#سواليف

“مَلحمةٌ على الهامش”: قراءة نقديّة في سرد السّخرية والذّاكرة عند #يوسف_غيشان

بقلم د.دورين نصر

يشكّل كتاب ” #ملحمة_على_الهامش ” ليوسف غيشان نصًّا فريدًا في بنيته ووظيفته. فهو لا يلتزم بشكل الرّواية الكلاسيكيّة ولا يخضع لقوانين السّيرة التَّقليديّة، بل يتّخذ موقعًا بينهما، ليقدّم نصًّا متعدّد الأجناس يعيد تشكيل الذّاكرة الشَّعبيّة من خلال منظور طُفوليّ مراهق، سرعان ما يتداخل مع وعيٍ ناضج يعيد قراءة تلك الذّاكرة.

مقالات ذات صلة الزغول يفتتح المعرض التراثي الثقافي في الاغوار الشمالية 2025/10/18

هذا المزج بين البساطة الأولى والوعي النّقديّ اللّاحق منح النّصّ قوّة خاصّة، إذ جعله يراوح بين العفويّة والتّهكّم، وبين الحنين والمساءلة. من هنا يمكن القول إنّ غيشان لم يكتب فقط “نوستالجيا الطُّفولة”، بل أعاد صياغة مَلحمة اجتماعيّة للهامش، حيث التّفاصيل الصّغيرة تصبح هي المَلحمة البديلة.

ومن هذا المدخل تَتبلورُ ضرورة تفكيك بنية السَّرد لفهم آليّات هذا العمل النَّصّيّ.

1-السّرد

يقوم النّصّ على تقسيم “ألواح” في محاكاة ساخرة لمَلحمة جلجامش، لكنّ الفارق أنّ البطولة هنا ليست لملوك ولا لآلهة، بل لشخصيّات عاديّة من الحارة: كاترينا الخطّاطة، أمّ خليل، أبو عرب، وغيرهم: “من كلّ حدب وصوب جاء النّاس لمعاينة الضّيف الكبير… خليط عجيب من الرّجال والنّساء والأطفال ينتظرون حدثًا لا يفهمونه تمامًا”. هؤلاء يشكّلون ملحمة الحياة اليوميّة، حيث تتحوّل النّوادر والمآسي الصّغيرة، إلى مادّة سرديّة كبرى.

والبطولة في النّصّ ليست في الانتصار على الموت، بل في القدرة على المزج بين الألم والضّحك: “سقط أبو الوليد على الأرض وهو يؤدّي التّحيّة العسكريّة للضّيف، فاختلطت الرّصاصة بالتّصفيق، والموت بالسّخرية”. واللّافت أنّ البطولة لم تعد سِمة الفرد المتميّز بقوّة جسديّة أو سلطويّة عند غيشان، بل نجده يمنحها مفهومًا جديدًا في الأدب، كون الأبطال عنده هم البسطاء الذين “يتأقلمون مع القسوة بالضّحك، ويحوّلون الهزيمة إلى حكاية تُروى على المقهى”.

هذا التّحوّل يجعل النّصّ أقرب إلى الحياة اليوميّة بكلّ تفاصيلها، حيث يصبح التّافه والهامشيّ مركز الحدث وأساسه.

لكنّ هذا البناء السّرديّ لم يكن معزولًا عن خلفيّة ثقافيّة عميقة، إذ يتأسّس على تناصّ واضح مع الملاحم الكبرى، وهو ما يقودنا إلى البُعد المرجعيّ للنّصّ.

2- التّناصّ

اختار غيشان أن يفتتح نصّه بمقطع من مَلحمة جلجامش، وهو اختيار يحمّل النّصّ منذ بدايته أبعادًا فلسفيّة ووجوديّة؛ ففي حين يبحث جلجامش عن الخلود، نجد شخصيّات غيشان غارقة في تفاصيل الفناء اليوميّ:

 موت زوج زريفة بسبب قطعة حلاوة محشّية، سقوط “أبو الوليد” عند إطلاق التّحيّة، ومفارقات الحارة التي لا تخلو من العبثيّة.

هذا التّناصّ يرسّخ المفارقة: ففي حين يتمحور تاريخ البطولة حول السّعي وراء المجد والخلود، يُعيد غيشان الاعتبار للتّجربة الشّعبيّة التي تبحث عن البقاء في عالم الفناء لا عن الخلود. بهذا يصبح النّصّ قراءة مقلوبة للتّراث، حيث يُطرح سؤال الوجود من موقع الهامش لا المركز.

