الجزيرة:
2025-12-13@11:34:32 GMT

أسباب الفشل في السودان وجنوب السودان

تاريخ النشر: 16th, October 2025 GMT

أسباب الفشل في السودان وجنوب السودان

في أحدث تقرير دولي عن دولة جنوب السودان، رسمت مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة صورة قاتمة السواد للأوضاع هناك، فقد اعتبرها التقرير أفقر دولة في العالم بنسبة فقر تبلغ 92%، بينما تراجع متوسط دخل الفرد إلى الربع عما كان عليه عشية استقلال الدولة الحديثة عن السودان في العام 2011.

ويلخص التقرير أسباب الفقر في البلاد بـ(أنها ناتجة عن عوامل مترابطة تشمل الفساد المؤسسي، والتاريخ الاستعماري الاستغلالي، وضعف سيادة القانون، والنزاعات المسلحة المستمرة، والظروف المناخية القاسية).

ويأتي هذا التقرير في ظل أجواء سياسية وأمنية متوترة على خلفية التدهور الأمني الذي تشهده البلاد بعد اعتقال نائب الرئيس الدكتور رياك مشار وعدد من كبار المقربين منه، وتقديمهم لمحاكمات قانونية بتهم خطيرة، من بينها القتل والخيانة وارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وذلك بعد هجمات عسكرية نفذتها مليشيا الجيش الأبيض.

وهي مجموعات مسلحة من قبيلة النوير التي ينتمي إليها نائب الرئيس رياك مشار المعتقل حاليا، والذي تتهمه الحكومة بإصدار أوامر لهذه المليشيا بمهاجمة الجيش، مما أدى إلى مقتل أكثر من 250 من قوات الحكومة بمن فيهم ضابط كبير برتبة لواء، وتشكل هذه التطورات تهديدا لاتفاق السلام الذي تم توقيعه بين الحكومة ومجموعة الدكتور مشار منذ العام 2018، وذلك بعد حرب أهلية دموية استمرت خمس سنوات بين الطرفين.

هذه الصورة التي تعبر عن جنوب السودان تكاد تماثل الأوضاع في السودان، الذي يعاني هو الآخر من حرب أهلية تدخل عامها الثالث، وتسببت في (أسوأ كارثة إنسانية حول العالم)، بحسب الأمين العام للأمم المتحدة، حيث خلفت الحرب أكثر من عشرين ألف قتيل.

بينما بلغت خسائر القطاع الصحي وحده 11 مليار دولار، ونتيجة للانقسامات الحادة تقف البلاد اليوم على حافة انفصال جديد يهدد وحدتها، وذلك على خلفية تأسيس حكومة موازية في المناطق التي تسيطر عليها مليشيا الدعم السريع في إقليم دارفور وقوات المتمرد عبدالعزيز الحلو في بعض مناطق جنوب كردفان.

إعلان

 وعلى الرغم من التحركات الدولية التي تجري لاحتواء النزاع، لا يبدو أن هناك حلولا واقعية تلوح في الأفق مع تباعد مواقف الأطراف وتقاطع المصالح الإقليمية والدولية، بجانب عدم استجابة مليشيا الدعم السريع لتنفيذ القرارات الدولية، وأهمها مقررات إعلان جدة الموقع في مايو/أيار 2023، وقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2736، والصادر في يونيو/حزيران 2024، والذي يطالب قوات الدعم السريع بفك الحصار عن مدينة الفاشر عاصمة إقليم دارفور، التي تشهد أزمة إنسانية خانقة، وذلك بعد مرور عامين من حصار شامل تقوم به مليشيا الدعم السريع، وخلال هذه الفترة صدّت القوات المسلحة والقوات المشتركة التي تقاتل معها أكثر من 240 موجة من موجات هجوم المليشيا المعززة بالأسلحة المتطورة، والتكتيكات الحربية المتنوعة.

تفسير أسباب الفشل في الدولتين

كل أسباب النجاح كانت متوفرة لدولة جنوب السودان يوم أعلنت استقلالها عن السودان قبل 14 عاما من الآن، حيث تسلمت النخبة الجنوب سودانية دولة بترولية خالية من الديون التي تحملتها دولة السودان.

