حرب المعلومات.. كيف أصبح المحتوى أقوى من القنبلة؟
تاريخ النشر: 11th, November 2025 GMT
في زمن لا تحتاج فيه الجيوش إلى اجتياز الحدود كي تغيّر أنظمة الحكم أو تقوّض المجتمعات، تنشأ حرب جديدة لا تُرى بالعين، بل بالعقل. إذ يكفي أن يضغط خبير ذكاء اصطناعي على خوارزمية صغيرة لتعيد تشكيل وعي ملايين البشر. هذه ليست نبوءة مستقبلية، إنها واقع يومي نعيشه في هواتفنا، وفي كل إشعار يسطع على شاشاتنا.
من حرب أوكرانيا إلى غزة، ومن الانتخابات الأميركية إلى الحملات التي تغزو المنصات العربية، نرى كيف بات "المحتوى" هو القذيفة الجديدة، وكيف تحوّل الأكثر رواجا "الترند" إلى ميدان اشتباك، تحرّكه مختبرات سيبرانية وجيوش رقمية تعرف تماما ماذا نحب، وماذا نكره، وكيف نغضب.
هكذا يدخلنا المؤلف الفرنسي ديفيد كولون في كتابه "حرب المعلومات.. كيف تسيطر الدول على عقولنا" إلى عالم مخيف تُدار فيه المعارك بوسائل غير مرئية، من صور مصمَّمة لتزرع الشكّ، إلى خبر كاذب أكثر إقناعا من الحقيقة، ثم خوارزميات تصوغ المشاعر السياسية على مقياس المصالح القومية.
يكتب كولون "صرنا نخوض حربا لم نحسب لها حسابا، بلا إعلان ولا جبهات ولا أعداء واضحين". وهي حرب بلا نهاية، لأن سلاحها هو المعلومة ذاتها، ولأن ميدانها الأوسع هو الإنسان -أنت وأنا- حين نصبح الهدف والوسيلة في آن واحد.
يذكر أن ديفيد كولون (David Colon) أستاذ في معهد العلوم السياسية بباريس، ومتخصّص في تاريخ الدعاية والإعلام الإستراتيجي. وقد صدر له عدد من الكتب البارزة منها "التلاعب بالعقول" و"حرب المعلومات.. كيف تسيطر الدول على عقولنا" (2023)، وهو يُعدّ اليوم أحد أبرز الباحثين في أوروبا في قضايا الاتصال والسيطرة الإعلامية.
وصدرت النسخة العربية من الكتاب عن دار هاشيت أنطوان – نوفل في بيروت مؤخرا، بترجمة أنجزها أدونيس سالم، لتقدّم للقارئ العربي أحد أهم المؤلفات الحديثة في فهم آليات السيطرة الإعلامية وصراعات النفوذ في عصر الذكاء الاصطناعي.
طور جديد من الصراعيرى كولون في كتابه "حرب المعلومات" أن التاريخ دخل طورا جديدا من الصراع، فلم تعد فيه القوة العسكرية أو التفوق الاقتصادي وحدهما كافيين، بل صارت السيطرة على المعلومة هي سلاح الدول الأشد فتكا. فبعد سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي، اعتقد الغرب أن "زمن الحقيقة" قد بدأ، وأن الإنترنت والعولمة الإعلامية سيجعلان الأكاذيب مستحيلة. لكن ما حدث كان العكس تماما، فقد تحررت المعلومة من رقابة الدولة، لكنها سقطت في قبضة من يمتلك أدوات انتشارها.
وينطلق المؤلف من سؤال محوري "كيف تتحوّل المعلومة إلى سلاح؟".
وهو يجيب عبر تحليل دقيق لتاريخ تطوّر الإعلام من وسيلة إخبارية إلى أداة سيطرة نفسية. فالمعلومة في نظره لم تعد تُنقل لتُعرّف، بل لتُوجّه وتُقنع وتزرع الانفعال المطلوب. ومع الثورة الرقمية، أصبح لكل دولة -بل لكل فاعل سياسي أو اقتصادي- جيش خاص من الخوارزميات والمبرمجين والروبوتات الاجتماعية، يخوض حربا دائمة لتوجيه الإدراك الجمعي.
يستعيد كولون مفهوم "الحرب السياسية" كما صاغه الدبلوماسي الأميركي جورج كينان، والتي يجري فيها استخدام كل الوسائل غير العسكرية -من الدعاية إلى التلاعب الاقتصادي والثقافي- لتحقيق الأهداف الوطنية. لكنها اليوم حرب بلا حدود زمنية ولا جغرافية، حيث تمتد عبر الفضاء السيبراني والإعلام العالمي وشبكات التواصل التي توهم المستخدم بالحرية في حين تراقبه وتعيد تشكيله.
