنه مفترق طرق وسباق في آنٍ واحد: أيّ من الأزمتين سيبلغ نقطة الانفجار أولًا؟ ففي نهاية المطاف، يمكن التنبؤ بأن أحد المسارين سيتحقق، إما أن يتدفّق يهود الشتات نحو إسرائيل، أو أن يتدفق يهود إسرائيل إلى الشتات.
في الواقع، يمكن أن يحدث الأمران في آنٍ واحد. ففي أنحاء العالم اليهودي، تُظهر المجتمعات الأرثوذكسية الحديثة تزايدًا في الهجرة إلى إسرائيل؛ وهو أمر طبيعي في ظل مثلث الكراهية الذي بات يحيط بكل من يُعرّف نفسه كيهودي. وفي المقابل، يزداد عدد الإسرائيليين العلمانيين الذين يتساءلون عمّا إذا كان بإمكانهم الوثوق بحكومات تُعفي حلفاءها من الخدمة العسكرية، بينما تطالب أبناءهم بالقتال والموت.
ومن الممكن بالتأكيد أن تمرّ العاصفة المعادية للسامية، كما يمرّ الإعصار مخلفًا وراءه دمارًا واسعًا، وذلك بعد انتهاء الحرب. وربما تتجاوز إسرائيل حالة الظلام السياسي الراهنة، وتلتزم بإجراء إصلاحات جوهرية.
ولكن ما الذي سيأتي أولًا – تحوّل إيجابي، أم كارثي، أم كلاهما معًا؟
في القرن التاسع عشر، كان أمام اليهود وجهتان أساسيتان للهجرة: أرض إسرائيل أو الولايات المتحدة. أما اليوم، فيرى كثيرون أن الخيارات أصبحت أقل، وأن إظهار الهوية اليهودية في بعض الأماكن قد يرتبط بتحديات.
وفي إسرائيل، يتداول البعض تساؤلات حول جدوى العيش في عالم تزداد فيه النزعات القومية والشعبوية والعنصرية، ويرون أن دولتهم قد تشكّل إطارًا يوفر لهم اللغة المشتركة والقدرة على بناء مجتمع يمتلك مقوماته الخاصة.
سيردّ آخرون – حتى من داخل إسرائيل – بأن كل شيء قد فُقد بالفعل، وأن الأمل لم يعد هنا، بل في مكان آخر. وهذا أيضًا جزء من الجدل اليهودي المستمر.
هذا هو السباق الحاسم. ومن المنظور الإسرائيلي، وبصفتي إسرائيليًا، يمثل أيضًا فرصة نادرة للإصلاح العاجل قبل وقوع كارثة أكبر، ولإعادة بناء الوطن الذي لطخته مظاهر الفساد والغطرسة واللامبالاة تجاه الضعفاء. ففي الشتات، يواجه اليهود قوى خارج إرادتهم، أما في إسرائيل؛ فلا يزال لديهم القدرة على تحديد مصيرهم بأنفسهم. ولا يوجد أي مجال للتردد في هذه اللحظة.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة صحافة عربية صحافة إسرائيلية الاحتلال اليهود غزة العالمية غزة الاحتلال يهود العالم صحافة صحافة صحافة سياسة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة من الخدمة العسکریة معادیة للسامیة أن إسرائیل فی إسرائیل حرب فی غزة فی الشتات التی ت أما فی جمیع ا
إقرأ أيضاً:
صدمة الإبادة التي تغيّر العالم.. إذا صَمَت الناس فلن يبقى أحد في أمان
في 25 فبراير/شباط 2024، وبعد أشهر قليلة على بدء العمليات الوحشية لجيش الاحتلال في قطاع غزة، الجندي القوات الجوية الأميركية آرون بوشنِل (25 عاما) أمام سفارة إسرائيل في واشنطن بالولايات المتحدة، وأشعل النار في نفسه، احتجاجا على تواطؤ بلاده وجيشه الصريح مع الإبادة الجارية في غزة، وصرخ "فلسطين حرة" حتى فارق الحياة.