3- السُّخرية

السّخرية هي العصب الحيويّ في نصّ يوسف غيشان، وليست مجرّد أداة فنّيّة للتّسلية، بل استراتيجيّة نقديّة لكشف هشاشة الأوضاع الاجتماعيّة والدّينيّة والسّياسيّة في البيئة التي تحتضن شخصيّات الرّواية. “سقط أبو الوليد محاولًا إطلاق التّحيّة العسكريّة، فارتدّت الطّلقة إلى الزّجاج، وانكسرت كرامته مع الشّظايا، بينما النّاس صفّقوا ظانّينها تحيّة للضّيف”. تتحوّل الكوميديا هنا إلى فضاء للمأساة، وتغدو المفارقة جوهر الوعي الجمعيّ الذي يواجه الظّلم أو القسوة بالضّحك.

السّخرية عند غيشان هي “سلاح الضّعفاء”، إذ تتحوّل إلى آليّة للمقاومة الصّامتة. “كانت أمّ خليل تضحك حتّى الثّمالة، دموعها تختلط بمخاطها، وتتحوّل البكائيّة إلى احتفال”.

بهذه اللّغة السّاخرة، يُعيد غيشان تعريف الفرح بوصفه طريقة للبقاء في عالمٍ يسخر من الجميع.

كذلك، تتحوّل السّخرية أداة للفضح لا للتّهكم، على سبيل المثال حين يرفض زوج زريفة أن يُسعف بالحلاوة السّادة،: “أغلق فمه رغم حاجته للسّكّر، وأشار بيده المرتجفة إلى الحلاوة المحشيّة… أراد الطّعم لا الحياة”.

في هذا الموقف السّاخر، تتجلّى المفارقة بين الغريزة والرّغبة، بين لذّة التّجربة الآنيّة والحاجة للنّجاة. إنّها فلسفة الحياة اليوميّة التي تختزل عبث الإنسان في مواجهة قدره.

بالتّالي، تشكّل السّخرية العصب الحيويّ للنّصّ. فهي ليست مجرّد أداة فنّيّة للتّرفيه، بل استراتيجيّة نقديّة تكشف النّقاب عن وجهين متناقضين: الضّعيف وسلاح اللّامبالاة في مواجهة القويّ وسلاح العنف، وذلك في إطار مكانيّ خلقته بنية السّرد بوصفه عنصرًا أساسيًّا يحتوي الحدث والشّخصيّات.  

4-المكان

المكان في “مَلحمة على الهامش” ليس مجرّد خلفيّة، بل هو بطل صامت يحتفظ بذاكرة النّاس. إنّه الجغرافيا التي تتكلّم، والشّارع الذي يروي حكاياتهم بدلًا عنهم: “النّاس تكتظّ في الشّارع الضّيّق قرب بوّابة المدرسة، النّساء يزغردن والرّجال يتدافعون، بينما الأطفال يضحكون ولا يفهمون ما الذي يحتفلون به”.

هكذا يخلق غيشان فضاء يوميًّا يتحوّل فيه الرّصيف، والدّكّان، والكنيسة، إلى مسرح شعبيّ تتقاطع فيه مصائر البشر.

في الألواح الأخيرة، تتّضح ملامح المكان كأرشيف لذاكرة جمعيّة ترفض النّسيان: “الفرن يشتعل في زاوية الدّير، والعجين يرقص بين يدي الخبّاز الذي لا يأبه بالنّار ما دام النّاس يحتاجون إلى خبزه”.

المكان هنا ليس حيّزًا جغرافيًّا فحسب، بل هو تمثيل رمزيّ لاستمراريّة الوجود، فبين النّار والعجين، يولد الخبز باعتباره صورة للحياة.

وتتحوّل المدرسة أيضًا إلى مركز دراميّ: “الرّصاصة الأولى كسرت زجاج الصّفّ السّادس، فارتبك الضّيوف في الدّاخل، بينما بقي الأطفال في الخارج يلوّحون للسّماء المليئة بالدّخان”.

