جريدة الرؤية العمانية:
2025-12-06@17:21:55 GMT

من يحرس المستقبل؟

تاريخ النشر: 6th, December 2025 GMT

من يحرس المستقبل؟

 

 

 

خالد بن حمد الرواحي

في عالمٍ تتسارع فيه التقنيات بوتيرة تكاد تخطف الأنفاس، لم يعد الذكاء الاصطناعي ترفًا معرفيًا أو موجةً عابرة، بل تحوّل إلى ركنٍ جوهري في منظومة الأمن الوطني بمعناه الواسع. فالأمن اليوم لا يُقاس بحدودٍ تُراقَب فقط، بل بقدرة الدول على إدارة بياناتها، وقراءة مخاطرها، وصنع قرارات دقيقة تستند إلى الأدلة لا إلى الحدس.

وفي ظل هذا الواقع المتحوّل، يبرز سؤالٌ يزداد إلحاحًا: كيف نضمن أن يكون الذكاء الاصطناعي مصدر قوة… لا بوابة لمخاطر غير محسوبة؟

لقد أثبتت التجارب أن هذه التقنيات قادرة على فتح آفاق نوعية غير مسبوقة، إذ تمنح الحكومات قدرة أعلى على رصد التهديدات قبل وقوعها، وتحليل الأنماط الشاذة، والتعامل مع ملايين البيانات في لحظات. وبفضلها أصبحت بعض الدول أكثر استعدادًا لاكتشاف الهجمات السيبرانية مبكرًا، وتحديد مصادر الخطر، واتخاذ قرارات دقيقة تستند إلى العلم لا إلى التخمين. ولم يأتِ هذا التحول من فراغ، بل من إدراكٍ متزايد بأن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد برامج وأدوات، بل منظومة تفكير جديدة توسّع أفق صانع القرار وتمنحه رؤية أعمق لمشهدٍ يتغير كل لحظة.

غير أنّ لهذه القوة وجهًا آخر لا يقل تعقيدًا؛ فالتحديات التنظيمية والتشريعية والأخلاقية باتت تُلزم الدول بإعادة النظر في طريقة إدارتها لهذه التقنيات. فالأنظمة الذكية لا يمكن أن تعمل بفاعلية من دون إطار قانوني واضح يضبط حدود الاستخدام، ويحمي الخصوصية، ويمنع التحيّز الخوارزمي، ويُحدد المسؤوليات عند وقوع المخاطر. وفي غياب هذا الإطار، يمكن أن تتحوّل التقنية من فرصة واعدة إلى ثغرةٍ تهدد الثقة والمؤسسات معًا.

وتكشف التجارب الدولية أن الدول التي نجحت في توظيف الذكاء الاصطناعي بدأت من "الحوكمة" قبل الشبكات، ومن "السياسة" قبل البرمجيات. فقد وضعت معايير واضحة لما يجوز وما لا يجوز، وحددت ملكية البيانات، وأنشأت آليات للمساءلة، ثم استثمرت في تأهيل كوادر وطنية قادرة على إدارة وتشغيل الأنظمة الذكية. فالتقنية، مهما بلغت قوتها، لا تصنع أثرًا من دون عقل بشري يقودها بوعي ومسؤولية.

أما في سلطنة عُمان، فقد قطعت الدولة شوطًا مهمًا في بناء البنية الأساسية الرقمية وتطويرها، غير أن التحدي الأبرز يظل متمثلًا في نضج البيانات وتكاملها بين الجهات. فالبيانات هي الوقود الحقيقي للذكاء الاصطناعي، وإذا كانت موزعة بين أنظمة متعددة، أو غير محدثة، أو تفتقر إلى الترابط، فإن قدرة التقنية على خلق قيمة حقيقية ستظل محدودة. ولهذا تبدو الحاجة ملحّة اليوم لتعزيز الحوكمة الرقمية، وتوحيد المعايير، ورفع جودة البيانات قبل التوسع في تطبيقات الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع. وتمثّل هذه الجهود جزءًا من التوجهات الوطنية الكبرى التي أكدت عليها «رؤية عُمان 2040»، ولا سيما في محاور التحول الرقمي، والابتكار، وبناء اقتصاد قائم على المعرفة.