لم يكن بوشنِل الوحيدَ الذي لم يحتمل وطأة الإبادة في غزة، رغم أنها تبعد عنه آلاف الأميال.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الرئيس الذي دعا لتحرير فلسطين عبر جيش دوليlist 2 of 2لماذا يريد بلير "الأبيض" حكم غزة؟end of listففي أكتوبر/تشرين الأول 2023، وبعد قرار تسليح إسرائيل المفتوح من قبل إدارة بايدن، قال المسؤول الأميركي جوش بول، المدير السابق للشؤون العامة والتشريعية بهيئة الشأن العسكري-السياسي في وزارة الخارجية الأميركية، في خطاب على "لينكد إن": "لقد تنازلت عن معاييري الأخلاقية في هذا المنصب مرات لا حصر لها.. وعاهدت نفسي دوما أن أبقى طالما أن الضرر أقل من الفائدة التي أحققها.. لكنني أرحل اليوم لأنني أعتقد أن مسارنا الحالي.. جعلني أصل إلى نهاية تلك المعادلة".
في يوليو/تموز 2024، لحق به المسؤول بوزارة الخارجية الأميركية، مايكل كيسي.. "لقد سئمت الكتابة عن القتلى من الأطفال.. وأن أبذل جهدا باستمرار كي أثبت لواشنطن أن هؤلاء الأطفال ماتوا بالفعل.. كلما ازداد علمك بتلك القضية، واجهتك حقيقة لا مفر منها وهي أن الوضع سيئ للغاية".. هكذا صرّح كيسي في حوار مع صحيفة الغارديان البريطانية.
على حد وصفه، بدأ بعض زملائه يمزح حول عدم جدوى التقارير في التأثير على صناع القرار في واشنطن، الذين فضّلوا دوما الانحياز إلى السردية الإسرائيلية، قائلا إنه لا أحد في الإدارة يقرأ تقاريره ولو وضع فيها نقودا هدية.
منذ بدء طوفان الأقصى قبل عامين، تباينت ردود الأفعال في أنحاء العالم بين التضامن والصمت والتضييق، وظهر بون شاسع بين التعاطف مع الفلسطينيين في الشارع وبين الرغبة في التضييق على الحقائق وعلى أي محاولة للتضامن من جهة الحكومات الغربية، مما دفع بعض المسؤولين -مثل كيسي وبول- إلى تغليب بوصلتهم الأخلاقية على منصبهم الرسمي.
إعلانوقد جرى الحديث لفترة في الأسابيع الأولى حول "تناسُب" رد الاحتلال على العملية الفلسطينية، لكن مع استمرار الحرب على غزة اتسعت دائرة المتابعين والمهتمين حول العالم، وتغيّرت القناعات واتجاهات الرأي العام لما شكّله الحدث من اختبار حقيقي للأخلاقيات والقيم والمواقف السياسية التي يعتنقها الكثيرون في المجتمعات الغربية، بالإضافة للاختبار الحقيقي الذي مثّلته هذه الحرب للقوانين الدولية التي تدّعي الحكومات التمسك بها.
بعد مرور شهور، وتأمُّل التأثير الواسع للطوفان، يمكن القول إن صدمة عميقة أصابت الشعوب حول العالم إزاء ما يحدث في غزة من إبادة يومية. فمنذ بداية الطوفان، بدأ كثيرون يكتشفون أن رد الفعل الإنساني الطبيعي تجاه ما يحدث للفلسطينيين -وهو التعاطف والتضامن معهم- غير مقبول أو مسموح به من قبل كثير من الحكومات حول العالم.
وتعزَّز ذلك الشعور حين توالت فصول الحرب على غزة، وازدادت بشاعتها بحيث لم يَعُد يمكن الدفاع عنها أو التبرير لها بوصفها "ردا" على عملية 7 أكتوبر. وفي خضم هذا الواقع، أدركت الكثير من الشعوب أننا في نظام دولي يسمح بارتكاب إبادة جماعية على الهواء، ولا يسمح حتى بالتضامن مع المظلومين.
