الإيمان بنظرية المؤامرة وقايةٌ من الصدمات
تاريخ النشر: 4th, December 2025 GMT
في غضون أيام قليلة مرت ثلاث قصص لا شيء يجمع بينها لكنها تستحق الوقوف عندها:
ـ إسرائيل تعمل منذ شهور على إنشاء شبكة من الميليشيات العميلة لها في قطاع غزة لتكون بديلا لحماس وعين إسرائيل وذراعها هناك. لا تكتفي إسرائيل بميليشيات محدودة العدد والانتشار، ولم تتعلم من كل تجاربها في إنشاء مجموعات العملاء وتمويلها، في الضفة الغربية ولبنان وكردستان العراق في عهد صدام حسين، بل تسعى لتشكيل شبكات محلية صغيرة متغلغلة في المجتمع كأن يكون لكل حي ميليشيا خاصة به يرعاها ضابط اتصال إسرائيلي من جهاز الأمن الداخلي ـ الشين بيت.
ليس في الأمر ما يدعو للاستغراب، فهذا هو الأصل وهذا ما يجب أن يكون بالنظر إلى العداء المستفحل في إسرائيل تجاه غزة.
ـ الادعاء العام في ميلانو الإيطالية فتح تحقيقا في اتهامات لرجال أعمال إيطاليين وغربيين مارسوا ما لا يخطر على عقل سوّي خلال حصار سراييفو في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي: دفعوا أموالا لشركة تكفلت بنقلهم إلى سراييفو للاستمتاع بقنص المدنيين البوسنيين المُحاصَرين. كشف هذا العار صحافي إيطالي مستقل وتقاطعت معلوماته مع معلومات جهات أخرى. اختلفت الأسعار التي دفعها القنّاصة حسب الهدف.. للرجال سعر وللأطفال سعر وللنساء والفتيات سعرهن أيضا.
ـ خلال الاحتلال الأمريكي لأفغانستان استثمرت وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أي) أموالا طائلة في برنامج زراعي كانت غايته إغراق أفغانستان ببذور نبتة الخشخاش التي تُستعمل في تصنيع الهيروين. لكنها بذور مشوّهة بحيث يكون المنتوج النهائي شبيها بنبتة الخشخاس لكنه عديم الفعالية. بينما كان الخبراء والدبلوماسيون يبحثون عن طريقة للتحكم في هذه الزراعة، دون الإضرار بولاء الأرياف الأفغانية للاحتلال الغربي وحكومة حامد قرضاي العميلة له، مثل رشِّ الحقول بمواد سامة من الجو، أو شراء المحصول كليا وإرساله إلى الغرب للاستفادة منه طبيا، كانت «سي آي أي» تعمل من وراء الجميع على خطة وضعتها بنفسها دون إشراك أحد. خبأت الوكالة خطتها حتى على كبار القادة الأمريكيين (دعك من الأوروبيين وقادة حلف النيتو والحكومة الأفغانية) الضالعين ميدانيا في الشأن الأفغاني، باستثناء دائرة ضيقة في مكتب الرئيس بوش الابن.
بدأت العملية سنة 2004 وتواصلت 11 عاما مستمرة.
مرة أخرى ليس في الأمر أيّ سر. بعض المطلعين على العملية تحدّثوا عنها بالتفصيل لصحيفة الواشنطن بوست، وكشفوا أنه عندما اقتربت العملية من نهايتها في 2015، فكرت الوكالة في تكرار التجربة في المكسيك.
كنت في نقاش مع أحد الأصدقاء فاستغرب وقال إنه يجد صعوبة في تصديق هذه الأخبار، خصوصا قنص المدنيين الذين كانت تحاصرهم الميليشيات الصربية في البوسنة مثلا.