وعليه، لا يقدَّم المكان بوصفه جغرافيا مُحايدة، بل بوصفه أرشيفًا لتاريخ غير مكتوب. كلّ زاوية تحمل حكاية، وكلّ شارع يشهد على ذاكرة جمعيّة تتشكّل من الحكايات الصّغيرة بلغة تقرّب المسافة بين النّصّ والشّخصيّة.

5- اللُّغة

لغة غيشان تتناوب بين الفصحى الرّصينة والتّعابير الشعبيّة اليوميّة. هذا المزج يخلق طبقة نصّيّة مزدوجة:

من جهة، نصّ أدبيّ قادر على الانخراط في النّقد الأكاديميّ، ومن جهة أخرى، نصّ شعبيّ يملك صدقيّة التّوثيق والاقتراب من لغة النّاس.

كثافة التَّفاصيل – عن الطّعام، الملابس، الطُّقوس – تجعل النَّصّ أقرب إلى أرشيف أنثروبولوجيّ يوثّق الحياة اليوميّة. إنّه نصّ يُقرأ أدبيًّا لكن يُستفاد منه اجتماعيًّا وثقافيًّا. واللّغة فيه ليست وسيلة لنقل المعنى فقط، بل فضاء تتعايش فيه الثَّقافة العليا.

هكذا يتبيّن أنّ نصّ “مَلحمة على الهامش” يقوم على شبكة متداخلة من العناصر البنّائيّة والدّلاليّة:

 فالسّرد يعيد صياغة اليوميّ والهامشيّ في صورة ملحميّة، والتّناص يربطُهُ بجذورٍ حضاريّةٍ عميقةٍ تُعيدُ التّفكير في معنى البُطولةِ والخلود، فيما تأتي السُّخرية متنفّسًا كاريكاتوريًّا للإنسان في مواجهة ظروف قاسية، ويَغدو المكان حافظًا للذّاكرة الشّعبيّة وفاعلًا في تشكيل الهويّة الجمعيّة. لتتكاملَ هذه العناصر عبر لغةٍ مزدوجة تمزجُ الفصحى بالشّعبيّة، فتنتجُ نصًّا متوتّرًا بين الأكاديميّ والتّوثيقيّ.

وعليه،

يَكشف كتاب “مَلحمة على الهامش” ليوسف غيشان عن نصٍّ يَتجاوَز كَونَه مُجرَّد رِواية، لِيَغدوَ مَشروعًا أَدبيًّا مُتكاملاً يُعيد النَّظر في مَفهوم المَلحمة نفسه. فالمَلحمة هنا لا تُبنى على البُطولة الخارِقة أو السَّعي وَراء المَجد، بل على تَفاصيل الحَياة اليَوميّة الَّتي قد تَبدو عابِرة وهامشيّة.

 الشَّخصيّات البَسيطة، الطَّرائف الصَّغيرة، النَّوادر السَّاخِرة، والمَواقِف المَأسويّة المُغلَّفة بالضَّحك، تَتحوَّل جَميعُها إلى عَناصِر تُشكِّل مَلحمة مُضادّة تَقلِب مَوازين السَّرد التَّقليديّ وتُؤكِّد أنَّ البُطولة الحَقيقيّة تَكمُن في قُدرة الإنسان على التَّكيُّف والمواجهة عَبر السُّخرية والذّاكرة.

 إنَّ قِيمة النَّص لا تَنحصِر في تَسجيل مَلامِح الطُّفولة أو الحارة أو المُجتمع المَحلّي، بل تَتجاوَزها إلى تَأسيس أَرشيف أَدبيّ يُقدِّم صُورة المُجتمع من الدّاخل، ويُعيد الاعتبار لِلثَّقافة الشَّعبيّة بما تَحمِله من طُقوس وعَلاقات وأَمثال وفَضاءات. وبِذلك يُصبِح النَّص وَثيقة أَنتروبولوجيّة بقدْر ما هو عَمل أَدبي، إذ يُدوِّن تَفاصيل الحَياة كما تُعاش.

 وتأتي السُّخرية لِتُؤدّي وَظيفة مُزدَوَجة: فَهي من جِهة أَداة جَماليّة تمنَح النَّصّ حَيويّتَه وإيقاعَه الخاصّ، وهي من جِهة أُخرى استراتيجيّة تَمنَح القارئ إِمكانيّة الضَّحك على ما يَبدو مُقدَّسًا أو مُهابًا. بِهذا تَتحوَّل السُّخرية إلى فِعل نَقديّ يَفتَح لِلمُتلَقّي مَساحة لِلتَّفكير الحُرّ، ويُؤسِّس لِفَهم جَديد لِعَلاقة الأَدب بالمُجتمع.