قبل أن ينقضي شهر واحد على طوفان الأقصى، وأمام قتل الاحتلال آلاف الأشخاص في غزة، بدأت المظاهرات تَعُم العواصم الأوروبية والعالمية، في اليابان والنرويج وهولندا وبريطانيا وألمانيا ودول أخرى عديدة، حيث خرج مؤيدو القضية الفلسطينية مطالبين بوقف إطلاق النار في غزة، لكنها لم تمض بسلام. ففي دول كثيرة رفعت الشرطة استعدادها واعتقلت عددا من النشطاء، وتعرّض المتضامنون مع القضية الفلسطينية لمشكلات قانونية.
بدا إذن أن الحكومات الغربية اتحدت في الانحياز السياسي إلى الاحتلال، فقيّدت عدة دول الاحتجاج من أجل فلسطين، واستهدفت الأعلام الفلسطينية. وفي الولايات المتحدة تعرّض كثير من المتضامنين للطرد من وظائفهم وإلغاء عقودهم.
ومع اتساع دائرة الحرب، ودائرة المعرفة بها أيضا وبالقضية الفلسطينية في شتى أنحاء العالم، توالت صور الإبادة والتهجير القسري والمجاعة، وطاردت المشاهدين حول العالم بشكل لا يمكن تجنبه.
بعد عامين من طوفان الأقصى، وبعدما جرت المذابح بالبث الحي والمباشر ودُمِّرت البنية التحتية وانهار النظام الصحي وتلوثت المياه وقُصِفت المساعدات الإنسانية والساعون إليها، ومع مشاهد التهجير وإجبار العائلات على النزوح عدة مرات داخل الأرض المحاصرة بالجوع والجفاف، فإن أكثر ما اتضح للمتابعين حول العالم لم يكُن تجاوز الحد فيما يتعلق بارتكاب الجرائم الإنسانية، وإنما تجاوز الحد في الإفلات من العقاب.
تشير المتخصصة في شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إيتشاسو دومينغيث، إلى أنه بعد شهور من النقاش حول مدى تناسب القصف مع الطوفان، يبدو أن المجتمع الدولي اليوم أصبح مستعدا للاعتراف بالانهيار.
إعلانولكن دومينغيث تلتقط أيضا ذلك التحوّل الخطابي الذي جرى في هذه الحرب، والذي يميل إلى إدانة الكارثة الإنسانية في غزة دون النظر إلى الجانب السياسي والعسكري منها، فيُكرِّم الضحايا دون تسمية المسؤولين عن الجريمة، وقد أشارت إلى تداول عدد من وسائل الإعلام لصورة طفل جائع مثلا مع تجاهل صورة الجندي الذي يمنع قافلة المساعدات، أو صورة الساسة الذين اتخذوا قرارات الحرب، وهو استبعاد ليس بريئا على حد وصفها، وينطوي على منطق يُتيح للإبادة أن تتكرّر وللمجرم أن يُفلت من جرمه.
على الهواء مباشرةهذا التدفق المستمر للأخبار والصور التي توثق المذابح، يواجه شعوبَ العالم بصور صادمة للإبادة الجماعية في غزة. ففي ورقة بحثية نشرتها مجلة "إنترناشيونال جورنال أوف مانجمنت" عام 2024، يستكشف الدكتور محمد بوحجي الأضرار والجروح النفسية والعاطفية للمتابعين لمسار الحرب والمعاناة الإنسانية في غزة، ويشير إلى أن متابعة مشاهد الحرب عمّقت الشعور بالعجز والخيانة والذنب والعار، وسبّبت جروحا نفسية في المجتمعات أمام إدراك المتابعين لحجم المعاناة وحجم التواطؤ الذي أدى إلى حدوثها.