وسيكون أهم اكتشاف أن كل شيء مخطط سلفا ومدروس، وألا شيء وقع بالصدفة
قلت لصديقي إنني لا أكتفي بتصديق كل هذه القصص، بل أرجّح وقوع أسوأ منها سيسمعها العالم عندما تُرفع عنها السرية. لا أدّعي علما بعيدا ولا ضربا في الرمل، لكنني أؤمن بنظرية المؤامرة حتى أحافظ على توازني وأحمي نفسي من الصدمات والمفاجآت (عندما أسمع، على سبيل المثال لا الحصر، أن المخابرات الكندية جنّدت عميلا تقدم لطلب اللجوء في سفارتها بعمّان، وكلفته بتهريب مراهقات للانخراط في «داعش» في سوريا؛ وأن رؤساء حكومات ووزراء في دول إفريقية عملوا مخبرين براتب عند المخابرات الفرنسية؛ وأن الصومال تجسست على مؤسسات سويدية أو فنلندية). لهذا أثق بأن ما يبدو لنا اليوم من ضروب الخيال، سيتبيّن بعد عقود أنها وقائع مقصودة ومخطط لها، حدثت برعاية دول وحكومات وضع الناس فيها ثقتهم المطلقة.
لا حاجة لأن تسأل أو تستغرب. بعد عقود من الآن سيكتشف الذين سيأتون بعدنا تفاصيل مرعبة عمّا فعلت إسرائيل في غزة خلال العامين الماضيَين، وسيصدمهم اكتشاف أشياء ولو قليلة عمَّن فعل ماذا وكيف. سيعرفون أشياء مرعبة عن الحروب الأهلية في إفريقيا والأزمات السياسية والاجتماعية في آسيا، عن الانقلابات العسكرية هناك وهناك، عن جائحة كورونا ودور لوبيات الدواء واللقاحات.
وسيكون أهم اكتشاف أن كل شيء مخطط سلفا ومدروس، وألا شيء وقع بالصدفة.
لكن بعد فوات الأوان وشفاء الجروح. آنذاك يكون أغلب الذين سيكتشفون الحقائق من غير أصحاب العلاقة المباشرة بالمآسي التي يجري كشف تفاصيلها.
عامل الزمن هو الحل. أولاً الطبيعة البشرية تكون قد انتقلت من حالة ذهنية واجتماعية معينة إلى أخرى مختلفة تجعل الإنسان يجد صعوبة في العودة إلى ما مضى وانتهى بغض النظر هل تعنيه تلك الوقائع أم لا. كما أن الفاعلين يكونون في أرذل العمر أو ماتوا فلا يستحق الأمر عناء فتح متاهة ملفاتهم ومساءلتهم. إضافة إلى أن ذبول الذاكرة تنجم عنه شكوك مشروعة تُسهّل تكذيب الوقائع التاريخية وإحاطتها بالتردد.
هذا ما يجعل الحكومات الغربية تسمح برفع السرية عن الوثائق والمعلومات الخطيرة فقط بعد مرور سنوات عديدة لا تقل في كثير من الحالات عن 30 سنة وتصل أحيانا إلى 50 سنة أو تتجاوزها.
في الحالات الثلاث المذكورة أعلاه (وفي غيرها) يملك القائمون عليها دائما مبررات ومسوّغات تغري المرء بتفهمهم والتعاطف معهم.
من ذلك الأمن القومي وحماية المجتمعات وتقليل خطر الأشرار وتقليص مساحة الأذى. إذا أردت أن تتعاطف مع هؤلاء الشياطين، فهذه المسوّغات تكفي وتزيد، لكن هذا لا يلغي حقيقة أن أجهزة الاستخبارات والدوائر المظلمة التي تقود العالم وتتحكم في صنّاع القرار فيه تغوّلت منذ البداية وبات مستحيلا تجريدها من قوتها ولا شيء يردعها عن فعل ما تريد. أما عودتها لأخذ الموافقات من الرؤساء في الغرب فمسألة أقرب إلى الشكليات الهدف منها حفظ ماء وجه رئيس الحكومة أو الدولة، وحماية ظهرها من أيّ تبعات غير محسوبة.
وللإنصاف يجب التذكير بأن المهمات القذرة، أو السعي لها على الأقل، ليست حكرا على الدول الغربية الكبرى. فكّر في أضعف بلاد تخطر على بالك، وثِقْ أن مخابراتها ربما ضالعة في هذه اللحظة بالذات في مهمة قذرة ما لا تخطر على بالك.