وكانت تنتج ما يقارب نصف مليون برميل من النفط يوميا، بجانب مواردها الهائلة من الزراعة والثروة الحيوانية والمعادن الأخرى، وكانت مدعومة من المجتمع الدولي، وفي مقدمته الولايات المتحدة وإسرائيل اللتان تعتبران أن ولادة دولة جنوب السودان جزء من إنجازاتهما التاريخية.

ولكن لم تسعف كل تلك العوامل دولة جنوب السودان لتكون نموذجا يتعلم من التجارب الأفريقية الطويلة في الفشل والحروب والنزاعات، على العكس من ذلك انحدرت الدولة الوليدة في مستنقعات الحروب والنزاعات والانقسام الداخلي، حيث خاضت حربا مع دولة السودان في 2012، حين قامت باحتلال منطقة هجليج الغنية بالنفط في ولاية جنوب كردفان.

والمفارقة العجيبة أن هذه المنطقة توجد بها المنشآت الرئيسية لمعالجة ونقل النفط في كلا البلدين، إذ من المعروف أن دولة جنوب السودان ليست دولة ساحلية وتعتمد على خط أنابيب النفط السوداني الذي يمتد لآلاف الكيلومترات إلى ميناء بورتسودان أقصى شرق السودان، ويمثل النفط حوالي 90% من موارد العملة الصعبة لدولة جنوب السودان.

بعد احتواء تلك الحرب، بتحرير منطقة هجليج، دخلت دولة جنوب السودان في حرب أهلية بين الحكومة ومجموعة رياك مشار نائب الرئيس الذي يحاكم حاليا، وما يبدو أنه حرب بين الحكومة وفصيل آخر ليس هو كل الحقيقة، إذ تختفي قبيلة الدينكا القوية التي تمثل حوالي 36% من مجموع السكان خلف الحكومة، بينما يمثل رياك مشار طموحات قبيلة النوير، المنافس الأقوى لسلطة الدينكا المتجذرة هناك.

وبتقييم عام للمشهد في البلدين، يبدو أن الدولة الوليدة حملت معها جرثومة (عوامل الفشل) من الدولة الأم، ففي احتفال الاستقلال وردت إشارة مهمة في خطاب المسؤولة الأميركية سوزان رايس، وهي تعطي المواعظ لقادة الدولة الجديدة، قائلة: (نأمل أن تستطيعوا الحياة بسلام مع جيرانكم، وأن تعملوا معهم لحل القضايا الخلافية بشكل سلمي، وكل ذلك يتطلب بناء حكم جيد وسلطة مؤسساتها قوية مخصصة لخدمة الناس، والعدالة تعتمد على النظام الخالي من الفساد والشوائب).

إعلان

وما فشل فيه السودان من بناء المؤسسات القوية المحايدة عن الأحزاب، والانتقال إلى نظام ديمقراطي مستدام، استنسخته الدولة الوليدة بصورة أكثر تشويها.

إذ من المعروف أن نجاح أي دولة يتطلب وجود مؤسسات قوية تخضع جميع المواطنين لسلطتها، وتعمل على الحد من الطموحات الفردية للأشخاص بفرض القانون سيدا فوق الجميع، وألا يكون للحكومة سبيل لتطويع أجهزة العدالة لتخدم أهدافها السياسية، وحينها فقط يمكن أن تزدهر الديمقراطية، وتنطلق قدرات المواطنين لبناء بلدهم تحت ظلال الشعور بالأمان الفردي والطمأنينة العامة.

ويمكن القول بكل اطمئنان إن هذه النقطة الجوهرية تمثل المدخل الصحيح لفهم الوضع المأساوي الذي انتهت إليه تجربة الدولتين حاليا، وهو المعنى الذي لخّصه الصحفي الجنوب سوداني أتيم سايمون، معلقا على تفشي ظاهرة تعيين الأقربين في المواقع الرسمية: (تعكس هذه الممارسة ضعف المؤسسات الحزبية والرسمية في البلاد، واعتماد النظام السياسي على الولاءات الشخصية وروابط الدم، أكثر من اعتماده على الكفاءة والمعايير المؤسسية).