وقد عاش البعض أعراض ما بعد الصدمة (PTSD) بسبب التعرض المتكرر والمستمر لهذه الأحداث، وتجلَّت أعراضها في تقلُّب المزاج والقلق والاكتئاب واضطرابات النوم. هذا بخلاف تراكم طبقات من مشاعر الغضب والأسى لدى من يشاهدون الإبادة، مما يجعل أي سلوك طبيعي يعتاد المرء على القيام به في يومه بمثابة "خيانة" لدماء الشهداء ولمعاناة أهل غزة.
في العصر الرقمي حيث تُنتج المواد البصرية بسهولة، وتتعدّد مصادر الصور من الصحفيين ووسائل الإعلام التقليدية ومن السكان المدنيين في قلب الصراع، ومع التعرّض المتكرر لكل ذلك؛ يمكن أن يحدث ما يُعرف بإرهاق التعاطف (Compassion Fatigue) الذي ينشأ عن مشاهدة مكثفة للألم، فيتحوّل إلى نوع من الخدر العاطفي، ومن ثمّ تنخفض الاستجابة العاطفية مع كل مأساة جديدة نتعرض لها.
ومع ذلك، فإن ما يبدو تبلُّدا عاطفيا ليس شعورا نهائيا، بل محطة قد نمُر بها في الصراعات الطويلة. فما يحدث هو أن صورا أخرى سرعان ما تخترق هذا الحاجز العاطفي، فيتجدد التأثير ويتحرّك الشعور بالغضب، لذا فالحرب لا تتوقف عن إيلامنا ولا تُفقدنا إنسانيتنا كما يبدو لأول وهلة.
لذلك، يمكننا اليوم أن نضيف إلى تعداد ضحايا الحرب على غزة؛ آخرين لم يكونوا في القطاع من شعوب العالم التي تابعت العدوان والإبادة، وتعرّضت لما يُعرف باسم "الجرح الأخلاقي". ويشير هذا المصطلح إلى الصدمة النفسية التي يتعرض لها الجنود بسبب عدم قدرتهم على التوفيق بين قيمهم الأخلاقية وما يرتكبونه من أفعال غير أخلاقية مثل التعذيب أو القتل، والذي يظهر في معدلات مرتفعة من الاكتئاب والانتحار لدى المحاربين القدامى.
لكن الجرح الأخلاقي اليوم يُمكن أن يكون أثرا مُحتملا لمشاهدة الفظائع التي يرتكبها آخرون دون الانخراط في القتال، فهو استجابة إنسانية عميقة للأحداث التي تنتهك الأخلاقيات الراسخة، وتُسبّب جُرحا في الروح والضمير، سواء لدى من ارتكب تلك الأفعال أو حتى لدى من شهدها ولم يمتلك القدرة على وقفها.
وبخلاف اضطراب ما بعد الصدمة الذي يقوم على الشعور بالخوف، فإن الجرح الأخلاقي ينشأ من مشاعر الذنب والعار والغضب، ومن أزمة عميقة في المعنى. إنها أزمة يواجهها اليوم متابعو الحرب، وتتسع دائرة المصابين بهذا الشعور حول العالم بسبب قناعاتهم بأنهم لم يفعلوا ما يكفي لوقف الإبادة في غزة. كما ينطوي هذا الجرح الأخلاقي على شعور بالخيانة من سلطات كان يُفترَض أن تكون جديرة بالثقة أو على الأقل أن تفعل شيئا لوقف هذه الحرب، ويمكن لهذا الجرح أن يصيب الأطباء والممرضين والصحفيين وغيرهم حين يشعرون بالعجز عن احتمال معاناة البشر.
إعلانتُرسّخ مشاهد وصور الإبادة، وحقيقة استمرار الحرب، الاعتقاد بأن العالم مكان بشع ومخيف وغير إنساني، وأن الشر يُمكن أن يتغلّب في النهاية، مما يرسخ شعور الشعوب بأنها "مشلولة" وغير قادرة على الفعل الجماعي لمواجهة ما هو إجرامي وغير إنساني.
