الوطن والمواطن.. علاقة وجود ومسؤولية (2-2)
تاريخ النشر: 19th, November 2025 GMT
خالد بن سالم الغساني
كنتُ قد تناولتُ في الجزء الأول من هذا المقال، موضوع المواطن ودوره في بناء الوطن، وفي هذا الجزء الثاني أسلّط الضوء بشيء من التفصيل على حدود العلاقة بين الطرفين ومفهوم المواطنة الحقّة.
يعيش وطننا اليوم أبهى أيامه، وهو يحتفي بيومه الوطني، يومٌ تتجدد فيه مشاعر الفخر والولاء والانتماء، وتتعانق فيه الذاكرة بالتاريخ، ويستحضر فيه المواطن ما بذله الآباء والأجداد من تضحيات لبناء هذا الكيان العظيم.
لقد ألحّ عليّ النقاش الدائر حول هذا الموضوع، وفي إطار الحديث عن بعض القرارات التي تصدر عن بعض الجهات الرسمية، والتي تتخذ انطلاقًا من الحرص على تنظيم بعض أمور الشأن العام، والنظرة إلى مدى صوابية تلك القرارات من عدمها، من قبل البعض؛ لأن أقول رأيًا أشعر أنه من الضروري الإفادة به، طالما أن الأمر يخص الوطن والمواطن، ونحن نعيش جميعًا في ظل مسؤولية مشتركة، باعتبارنا مواطنين يجمعنا تراب واحد وغاية واحدة. الوطن ليس حدوداً جغرافية مجردة، إنه الحاضنة الكبرى التي تحتوي أبناءها جميعًا، والمواطن هو من يمنحه الحياة والمعنى، ويحمي كيانه بروحه وفعله. والحديث عن الوطن لا يكون حديثًا دون ارتباط؛ لأنه حديث عن الوجود ذاته، عن الجذر الذي منه نبتنا، وإليه نعود.
وفي النقاش الدائر، كثيرًا ما اختلط على البعض مفهوم الوطن بمفهوم المواطن، حتى يصبح أحدهما مرادفًا للآخر، بينما في رأيي وأظنها الحقيقة أن لكلٍّ منهما مكانته ووظائفه، وعلى الآخر أن يعيها جيدًا ويعمل على عدم الإخلال بأي منها أو يخالجه سوء الفهم حيالها. فالوطن هو ذلك التراب الذي ننتمي إليه ونحيا فوقه، والمواطن هو ذلك الإنسان الذي يعيش على هذا التراب ويعمّره ويحميه. العلاقة بينهما علاقة أزلية لا تنفصم، فالمواطنة مرتبطة بالوطن ارتباط الروح بالجسد، وكلما قوي هذا الارتباط ازدادت الأوطان أمنًا وثباتًا وازدهارًا.
ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتحول المشاعر أو المعتقدات إلى حقائق مطلقة تخلط بين المفاهيم. فحين تسوء العلاقة بين الرئيس والمرؤوس، لا يجوز أن يتحول الوطن إلى مجرد تراب بلا قيمة، أو أن يصبح الإنسان هو الوطن وحده. فلكل منهما حق وواجب، والعلاقة بين أي سلطة ومواطن يجب أن تقوم على توازن الحقوق والواجبات. وإذا حدث خلل أو تقصير من أي طرف، فلا يصح أن تكون النتيجة هي التضحية بالوطن؛ لأن الوطن هو البوتقة التي تتسع للجميع، والملاذ الذي لا غنى عنه مهما اختلفت وجهات النظر أو اشتدت الأزمات.
الوطن، في عمق جوهره هو الأمان والهوية والانتماء، ولا قيمة لإنسان دون وطن يحميه ويمنحه اسمه ومكانه في هذا العالم؛ فالتخلي عن الأوطان بحجة المطالبة بالحقوق أو الاعتراض على السياسات هو خلل قاتل، لأنه يهدم الأساس الذي تقوم عليه كل الحقوق. الوطن هو الذي يمنحنا القدرة على المطالبة، وهو الذي يحتضن حوارنا واختلافنا وتطلعاتنا. فإذا انهار الوطن، لم يبقَ مجال لأي حق، لأن الحقوق لا تُمارس في الفراغ، بل داخل كيان وطني متماسك.