ويقول كولون في هذا السياق "لم تعد الحرب تبدأ أو تنتهي، لأنها لم تعد تُخاض في الميدان بل في العقول".
بهذا المعنى، يقدّم الكتاب خريطة دقيقة لكيفية نشوء "قوة المعلومات" كسلطة موازية للقوة العسكرية، وكيف استطاعت دول مثل روسيا والصين والولايات المتحدة أن تحوّل المعرفة إلى نفوذ، والدعاية إلى نظام تفكير، والخبر الكاذب إلى سلاح دبلوماسي فاعل.
يرى كولون أن "صناعة الرواية" أصبحت جوهر حرب المعلومات. فكل حرب تبدأ اليوم بخبر يُصاغ بعناية، وصورة تُختار بدقة، قبل أن تبدأ الطائرات بالإقلاع. ولأن الإدراك العام هو ميدان الصراع، فإن الدول الكبرى تتعامل مع الرأي العام بوصفه "هدفا عسكريا" يجب إخضاعه.
ويضرب المؤلف أمثلة عديدة منذ حرب الخليج عام 1991، حين استخدمت الولايات المتحدة آلة إعلامية ضخمة لتبرير الحرب ضد العراق، مُطلقة أولى حملات التضليل المنظّم في العصر الحديث. وقد كانت قصة "الرضّع الذين أُخرجوا من الحاضنات في الكويت" واحدة من أشهر الأكاذيب التي حركت الضمير الغربي نحو الحرب. وظهرت حينها فتاة في الـ15 من عمرها أمام الكونغرس تبكي وهي تروي القصة، قبل أن يتضح لاحقا أنها ابنة السفير الكويتي في واشنطن.
بهذا المثال يوضح كولون كيف تُخلق الحقيقة إعلاميا، فهي ليست ما حدث فعلا، بل ما يُقدَّم كحقيقة ويُبنى عليه الإجماع الأخلاقي والسياسي. وهكذا تغدو الصورة أقوى من الحدث، والرواية الرسمية هي التي تحدّد من هو الضحية ومن هو الجلاد.
ومع توسع الإعلام الفضائي في التسعينيات، ثم الإعلام الرقمي في الألفية الجديدة، تحوّل "المحتوى" إلى أداة هندسة نفسية. فالقنوات الكبرى مثل "سي إن إن" ثم شبكات التواصل لاحقا، تصنع رؤية موحدة للعالم، تُخفي تنوعه واختلافه تحت شعارات الحرية والانفتاح. يقول المؤلف "الإعلام الجماهيري أصبح الزيّ الموحد للعولمة"، أي لباسا واحدا للعقل الجمعي.
من يملك أدوات السيطرة؟ الدول، الشركات، أم الجيوش الإلكترونية؟يبيّن كولون أن السلطة الجديدة لا تتجسد في الدولة وحدها، بل في التحالف بين الحكومات وشركات التكنولوجيا الكبرى. فشركات مثل غوغل وميتا وتويتر (سابقا) أصبحت تمتلك ما لا تملكه أجهزة المخابرات، إنها تمتلك القدرة على رصد المشاعر وتحليل الرغبات والتنبؤ بالسلوك البشري.
هنا تدخل الحرب مرحلة ما يسميه المؤلف "تسليع الانتباه"، أي تحويل عقولنا إلى مورد اقتصادي وسياسي. فكل نقرة أو مشاركة أو تعليق ليست فعلا بريئا، بل جزء من منظومة مراقبة وإقناع تعمل على مدار الساعة. هذا ما يفسّر -كما يقول- كيف يمكن لروبوتات بسيطة أن تغيّر نتائج انتخابات، أو تُشعل حربا أهلية رقمية في بلد هش.
وفي المقابل، طوّرت الدول الكبرى جيوشها الإلكترونية. فقد أنشأت روسيا مصانع للذباب الرقمي (troll farms) تُدير آلاف الحسابات المزيفة، وتُغرق المنصات بسيل من الأخبار المصممة لتقويض الثقة بالمؤسسات الغربية. ومن جانبها بنت الصين "جدارها الناري العظيم" لحماية فضائها المعلوماتي، قبل أن تحوّله إلى سلاح هجومي منظم. أما الولايات المتحدة، فتبقى الأكثر احترافا في إنتاج "القوة الناعمة" عبر هوليود والإعلام والدبلوماسية الثقافية، حيث "الحرية" نفسها تصبح منتجا دعائيا.