وانطلاقًا من ذلك، يبرز اليوم خيار استراتيجي لا يمكن تأجيله: إنشاء منظومة وطنية موحدة لحوكمة الذكاء الاصطناعي، تكون مظلة تجمع الجهات الحكومية تحت إطار واحد، وتربط السياسات بالأنظمة، والبيانات بالقرارات، وتضمن الاستخدام المسؤول لهذه التقنيات. فوجود مثل هذه المنظومة لن يختصر الوقت والجهد فحسب، بل سيعزز الجاهزية المؤسسية، ويحوّل الذكاء الاصطناعي من مبادرات متناثرة إلى مشروع وطني متكامل يخدم الأمن والتنمية معًا.

فالذكاء الاصطناعي ليس قادمًا… بل حاضرٌ يعيش بيننا. والسؤال الحقيقي لم يعد: هل سنستخدمه؟ بل: كيف سنستخدمه؟ وفي أي سياق وطني يمكن أن نضمن أن يكون درعًا يحمينا، لا ثغرةً تتسلل منها المخاطر؟

وحين تتقاطع التقنية مع الأمن الوطني، تصبح المسافة بين القوة والهشاشة رقيقة؛ لا يحسمها تطور الأنظمة وحده، بل نضج السياسات، ووعي المؤسسات، وثقة المجتمع.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