كما يزداد هذا الجرج الأخلاقي لدى مواطني بعض الدول التي تقدم مساعدات عسكرية للاحتلال بسبب شعورهم بأنهم متواطئون كدافعي ضرائب، وكذلك بسبب فشل المؤسسات الدولية في وقف شلال الدماء، ما يتسبب في الشعور بانهيار الثقة بالنظام الأخلاقي العالمي.
إن الشعور بأن ظلما جسيما يقع بلا عواقب يولّد إحباطا عميقا، فهو خرق لما تعهّدت الإنسانية بعدم تكراره عقب الحرب العالمية الثانية، وتعود خصوصية التأثير العالمي في حرب غزة بسبب كونها أول إبادة جماعية تُبَث فصولها على الهواء مباشرة، بحيث لا يمكن لمشاهدي الأخبار ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي تجنبها أو تجاهل وجودها.
"القيد في أيدينا"يمكن القول إن الادعاءات الأخلاقية الأوروبية فقدت مصداقيتها مبكرا بعد حروب العراق وأفغانستان و"الحرب على الإرهاب".
واليوم بينما يمارس الاحتلال الإسرائيلي معدلات غير مسبوقة من العنف، تتابع شعوب العالم الحر وخاصة شعوب دول الجنوب العالمي وفي ذاكرتها العبارة الشهيرة التي قالها نيلسون مانديلا: "إن حريتنا لا تكتمل دون حرية الفلسطينيين"، والتي لا تعتبر تضامنا فقط، بل عبارة تحليلية تشير إلى أن الإمبريالية ستستمر في تقييد شعوب دول الجنوب طالما أن بإمكانها حرمان الفلسطينيين من حقوقهم على هذا النحو.
ولكن الأمر يمتد إلى الشمال ذاته أيضا، كما أشار السياسي البريطاني جيمس شنايدر في مقال له، فالسعي كي يتحقّق التحرر الوطني للشعب الفلسطيني بقدر ما يُحارب الإمبريالية في الخارج، فإنه يُرسِّخ أيضا الاستقلال والديمقراطية في الداخل بالنسبة للدول المتقدمة التي انتفضت شعوبها للدفاع عن غزة، ولهذا السبب يؤكد شنايدر "لسنا أحرارا حقا حتى تصبح فلسطين حرة".
في ورقة نشرتها مجلة "بابليك أنثروبولوجيست" في مايو/أيار الماضي بعنوان "فلسطين منهجا"، أوضحت الكاتبة آنا إيفاسيوك كيف تابع العالم بذهول العنف الإبادي الذي شنَّه الكيان الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، وسجَّلت بداية ملاحظاتها بالقول إنه لا يمكن لأحد أن يدَّعي أنه لا يعلم عن الإبادة الجارية، في وقت يُدرِك فيه المتابعون أن ما يحدث على الأرض يفوق ما تنقله الصور والأخبار. وأضافت إيفاسيوك أن هذا الصمت واللامبالاة ما كانا ليحدثا لو تعرض له آخرون، لا سيما من ذوي البشرة البيضاء.
وأشارت آنا إيفاسيوك إلى التناقض الذي كشفته نقاشات داخل المجتمع الأنثروبولوجي الأوروبي بعد نشر بيان الجمعية الأوروبية للأنثروبولوجيين الاجتماعيين (EASA) لإدانة العنف ضد غزة، وكيف رأى كثير من الأنثروبولوجيين أن هناك سردية واحدة في التعامل مع قضية أوكرانيا، في حين تعدّدت السرديات في حالة فلسطين، وأمكن للبعض الوقوف "على الحياد".