أمثلة من ساحات الحرب الرقميةينتقل كولون من التحليل إلى التوثيق، فيعرض مشاهد من حروب القرن الـ21 التي لم تُطلق فيها رصاصة واحدة.
ففي أوكرانيا، حسب قوله، كانت المعركة على وعي العالم أكثر شراسة من المعركة على الأرض، حيث صور الدمار والمقاومة بُثّت لتؤطر السردية الأوكرانية في مواجهة روسيا، في حين استخدمت موسكو خطاب "نزع النازية" لتبرير الغزو. وفي الجبهتين، لعبت الخوارزميات دور المقاتل الخفي.
كما يناقش المؤلف الدور المتنامي للذكاء الاصطناعي في صياغة الدعاية. فالنماذج اللغوية القادرة على توليد نصوص واقعية وصور مقنعة جعلت التمييز بين الصدق والكذب مهمة شبه مستحيلة. المستقبل الذي يرسمه كولون قاتم، إذ لن نعرف بعد الآن إن كانت المعلومة حقيقية أم مصمَّمة لإقناعنا بأنها كذلك.
وفي فصل لافت، يتحدث عن استخدام الولايات المتحدة "عمليات التأثير" (PsyOps) في العراق وأفغانستان، حيث كانت الرسائل الدعائية تُبث عبر الإذاعات المحلية وشبكات التواصل لاستمالة العقول قبل الأجساد. ويعلّق بقوله "لم تعد القنابل تُلقيها الطائرات فقط، بل أيضا الكلمات".
هكذا تتضح البنية الشاملة لحرب المعلومات كما يراها، أي تلاشي الفارق بين الحرب والسلم، بين الحقيقة والدعاية، وبين الإنسان والآلة.
يتميّز كتاب كولون "حرب المعلومات" بقدرته على الجمع بين الدقّة الأكاديمية والإثارة الصحفية. فنحن لا نلمس في الكتاب سردا جافّا لتاريخ الإعلام، ولكننا نجد فيه تشريحا لعصر فقد القدرة على التمييز بين الواقع وصورته. وينجح المؤلف في جعل القارئ يشعر أنه جزء من ميدان المعركة، وأن كلّ ضغطة زرّ، أو إعادة نشر، هي مشاركة في حرب عالمية لا تعترف بالحياد.
القوّة الأبرز في الكتاب تكمن في بنائه المعرفي الواسع، فهو ينتقل من الحرب الباردة إلى حرب الخليج، ومن روسيا إلى الصين وأميركا، ليكشف أن "الهيمنة المعلوماتية" أصبحت النظام العالمي الجديد. وقد أحسن كولون حين ربط بين جذور الدعاية الكلاسيكية وأدوات الخداع الرقمي، فكلّ خرافة عن الحرية أو الأمن القومي تجد أصلها في أساليب السيطرة النفسية القديمة، لكن بوسائل أكثر دقّة وذكاء.
لكن الكتاب، في المقابل، يميل إلى رؤية تشاؤمية كلية، حيث يبدو العالم محكوما بآلات الدعاية ولا مكان فيه لمقاومة فردية. يكاد المؤلف يُنكر إمكانية الوعي الذاتي لدى المتلقي أو المجتمعات، وكأن الإنسان لم يعد قادرا على التمييز أو الرفض. كما أن تحليله -رغم ثرائه- يظلّ متمركزا في المنظور الأوروبي الأميركي، فهو يتحدث كثيرا عن موسكو وبكين وواشنطن، لكنه لا يمنح مساحات كافية لتجارب الجنوب العالمي في مواجهة الحرب الإعلامية.
من الناحية المنهجية، ينجح كولون في بناء سرد محكم، لكنه يعتمد أحيانا على شواهد صحفية أكثر من دراسات ميدانية أو بيانات رقمية حديثة. ومع ذلك، يبقى الكتاب وثيقة تأسيسية لفهم "المجتمع المراقَب" الذي نعيش فيه اليوم. وهو لا يقدّم حلولا حاسمة، بل يطلق تحذيرا صريحا.
"حين نفقد السيطرة على المعلومة، نفقد حريتنا دون أن ننتبه" بهذه الجملة، يختم كولون فصله الأخير كمن يكتب نبوءة مفتوحة لا تجد من يقرأها إلا بعد فوات الأوان.
بواسطة حسين جلعاد
.