الاقتصادات العربية من التكيّف إلى صناعة المستقبل


يمرّ الاقتصاد العربي في طور دقيق من التغير تتداخل فيها الأزمات العالمية مع التحديات الإقليمية. أسواق الطاقة غير المستقرة، وحركة التجارة العالمية التي تعاني من توترات متواصلة، والمراكز الصناعية الجديدة في آسيا التي تزداد تأثيراً في الأسواق العالمية، كلها مجتمعة أصبحت تغيّر موازين الاقتصاد الدولي. في هذا المشهد المتقلب، تحتاج المنطقة العربية إلى نموذج اقتصادي قادر على الصمود والتطور، يقوم على مبادئ التنويع والإنتاج والمعرفة.
المشهد الدولي المتغيّر
من الواضح بأن الاقتصاد العالمي يشهد انتقالاً تدريجياً في مراكز النفوذ الاقتصادي. فالصين والهند أصبحتا من أبرز القوى المحركة للإنتاج والتكنولوجيا والاستثمار، بينما توسّع تكتلات مثل "بريكس" ومنظمة "شنغهاي" مجالات التعاون بين الاقتصادات الصاعدة. هذا التحول يُغيّر خريطة النمو العالمي، ويمنح الدول خيارات أوسع لبناء شراكات جديدة خارج النفوذ الغربي التقليدي.
وتقع الاقتصادات العربية في دائرة التأثر المباشر بهذه التحولات. اعتماد العديد من دول المنطقة على صادرات النفط والغاز يجعل موازناتها مرتبطة بأسعار الطاقة العالمية. أكثر من ثلثي الإيرادات الحكومية في بعض الدول الخليجية ما زالت تأتي من قطاع الطاقة، مما يجعل أي تراجع في الطلب أو تشدد في سياسات خفض الانبعاثات عاملاً مؤثرًا في الاستقرار المالي.
وتزيد الاضطرابات الجيوسياسية في مناطق العبور البحري - مثل البحر الأسود وبحر الصين الجنوبي - من كلفة النقل والتأمين، وهو ما ينعكس على حركة التجارة العالمية، خصوصًا في الدول التي تعتمد على استيراد المواد الأساسية وتصدير الطاقة عبر هذه الممرات.
ورغم هذه التحديات، يحمل التحول العالمي في مجالات عدة فرص مهمة أمام المنطقة العربية. فالتوسع على سبيل المثال في الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر يمكن أن يشكّل أساسًا لمرحلة جديدة من النمو، ويمنح الاقتصادات العربية موقع متقدم في منظومة الطاقة المستقبلية، خاصة إذا ارتبط هذا التوجه بسياسات واضحة للبحث العلمي والتصنيع المحلي.
الأوضاع الإقليمية وضعف التكامل
البيئة الاقتصادية العربية ما زالت تواجه أزمات سياسية وأمنية في عدد من الدول، مثل اليمن وسوريا وليبيا والسودان، وهي نزاعات تستنزف الموارد وتضعف ثقة المستثمرين. كما أن محدودية التعاون بين الدول العربية تقلل من فرص بناء سوق إقليمية متكاملة. فالتجارة البينية لا تشكّل سوى نحو 10% من إجمالي التجارة العربية، وهي نسبة منخفضة جداً مقارنة بالمستويات التي حققها الاتحاد الأوروبي، حيث تتجاوز التبادلات الداخلية بين دوله 60% من حجم تجارته. هذا التفاوت يوضح حجم الفجوة في التكامل الاقتصادي، ومدى ما يمكن أن يحققه التعاون العربي إذا توفرت الإرادة السياسية والإطار المؤسسي الفاعل.
في الوقت نفسه، يزداد الضغط على الأمن الغذائي والمائي. ندرة المياه، والجفاف، وتراجع المساحات الزراعية، تفرض تحديات وجودية على بعض الدول. الاعتماد الكبير على استيراد الغذاء يجعل المنطقة عرضة لتقلبات الأسعار العالمية. لذلك، فإن التعاون في مجالات الزراعة الحديثة وإدارة المياه يصبح شرطًا أساسيًا لاستمرار التنمية واستقرارها.
عناصر القوة وفرص المنافسة
رغم هذه التحديات، تمتلك المنطقة العربية مقومات قوية يمكن أن تشكل أساساً للنهوض الاقتصادي. فهي تملك أكبر احتياطي من النفط في العالم ونسبة عالية من الغاز الطبيعي، إضافة إلى موقع جغرافي يربط آسيا بأوروبا وإفريقيا ويمر عبره جزء كبير من تجارة الطاقة العالمية.
العنصر البشري يمثل ثروة أخرى مهمة، فمعظم سكان المنطقة من فئة الشباب. هذه الطاقة البشرية قادرة على دفع التنمية إذا تم الاستثمار فيها من خلال التعليم الموجه نحو المهارات والتقنيات وريادة الأعمال. بعض الدول العربية بدأت بالفعل في هذا الاتجاه، مثل الإمارات والسعودية والمغرب، التي توسعت في مجالات التكنولوجيا والطاقة النظيفة والسياحة والصناعة الحديثة، بينما لا زالت بقية الدول العربية في طور ترجمة الخطط التنموية إلى برامج إنتاج حقيقية قابلة للتنفيذ.