أما مظاهر الفشل التي تتشاركها الدولتان، فتكاد لا تُحصى، ولكن يمكن إجمالا ذكر بعض القضايا المركزية التي تعين على فهم يساعد على إدراك طبيعة التعقيدات التي تحيط بالدولتين، وتساهم في إطالة الأزمة، بل وفي تعميقها فيهما:

1. يشكل تسييس الفضاء العام مشكلة كبيرة تؤثر على الاستفادة من الموارد البشرية المؤهلة من الأكاديميين والكفاءات الوطنية، حيث تهيمن المحسوبية والولاءات الحزبية والفردية لتكون روافع للمناصب العامة، بينما تحجب تلك العوامل وتقيد قدرات الفاعلين المقتدرين.

ونتيجة ذلك هو التراجع العام في أداء المؤسسات العامة، وغياب الإتقان، وتفشي ثقافة اللامبالاة، وانعدام الشفافية والمحاسبة، وهو ما يفتح بابا واسعا للفساد المؤسسي الذي ينخر في أجهزة الدولة، ويعمل على تقويض تماسكها راهنا ومستقبلا.

2- إضعاف الفضاء المدني، بما فيه الأحزاب السياسية، مما يفتح الباب للجوء لتأسيس المليشيات العسكرية؛ سعيا وراء حيازة الامتيازات الاقتصادية والمجتمعية، واتخاذ تلك المليشيات العسكرية بديلا للقوى السياسية.

وغالبا ما تتأسس هذه المليشيات على أساس قبلي أو مناطقي، مما يؤدي إلى تعميق الانقسام المجتمعي، وانتشار الكراهية بين المكونات الاجتماعية في الدولة، فضلا عن توفير أسباب قيام الحرب واستمرارها في أي لحظة.

ونتيجة للسببين أعلاه، يتمحور الصراع حول تقاسم السلطة والثروة على أسس قبلية وجهوية، وتتصدر المطالبة بهما نخبة صغيرة تدعي تمثيل القطاعات المهمشة التي تخوض الحروب باسمها، بينما الحقيقة تقول إن تلك النخب الصغيرة لا تمثل إلا نفسها، وإن النسبة الغالبة من المواطنين الذين تتم حيازة الامتيازات باسمهم، تقبع تحت خط الفقر، مما يزيد من تعميق التفاوت الطبقي بين المواطنين، ويكرس للفقر في المستويات الدنيا.

ونتيجة لذلك الفقر المدقع، وانعدام خدمات التعليم، وتراجع مستوى أداء أجهزة الدولة، تستمر تلك المجتمعات كعامل يفرخ المقاتلين لصالح المليشيات المسيسة، فتستمر دورة العنف إلى أمد مفتوح وغير محدد.

ثم ماذا بعد؟

تقف الدولتان على شفا جرف حاد نتيجة استمرار النزاعات، وتراجع قدرة الدولة على إنتاج الحلول للأزمات المتراكمة، وعلى الرغم من صعوبة الوضع في كلتا الدولتين، فإن الفرصة لا تزال وافرة للاستدراك والمراجعة للعودة إلى المسار الصحيح، ولكي يتم ذلك، لا بدّ من استجماع الإرادة الوطنية، والتخلص من حظوظ النفس الصغيرة.

وتحتاج النخبة في البلدين أن تعرف أن المصلحة العامة أبقى من المنافع الفردية، وأن بناء المؤسسات القوية من أجهزة عدالة مستقلة، وصحافة حرة، وخدمة مدنية مقتدرة قائمة على الكفاءة، فيه حصانة لهم أولا، ومنافع لشعوبهم ثانيا، وقوة لأوطانهم ثالثا.

إعلان

تحتاج النخبة في البلدين أن تعرف أن انتشار ثقافة عسكرة الفضاء السياسي، والاعتماد على المليشيات المسلحة مع تقزيم دور الفضاء المدني، فيه إضعاف خطير لمناعة الدولة وقدرتها على التماسك، كما أنه يعمل على إضعاف المؤسسة العسكرية الوطنية التي هي واحدة من مظاهر قوة الدولة الحديثة.