حرب على الإنسانيبدو أن ما يصفه كولون في كتابه هذا لا يحدث في الغرب فحسب، بل يعيش بيننا يوميا في العالم العربي، حيث تتناسل الجيوش الإلكترونية وتُدار الحسابات الوهمية مثل فرق ظلّ داخل الفضاء العام. وصارت المعلومة تُستخدم سلاحا سياسيا وأمنيا، لا لتنوير المواطن بل لإخضاعه أو تشويشه.
في حملات التضليل المرتبطة بالحروب الإقليمية أو بالقضايا الحساسة -من فلسطين إلى سوريا واليمن وإيران– تتكرّر التقنيات نفسها التي يحذر منها كولون، أي صناعة رواية واحدة، إسكات الأصوات المستقلة، وتزييف الوعي الجماعي عبر "المحتوى المدفوع".
في هذا السياق، يغدو الكتاب مرآة محرجة لنا جميعا، سواء الصحفي الذي ينساق وراء الخطاب الجاهز، أو المواطن الذي يشارك منشورا من دون تمحيص، أو حتى صانع القرار الذي يظن أن السيطرة على الإعلام تعني السيطرة على الحقيقة.
حرب المعلومات، كما يقول كولون، لا تنتهي، لأنها ببساطة حرب على الإنسان نفسه، وعلى قدرته في أن يفكّر بحرّية.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: دراسات شفافية غوث حريات حرب المعلومات السیطرة على کولون فی لم تعد
إقرأ أيضاً:
الإفتاء: نشر المقاطع غير الأخلاقية على وسائل التواصل «حرام شرعًا وقانونًا»
أكدت دار الإفتاء المصرية، أن ما يقوم به بعض صُنّاع المحتوى المعروفين باسم "البلوجر" من نشر مقاطع فيديو غير أخلاقية على منصات التواصل الاجتماعي بهدف زيادة المشاهدات وتحقيق الأرباح، يُعد عملًا محرَّمًا شرعًا ومجرَّمًا قانونًا.
وجاء في نص الفتوى، التي أصدرها فضيلة الأستاذ الدكتور نظير محمد عياد – مفتي الجمهورية، أن نشر هذه المقاطع التي تحتوي على ألفاظٍ أو حركات خادشة للحياء يمثل نوعًا من إشاعة الفاحشة التي نهى عنها الإسلام، واعتبرها جريمة تستوجب العقوبة في الدنيا والآخرة، لما فيها من إفسادٍ للأخلاق العامة وتدميرٍ للقيم المجتمعية.
وأوضحت دار الإفتاء أن بعض من يُطلق عليهم لقب البلوجر أو المؤثرين يلجأون إلى إثارة الجدل عبر محتوى مبتذل بغرض جذب المتابعين وتحقيق مكاسب مادية، وهو ما يُعد مخالفة صريحة لتعاليم الدين، الذي يأمر بالستر والعفة وينهى عن كل ما يُثير الغرائز أو يُضعف القيم.
وأشارت الفتوى إلى أن التهاون في نشر هذا النوع من المحتوى يُسهم في تطبيع الفاحشة داخل المجتمع، ويُشجع الشباب على تقليد هذه السلوكيات غير الأخلاقية، مما يهدد سلامة النشء وقيم الأسرة المسلمة.
وفي ختام الفتوى، ناشدت دار الإفتاء أولياء الأمور بضرورة مراقبة المحتوى الذي يتعرض له أبناؤهم على منصات التواصل الاجتماعي، وحثّهم على الابتعاد عن النماذج الهابطة التي تتستر تحت اسم الترفيه أو الكوميديا، داعية إلى تقديم بدائل ترفيهية هادفة تُنمّي الوعي وتُعزز الأخلاق.
كما شددت الدار على أن مسؤولية حماية المجتمع من الانحلال الأخلاقي تقع على عاتق الجميع: الأسرة، والمدرسة، والإعلام، ومؤسسات الدولة، مؤكدة أن مواجهة هذا النوع من الانحرافات تتطلب تعاونًا مجتمعيًا جادًّا لإعادة ضبط منظومة القيم في ظل الانفتاح الرقمي الكبير.
الستر لا إلى التشهير
واختتمت دار الإفتاء بيانها بالتذكير بتوجيهات الشرع الحنيف التي تحث على الستر والاستتار، وتنهى عن المجاهرة بالمعاصي، مشيرة إلى قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: 19]
وأكدت الدار أن منصات التواصل يجب أن تكون وسيلة لنشر الخير والعلم والقيم، لا ساحةً لبث السوء أو جني الأرباح على حساب الأخلاق والدين.