التحديات العميقة
معدلات البطالة في المنطقة العربية ما زالت مرتفعة، وتتجاوز في بعض الدول 30%. الفقر ينتشر في عدد من الدول، والإنفاق على البحث العلمي لا يصل إلى واحد في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. هذه الأرقام تعكس ضعف القدرة على بناء اقتصاد معرفي متنوع.
كما أن الطابع الريعي للاقتصادات العربية ما زال يقيّد النمو المستدام. الاعتماد على الموارد الطبيعية دون تطوير الصناعة والخدمات ذات القيمة المضافة يجعل الاقتصادات أكثر عرضة لتقلبات الأسعار العالمية. كما أن البيروقراطية وكثرة الإجراءات الحكومية وضعف الشفافية تعيق الاستثمار المحلي والأجنبي، وتحدّ من قدرة القطاع الخاص على التوسع والابتكار.
خطوات التحول الاقتصادي
التغيير المطلوب لا يمكن أن يتحقق بالمعالجات السطحية، بل بخطط شاملة تعيد تنظيم العلاقة بين التعليم والإنتاج، وتفتح المجال أمام الابتكار والتكامل الإقليمي. البدء بتقليل الاعتماد على النفط ضرورة أساسية من خلال تطوير الصناعات التحويلية والزراعة الحديثة والسياحة المستدامة. إدماج التكنولوجيا في إدارة المؤسسات العامة والخاصة يسهم في تقليل التكاليف وتحسين الأداء. كما أن التعاون العربي في مجالات الطاقة والغذاء والمياه والبيانات يمكن أن يخلق شبكة اقتصادية واسعة قادرة على مواجهة الأزمات الخارجية.
تنويع الشراكات مع آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية يمكن أن يمنح الاقتصادات العربية مرونة أكبر، ويتيح فرصاً جديدة في مجالات البنية التحتية والتقنيات الخضراء. أما الاستثمار في التنمية البشرية، فيبقى الأساس لأي تحول حقيقي. الخطوة الأولى تبدأ من منظومة التعليم التي ينبغي أن تتحول إلى أداة لبناء المهارات والإبداع، عبر برامج تطبيقية ترتبط مباشرة بسوق العمل ومشاريع ريادة الأعمال.
الرؤية المستقبلية
الاقتصاد العربي يواجه تحديات صعبة، لكنه يمتلك في الوقت نفسه فرصة نادرة لإعادة بناء نفسه على أسس جديدة. المرحلة المقبلة تتطلب سياسات أكثر وضوحاً واستقراراً، ومؤسسات تملك صلاحيات حقيقية لإدارة التنمية ومراقبة تنفيذها. الشفافية في إدارة الموارد والالتزام بالحوكمة هما الطريق إلى استعادة الثقة وبناء قاعدة اقتصادية قوية.
المنطقة العربية تمتلك كل ما تحتاجه لتكون شريكاً فاعلاً في الاقتصاد العالمي إذا استطاعت تحويل مواردها الطبيعية والبشرية إلى طاقة إنتاجية حقيقية. لكن ما يجب إدراكه هو أن الاقتصادات الوطنية العربية لن تتقدم بمواردها فقط، وإنما بقدرة مجتمعاتها على توجيهها بوعي وكفاءة. العالم يعيش تغيرًا سريع الإيقاع، ومن يتباطأ أو لا يواكب هذا التغيير بوعي يفقد موقعه في حركة التاريخ. 
أمام الدول العربية فرصة للانتقال من مرحلة التكيّف مع الأزمات إلى مرحلة صنع السياسات التي تحدد مستقبلها. المرحلة القادمة تحتاج إلى مشروع تنموي يجعل من المعرفة والإنتاج أساس القوة الاقتصادية الجديدة في المنطقة.

مقالات مشابهة

  • الاقتصادات العربية من التكيّف إلى صناعة المستقبل
  • وزير الخارجية يستعرض جهود مصر في مجال الذكاء الاصطناعي وحوكمة البيانات
  • هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون مضحكاً؟
  • هل يدفع الذكاء الاصطناعي اقتصادات دول كاملة نحو الهامش؟
  • تباين حاد في استخدام الذكاء الاصطناعي.. ما هي الدول التي تتقدم بخطى سريعة؟
  • وزراء يشيدون بإطلاق منحة طحنون بن زايد للتميز في الذكاء الاصطناعي
  • الذكاء الاصطناعي يحسن رصد مشاكل القلب عند الأجنة
  • عملاق الذكاء الاصطناعي يشتري شركة ناشئة لتطوير أدواته
  • تحقيق أوروبي حول دمج الذكاء الاصطناعي في واتساب