القدس العربي
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه غزة الاحتلال غزة الاحتلال نظرية المؤامرة جرائم الاحتلال مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة لا شیء
إقرأ أيضاً:
الاستسلام لبوتين لن يكون تنازلًا عن أوكرانيا فقط
ترجمة: أحمد شافعي
أهم ما في فضيحة الفساد التي شهدتها أوكرانيا مؤخرا هو أن لها ما لها. فهي فضيحة، بمعنى أنها ليست جزءًا طبيعيًا من الحياة هناك.
ففي الشهر الماضي، أفضى تحقيق أجراه المكتب الوطني لمكافحة الفساد في أوكرانيا، وهو جهة مستقلة، إلى توجيه الاتهام لحلفاء للرئيس فولوديمير زيلينسكي من بينهم وزيران بالاحتيال والكسب غير المشروع لما يصل إلى مائة مليون دولار.
وقد استقال الوزيران، وكذلك رئيس ديوان الرئيس، في حين يبدو أن شريكًا تجاريًا سابقًا للرئيس قد فر من البلد. وفي حين أنه لم يتم توجيه اتهام للرئيس نفسه بارتكاب مخالفات فقد لحق به ضرر سياسي. ولطالما كان الفساد هو الخطأ في أوكرانيا. أما التحقيق، والمساءلة القانونية والسياسية التي صاحبته، فهو الصواب. فالبلد الذي يستطيع التحقيق مع قادته حتى وهو يخوض حربًا من أجل وجوده بلد يستحق الدفاع عنه.
وهذه هي الفكرة التي يجب أن تحرك أي شخص لا ينتمي إلى فريق (السلام مهما يكن الثمن) في إدارة ترامب. ولقد كان اثنان من أقطاب هذا الفريق ـ هما ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر ـ في موسكو يوم الثلاثاء من أجل إجراء محادثات شخصية مع فلاديمير بوتين. كما كان هذان المقاولان العقاريان هما اللذان وضعا سابقا ـ وبالتعاون مع كيرير ديميترييف ممثل بوتين في المفاوضات ـ خطة من ثمان وعشرين نقطة تم التوصل إليها في ميامي وتعدل وثيقة استسلام من أوكرانيا وإن كان التفكير الذي قامت عليه ـ كما كتبت صحيفة وول ستريت جورنال الأسبوع الماضي ـ أشد إثارة للفزع. قالت الصحيفة: إن «محادثات ميامي، بالنسبة للكريملين، كانت بمنزلة ذروة لاستراتيجية حيكت قبل تنصيب ترامب لتجاوز جهاز الأمن الوطني التقليدي في الولايات المتحدة وإقناع الإدارة بالنظر إلى روسيا، لا باعتبارها تهديدا عسكريا، وإنما باعتبارها أرضا خصبة للفرص الوفيرة». ومضت الصحيفة تقول: إنه «من خلال التلويح بصفقات المعادن النادرة التي تبلغ قيمتها مليارات الدولارات، يتسنى لموسكو أن تعيد صياغة خريطة أوروبا الاقتصادية مع بث أسباب العداوة والفرقة بين أمريكا وحلفائها التقليديين».
ما الخطأ في هذا التفكير؟ لو عدلنا مقولة تشيرشل عن روسيا ـ «هي لغز مغلف في غموض وموضوع في إبهام» ـ يمكننا القول عن فكرة السلام من خلال التجارة إنه مصالح ذاتية مغلفة في أوهام عن الذات وموضوعة بداخل إضرار بالذات.
والتاريخ يفندها: فلقد كانت بريطانيا وألمانيا شريكين تجاريين أساسيين في عشية الحرب العالمية الأولى، وكانت الروابط الاقتصادية بين الصين والغرب قد تنامت حينما أصبحت الصين أشد ضراوة. والتجربة مع روسيا في عهد بوتين تدحض هي الأخرى هذه الفكرة: فقد تعرضت الشركة الغربية تلو الأخرى للاحتراق ـ أو ما هو أنكى منه ـ في أثناء العمل مع روسيا في الحقبة التي كان يفترض فيها أن الكريملين يرحب بالاستثمار الأجنبي.