لهذا، يجب أن ندرك أن الدفاع عن الوطن لا يتناقض مع المطالبة بالحقوق؛ بل هو الإطار الذي يجعلها ممكنة ومشروعة. فالحفاظ على الوطن هو مسؤولية جماعية، تبدأ من إيمان المواطن بأنه شريك في البناء، لا متلقٍّ للقرارات. والولاء الحقيقي لا يعني الصمت عن الأخطاء، بل يعني الإصلاح من الداخل، بالكلمة والموقف والعمل، دون أن نسمح لأي خلاف أن يهز ثقة الإنسان في وطنه أو يضعف انتماءه له.
نحن اليوم، ونحن نحتفل بيوم الوطن، بحاجة إلى أن نعيد ترسيخ هذه المفاهيم في وعينا الجمعي. الوطن ليس شعارًا نردده في المناسبات ونمجده في الخطب والمقالات؛ بل هو فعل يومي نحياه في سلوكنا، في إخلاصنا لأعمالنا، في محافظتنا على مكتسباتنا، وفي شعورنا الصادق بأن أي ضرر يلحق بالوطن هو ضرر بنا جميعًا. إنه بيتنا الكبير، ومن يعبث بجدرانه يضر نفسه أولًا، ومن الواجب ان لا يُسمح له بالاستمرار في ذلك العبث.
إنّ الأوطان تبقى ما بقي فيها من يؤمن بها، ويدافع عنها، ويعمل لأجلها بإخلاص. وعلينا أن نتذكر دائمًا أن الوطن لا يطلب منا المستحيل، بل يطلب فقط أن نكون على قدر المسؤولية، وأن نحافظ على وحدته ومكانته، وأن نطالب بحقوقنا فيه بعزة وكرامة، لا خارجه ولا على حسابه. فالوطن هو الحقيقة الثابتة التي لا ينبغي أن تهتزّ أمام أي خلاف، وهو الحاضنة التي تتسع للجميع مهما اختلفت آراؤهم.
وهكذا، تبقى الأوطان دائمًا هي من تستحق أن ندافع عنها، وأن نطالب داخلها بحقوقنا، وأن نحيا فيها مرفوعي الرأس، لأننا بدونها لا شيء، وبها نكون كل شيء.
أطيب التهاني وأصدقها للوطن وقائد الوطن وأبناء الوطن بمناسبة أعياد الوطن وأفراحه..
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
مصطفى الفقي: بن سلمان أمير غير تقليدي ويقود تحولًا في صياغة العلاقة بواشنطن
أكد الدكتور مصطفى الفقي، المفكر السياسي، أن زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى الولايات المتحدة تُعد "زيارة مهمة وقوية"، مشيرًا إلى أن الأمير يُمثل نموذجًا "لأمير غير تقليدي" في المنطقة العربية، ويتحدث مع رئيس أكبر دولة في العالم بلغة تتوافق مع الرؤية الأمريكية الحديثة، مركّزًا على ملفات الرقائق الإلكترونية والذكاء الاصطناعي.
وأوضح مصطفى الفقي، خلال لقاءه ببرنامج "يحدث في مصر"، المٌذاع عبر شاشة "إم بي سي مصر"، أن زيارة ولي العهد تؤكد أننا أمام نمط جديد في قيادة المنطقة، وأن العلاقات بين الرياض وواشنطن تشهد تحولًا يتسق مع العقلية الغربية، مضيفًا: "نحن الآن تقاربت الموجات ونتحدث في نفس الموضوعات وعلى أرضية مشتركة".
وأشار مصطفى الفقى، إلى أن العلاقات الأمريكية السعودية تشكّلت تاريخيًا بعد انتهاء الدور الأوروبي البريطاني في الجزيرة العربية عقب سقوط الخلافة العثمانية وظهور آل سعود، موضحًا أن الولايات المتحدة أدركت مبكرًا أن السعودية قوة فاعلة في المنطقة، وأنها الحليف والصديق الذي يمكن الاعتماد عليه.
وشدد مصطفى الفقي، على أن الملك عبدالعزيز كان رجلًا واضحًا مستقيم الفكرة والعبارة، وأن أمريكا أيقنت منذ ذلك الوقت أنه حاكم قوي قادر على تحقيق أهدافه، مؤكدًا أن السعودية اليوم لم تعد تعتمد على اقتصاد السلعة الواحدة المتمثل في البترول، مشيرًا إلى بروز مجالات جديدة تزاحم بقوة، مثل السياحة والترفيه.
وتابع: "أؤكد على ضرورة تثمين هذا التحول الذي طرأ على تركيبة العلاقة بين البلدين، وما تشهده العلاقات السعودية الأمريكية من تطور لافت".