من هُنا، يُمكِن القَول إنَّ “مَلحمة على الهامش”تَفتح أُفقًا استشرافيًّا لِلبَحث في اتِّجاهين مُتكامِلين:

1-الاتِّجاه الأَدبيّ

 حَيث تَطرَح سُؤالًا حَول حُدود الرِّواية العَربيّة المُعاصِرة وقُدرتها على استيعاب الهامِش اليَوميّ، وعلى ابتِكار أَشكال سَرديّة هَجينة تَتقاطعُ فيها الميثولوجيا مع الثَّقافة الشَّعبيّة.

2-الاتِّجاه النَّقديّ والاجتماعيّ

 حَيث تَدعو إلى إِعادة قِراءة النُّصوص الشَّعبيّة بِاعتبارها مَصدرًا أَساسيًّا لِفَهم هُويّة المُجتمعات على اختلافها، وآليّة للاستمراريّة، وتَثبيت الذّاكرة الجَمعيّة.

في النِّهاية، يَظهَر نَصّ غيشان بِوَصفه إِعلانًا صَريحًا عن أنَّ الأَدب لَيس مُجرَّد تَجميل لِلوَاقع أو تَسجيل له، بل هو قُدرة على إِعادة صِياغته، وابتِكار لُغات جَديدة لِفَهم الذّات والجَماعة. إنَّ “مَلحمة على الهامش” تُؤكِّد أنَّ ما يُهمَل ويُعَدّ ثانويًّا في الحَياة اليَوميّة قد يَكون هو المادّة الأَكثر ثَراءً لِإِعادة بَناء الوَعي بِالهُويّة والوُجود، وأنَّ الأَدب، حين ينصِت إلى الهامش، يَكتشِف في طَيّاته ما يَعجز المَركَز عن قَوله.

المصدر: سواليف

كلمات دلالية: سواليف يوسف غيشان الحیاة الیومی ة ة الیومی ة ة نقدی ة تتحو ل ة التی الس رد

إقرأ أيضاً:

نشاط: “ينتظرنا شوط آخر في الجزائر لبلوغ مجموعات الأبطال”

أكد مدافع شبيبة القبائل فارس نشاط، أحقية فريقه بالفوز المُحقق أمس الجمعة، أمام المُضيف الاتحاد المنستيري التونسي، ضمن ذهاب الدور التمهيدي الثاني، لمنافسة دوري أبطال إفريقيا.

وحقق “الكناري” أمس، انتصارا رائعا استقر على ثلاثية نظيفة. وضعه قاب قوسين أو أدنى من بلوغ مجموعات “الشامبينز ليغ”. قبل موقعة الإياب المرتقبة السبت القادم. بملعب “حسين آيت آحمد” بتيزي وزو.

وعن هذا الفوز، قال نشاط: “بعد المجهودات التي بذلناها والعمل الكبير الذي قمنا به طيلة الأسبوع مع المدرب، تمكنا من تحقيق الفوز”.

قبل أن يضيف مدافع الشبيبة. في تصريحات خص بها وسائل إعلام تونسية: “هذا شوط أول وينتظرنا شوط ثانٍ في الجزائر، وهدفنا اقتطاع بطاقة دور المجموعات”.

مقالات مشابهة

  • 20.5 مليون دولار تعويضًا لثلاثة سودانيين بعد إدانة بنك “بي إن بي باريبا”
  • نشاط: “ينتظرنا شوط آخر في الجزائر لبلوغ مجموعات الأبطال”
  • الخارجية:العراق مع خطة “السلام”في غزة
  • مصر تعلق على “أزمة جثث الرهائن” في غزة
  • هآرتس: إسرائيل تراقب من الهامش وقمة شرم الشيخ ترسم ملامح ما بعد غزة
  • نتنياهو يؤكد “المعركة لم تنته” بعد في غزة
  • أكثر من 70 ألف مستخدم لنظام الدفع “دي زاد موب باي”
  • رحلة التحوّل الأنثوي في ضوء نظرية يونغ: قراءة تحليلية في كتاب “حدّثتني الشمس”
  • طريقة عمل لحمة ستيك بالصوص البني مع أرز بسمتي أبيض