وتتساءل آنا في مقالها: "ما هو الحياد في مواجهة الإبادة الجماعية إن لم يكن تواطؤًا؟ وما هو تعريف إسكات من يتحدثون ضد الإبادة إن لم يكن دعم الإمبريالية؟". وختمت آنا مقالها قائلة إن ما يشهده العالم في غزة اليوم يدفعنا إلى نقطة اللاعودة، ونحو فهم ما تتعرض له شعوب العالم يوميا، والعنصرية والاعتراف الانتقائي في التضامن مع ضحايا الصراعات.
ويقول الكاتب الإسباني خافيير خورادو إن مشاهد عشرات الآلاف من الشهداء وبينهم أطفال، وما حدث من تدمير للبنى التحتية، تثير أعمق التساؤلات غير المحسومة في الخيال السياسي الغربي: كيف يمكن الاستمرار في دعم الكيان المحتل وتبني كونه ضحية تاريخية؟ لقد كانت الشهور الماضية للحرب على غزة كاشفة للحقائق بشأن عنف الاحتلال، وكسرت أمام المتابع الأوروبي رواية ظلت لعقود تُبرّر صمت الغرب إزاء الانتهاكات وتؤسس للاستثناء الإسرائيلي.
تشرح رابيا يافوز المتخصصة في علم النفس الاجتماعي في مقال لها، كيف أن هذا الشعور بالحزن يعني أننا ما زلنا بشرا، وكيف أن القضية لا تتعلق بغزة وحدها، وإنما بكيفية استجابة العالم لكل هذا الألم. فحين تتفوّق المصلحة السياسية على مبادئ العدالة، ويتعرّض المؤيدون والمتضامنون للقمع، فهذا يشير إلى فوضى عالمية أعمق، بما تُسبّبه من جرح في الوعي المجتمعي العالمي.
إعلانأما حين يصبح الصمت الخيار الأكثر أمانا فإننا أمام عنف نفسي يُهدّد مجتمعاتنا، ويكشف عن وجه مخيف لعالم اليوم، فهذه "الفظائع" تخلف فراغا أخلاقيا لا يُحتمل، يهدد إحساسنا بتحقق العدالة وبإنسانيتنا نفسها، وتتساءل في النهاية: ما ثمن كبح المشاعر أمام المجازر؟
في مقال له حول أنجع العلاجات للجرح الأخلاقي، أوضح أستاذ علم الاجتماع بجامعة ولاية كارولينا الشمالية، مايكل شوالبي، أن أفضل استجابة لما يجري من حولنا هي التكاتف مع الآخرين كي نحافظ على إيماننا بأنفسنا وبإمكانية أن يكون العالم أفضل وأن يُعرض المجرمون يوما ما للعدالة.
ووفقا لشوالبي، فإن موجات الاحتجاج والمسيرات والبيانات المُندّدة التي تؤيد الحقوق الفلسطينية وتسعى لوقف الحرب ضرورية أيضا، لا لوقف الحرب فحسب، وإنما لإنقاذ هؤلاء الذين يشعرون بالجرح الأخلاقي من الإصابة بالعجز الدائم.
لقد تحوّلت غزة -وهي على أعتاب السنة الثالثة للحرب- إلى مرآة تكشف حقائق مخيفة عن نفاق المجتمع الدولي، والرقابة على ما يمكن قوله حول فلسطين، والضغط الذي يُمارس لإسكات الفلسطينيين أو المتخصصين في إنتاج المعرفة بهذا الشأن، وهو ما يزيد أهميتها كمنهج لكشف زيف العالم "كما يُروى لنا".
اليوم لا يزال العديد من النشطاء والمتضامنين مع غزة حول العالم يواجهون عُنفا يطالبهم بالصمت حتى لا يطالهم العقاب، بينما تُهدِّد الحرب إنسانيتنا ويختار البعض التضامن مع دفع أثمانه، في حين يبقى البعض الآخر رهن الشعور بالعجز ومواجهة الصدمات النفسية التي يُسبّبها إدراكنا أن ثمن هذا التجاهل هو ألا يبقى أحد في أمان.