وأخيرا، تحتاج النخبة في البلدين أن تدرك أن الحوار الوطني الذي يتسع لجميع أبناء الوطن هو العاصم من التشرذم والتمزق، حيث يتم التوافق على أسس الممارسة السياسية، وتحويل تلك الأسس إلى نصوص دستورية تحظى بالاحترام، وتُصان بالالتزام.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: غوث حريات دراسات دولة جنوب السودان الدعم السریع فی البلدین ریاک مشار أکثر من

إقرأ أيضاً:

اتفاق ثلاثي يمهّد لدخول جيش جنوب السودان إلى هجليج لتأمين المنشآت النفطية

المهمة الأساسية لقوات جيش دفاع شعب جنوب السودان هي تأمين المنشآت النفطية وحمايتها من أي تهديدات محتملة، بالتوافق مع أطراف الاتفاق الثلاثي، بحسب رئيس هيئة أركان جيش جنوب السودان.

جوبا: التغيير

كشف رئيس هيئة أركان جيش جنوب السودان، الفريق أول بول نانق، خلال زيارة ميدانية إلى منطقة هجليج، عن اتفاق ثلاثي جمع رئيس جنوب السودان سلفاكير ميارديت، وقائد الجيش السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، ترتب عليه دخول جيش دفاع شعب جنوب السودان إلى المنطقة الغنية بالنفط.

وقال نانق – بحسب صحيفة (الموقف) – إن الاتفاق نصّ على انسحاب الجيش السوداني من هجليج، بالتزامن مع خروج قوات الدعم السريع من محيط المنطقة، بهدف منع أي مواجهات أو أعمال تخريب قد تُعرض منشآت النفط للخطر.

وأكد أن المهمة الأساسية لقوات جيش دفاع شعب جنوب السودان هي تأمين المنشآت النفطية وحمايتها من أي تهديدات محتملة، بالتوافق مع أطراف الاتفاق الثلاثي.

وأشار رئيس هيئة الأركان إلى أن وجود قواته في هجليج يأتي في إطار ترتيبات متفق عليها، وأن بلاده تسعى للحفاظ على استقرار المنطقة لما تمثله من أهمية اقتصادية إقليمية.

وتُعد منطقة هجليج الواقعة على الحدود بين السودان وجنوب السودان واحدة من أهم مناطق إنتاج النفط في السودان، وقد كانت محوراً لتوترات عسكرية منذ انفصال جنوب السودان في عام 2011.

ومنذ اندلاع الحرب الحالية في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع، شهدت مناطق الإنتاج النفطي حساسية أمنية بالغة، وسط مخاوف من امتداد القتال وتأثيره على البنية التحتية النفطية التي تعتمد عليها كل من السودان وجنوب السودان في صادراتهما النفطية.

وتكتسب هجليج أهمية إضافية لكونها تضم منشآت نفطية حيوية تمر عبرها خطوط الإمداد، ما يجعل استقرارها ضرورة اقتصادية وسياسية للبلدين، الأمر الذي دفع إلى ترتيبات أمنية مشتركة لضمان عدم تعرضها للتخريب أو سيطرة أي طرف مسلح عليها.

الوسومالنفط السوداني جنوب السودان حقل هجليج

مقالات مشابهة

  • ضرورة الحل الشامل للأزمة في السودان
  • جيش جنوب السودان يحمي حقل هجليج واشتباكات في كردفان
  • جنوب السودان يتولى أمن حقل هجليج النفطي بعد سيطرة الدعم السريع
  • الولايات المتحدة تهدد بتقليص مساعداتها لجنوب السودان
  • اتفاق ثلاثي بين السودان وجنوب السودان لتأمين حقل "هجليج" النفطي وسط توتر متصاعد
  • مسؤول حكومي: إعلان دولة جديدة في جنوب اليمن غير قابل للتنفيذ
  • الإمارات: الحرب في السودان بلا منتصر والإغاثة يجب أن تتدفق دون عوائق
  • جنوب السودان يسيطر على حقل هجليج النفطي وسط تحشيدات عسكرية في كردفان
  • اتفاق ثلاثي يمهّد لدخول جيش جنوب السودان إلى هجليج لتأمين المنشآت النفطية
  • فرار جنود سودانيين إلى جنوب السودان بعد سقوط حقل هجليج