والعقل السليم أيضا يدحض هذه الفكرة. فلو أن بوتين مهتم بالسلام والرخاء بين روسيا والغرب، لكان قد سعى إليهما على مدار خمسة وعشرين عاما له في السلطة.
لكن بوتين لا يريد التعايش، إنما يريد الهيمنة حتى ولو جاءت على حساب مليون ضحية تكبدتها قواته حتى الآن بحسب ما تفيد التقارير. فالمثل العليا لديه ليست أمثال بيل جيتس أو كونراد أديناور، وإنما هي أمثال بطرس الأكبر وإيفان الرهيب.
وهذا ما لن يتغير. فبوتين الآن في الثالثة والسبعين من العمر، ويرى نفسه شخصية تاريخية عالمية وقد نجح حتى الآن في تحقيق أهدافه ضد خصومه الذين يحتقرهم ويراهم ضعفاء أو مغرورين أو قابلين للفساد. وبإرسال اثنين من المقاولين العقاريين إليه من أجل التفاوض، لم يزد الرئيس ترامب على إقرار موقف بوتين. والخطر الكبير الآن يتمثل في أن بوتين سوف يوافق، بشروط، على صورة ما من «خطة السلام» التي أقرها ترامب، فيضع ضغطا دبلوماسيا لا يحتمل على كييف للقبول بها. ويندرج ضمن الآثار الأخرى أن هذا سوف يؤدي إلى تصدع السياسات الأوكرانية، وتصدع حلف الناتو، وإنقاذ الاقتصاد الروسي، وتقوية الأصوات المناصرة لروسيا في الوسط السياسي الأوروبي، ويمهل روسيا وقتا لاستعادة قوتها العسكرية. وفي المقابل، سوف تحصل أوكرانيا على نوع من الوعود الورقية التي سبق لها الحصول عليها سنة 1994 حينما تخلت عن أسلحتها النووية في مقابل ضمانات أمنية غير ملزمة ـ وهذه تذكرة أخرى بأن نزع السلاح غالبا ما يكون طريقا للحرب لا للسلام.
وهذا سؤال موجه لماركو روبيو: إلى أي مدى ستكون الضمانات الأمنية الأمريكية جيدة بالنسبة لكييف في عام 2029، حينما يكون روبيو مواطنا عاديا، ويكون جيه دي فانس رئيسا، ويكون بوتين جائعا إلى قطعة أخرى من أوكرانيا؟
هناك دائما فرصة سانحة لأن يغالي بوتين في تقدير قيمة ما لديه من أوراق، فيعطي ترامب مرة أخرى الإحساس بأن روسيا «تستغلنا» على حد قوله في مايو الماضي، ويحيي شهية الإدارة إلى الدفاع عن أوكرانيا. وفضلا عن كون ذلك هو الصواب الواحب، فإنه سوف يشير للصين بأن الإدارة لن تتنازل عن استقلال تايوان في مقابل فرص تجارية مربحة لعائلة ترامب وأصدقائه. لكن لا يجب أن يعول على ذلك زيلينسكي ومن تبقى له من أنصار في أوروبا. فقد يكون لزاما عليهم عما قريب أن يختاروا اختيارا صعبا بين التشبث بسلام مؤقت أو مواصلة المعاناة في حرب مرهقة. وما لكاتب يكتب مقاله من أمان نيويورك أن يسدي النصائح، ولكن لتشرشل مقولة أخرى جديرة بالذكر، وهي أن «الدول التي انهارت وهي تقاتل نهضت من جديد، أما التي استسلمت في خضوع فقد انتهى أمرها».
والتحذير الأكبر ها هنا هو تحذير للأمم الحرة أينما هي، وبخاصة في أوروبا. قد يكون عصر السلام الأمريكي موشكا على الانتهاء. ومن الآن فصاعدا، ستكون كل منطقة، أو بلد، وحدها في مواجهة خصوم مجترئين وجشعين. ومن يريد أن يعرف كيف يكون القتال، فيكفيه أن ينظر إلى الأوكرانيين الذين نتخلى عنهم، ونحن راضون بالمخاطرة وبالعار أيضا.
بريت ستيفنز من كتاب الرأي في نيويورك تايمز