في عام 1965 استضافت قرية جبلية صغيرة في بلغاريا تُدعى كوبريفشتيتسا حدثًا لم يتوقع أحدٌ أنه سيغيّر صورتها إلى الأبد. إذ احتشد في هذه القرية آلاف المغنين والراقصين والعازفين الشعبيين، ليقدّموا ما توارثته القرى البلغارية من أناشيد ورقصات وطقوس قديمة. كان ذلك العام بداية المهرجان الوطني للتراث البلغاري الذي سيدفع بهذه القرية الصغيرة إلى واجهة الثقافة الوطنية، ويحوّلها ــ عبر دوراته المنتظمة كل خمس سنوات ــ إلى أكبر ملتقى للتراث الشعبي في بلغاريا، ما حدا بمنظمة اليونسكو إلى إدراج كوبريفشتيتسا في قائمتها للتراث غير المادي، لتثبت تلك القرية الصغيرة الهادئة أن الهامش إذا ما امتلك الرؤية والإرادة والروح الوثابة، فإنه قادر على أن يعيد تشكيل المركز بامتياز.
من هذا المثال البلغاري المشرّف يمكننا أن نقارب الإنجاز الكبير الذي حققته قرية عُمانية من قرى ولاية سمائل اسمها «الدنّ» استطاعت عبر فرقة صغيرة ولدت من حلم بسيط حمله قبل نحو ثلاثين عاما ثمانية طلاب فقط، أن تحقق للمسرح العُماني اليوم حضورًا ثقافيا مميزًا، ليس في الدول العربية فقط، بل تعداه إلى مدن وعواصم أوروبية، لتقدم لنا هذه القرية الوادعة مثالًا يحتذى في كيف أنه يمكن لمبادرة أهلية تبدأ من فضاء ضيّق، أن تتسع، وتتعلم، وتراكم خبرتها عامًا بعد آخر، حتى تصبح مهرجانًا عربيًّا ودوليًّا يستقبل العروض والفرق والفنانين من أنحاء العالم.
حين ظهرت أولى عروض الفرقة «أرجوك يا أبي» الذي أخرجه محمد النبهاني عام 1995، لم يكن أحد يتوقع أن هذا العرض البسيط سيصبح حجر الأساس لمشروع مسرحي متراكم وطويل النفس. فمنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم خاضت فرقة الدن ما يشبه عملية بناء بطيئة، ولكن واثقة، تضاف فيها طابوقة فوق طابوقة. كل تجربة مسرحية، وإن بدت متواضعة، كانت خطوة نحو اكتساب مهارة جديدة؛ وكل ورشة، وكل عرض، وكل نقاش، كان يفتح بابًا نحو فهم أعمق للمسرح. ومع مرور السنوات، تكوّن في فرقة الدن جيل يجيد التمثيل والإخراج وكتابة النصوص وتصميم السيناغرافيا والتعامل مع الإضاءة والصوت، ودمج هذه العناصر كلها بروح الفريق الواحد، الذي يسير على نهج متزن، ورؤية واضحة.
آمن هؤلاء الفتية منذ التسعينيات بأن المسرح نشاط تربوي وجمالي في الآن ذاته. لذا؛ ركزت الفرقة على مسرح الطفل والناشئة، إدراكًا منها بأن الفن الحقيقي يبدأ بتربية الذائقة، وأن الجمهور يُصنَع ولا يُنتظَر، وقد شاهدتُ بنفسي في مهرجان المسرح العماني الماضي كيف أن قاعة عرض فرقة الدن لمسرحيتها «القافر» في مركز عمان الدولي للمعارض والمؤتمرات (من إخراج محمد خلفان) كانت ممتلئة عن آخرها بما يقارب ثلاثة آلاف متفرج.
ورغم أن الفرقة كانت تحقق نجاحا كبيرا في سمائل إلا إنها كانت تطمح منذ البداية أن تجعل هذه الولاية منطلقا لها لآفاق أكبر وأرحب. فبدأت مشاركاتها في المهرجانات العُمانية، ثم العربية، بل والدولية (كما هي الحال في مشاركتها بعرض «الجسر» لآمنة الربيع في جامعة مانشستر)، وفي كل هذه المشاركات كانت تحصد الجائزة تلو الأخرى في مختلف عناصر العرض المسرحي، إلى أن تُوِّجتْ جهودها عام 2022 بجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب.
بيد أن النقلة الأكبر في مسيرة فرقة «الدن» جاءت حين قررت أن تتخطى دور «صانعة العروض» إلى دور «صانعة الفضاءات المسرحية». وهكذا وُلِد مهرجان الدن المسرحي الذي بدأ محليًّا، بجهود أهلية خالصة، لكنه حمل منذ بداياته بذرة مشروع أكبر: مهرجان يؤمن بمسرح الطفل، ويحتفي بمسرح الشارع، ويمنح الفرق الصغيرة فرصة للظهور. وما إن جاءت دورته العربية عام 2018 حتى أصبح المهرجان منصة يتنافس فيها أكثر من مائة عرض عربي، مع ورش متخصصة ولجان تحكيم من نجوم المسرح.
ولأن «الدن» لا تركن إلى نجاحاتها، وتسعى دائما إلى تجاوزها، فقد حولت المهرجان العربي بدءًا من عام 2023 إلى مهرجان دولي شعاره: «أهلاً بالعالم في سلطنة عمان»، متضمنا عروضًا من قارات مختلفة، وضيوفًا من بلدان متعددة، وورشًا متقدمة، وزيارات سياحية وثقافية لتعريف الفنانين بُعمان وحضارتها وتراثها. وأصبح المهرجان شكلًا من أشكال الدبلوماسية الثقافية، وصار اسم «الدن» مقترِنًا بصورة مشرقة عن البلد: بلد يرحب بالثقافات، ويحتفي بالفنون، ويمنح المسرح مكانًا يليق به.
وإذْ أوجّه اليوم هذه التحية لفرقة الدن، فإنما أوجهها إلى تجربة ثقافية شاملة: فرقة أهلية تتفتح على مدى ثلاثين عامًا لتصبح مدرسة مسرحية، ومهرجانًا دوليًّا، ومنصة لتكوين جيل جديد من الممثلين والمخرجين والتقنيين والمشتغلين عموما بالمسرح. فرقة أعادت لنا الأمل في المسرح العُماني، وفي قدرته على النهوض حين تتوفر له الإرادة والرؤية والعمل الجماعي، وهذا هو مربط الفرس، وبيت القصيد.
سليمان المعمري كاتب وروائي عُماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فرقة الدن مهرجان ا
إقرأ أيضاً:
قنا| فرقة «أناكوندا» تفوز بدرع التميز بمهرجان كينيا الدولي للمسرح
منحت إدارة مهرجان كينيا الدولي للمسرح؛ درع التميز لفرقة أناكوندا المسرحية، التي تأسست في محافظة قنا، وهي تتبع مديرية الشباب والرياضة.
استقبل الدكتور خالد عبد الحليم محافظ قنا، بمكتبه أعضاء فرقة "أناكوندا" للعروض المسرحية، وذلك عقب تتويجهم بدرع التميز في مهرجان كينيا الدولي للمسرح، إثر مشاركتهم بالعرض المصري "رجعة بلا روح" الذي حقق نجاحا واسعا ونال إعجاب الجمهور في دولة كينيا.
وضم الوفد أبطال العرض المسرحي، وهم عبد الرحمن عطا مدير الفرقة، والمخرج والمؤلف محمد موسى، ومدحت محمد، ومحمد سيد، وخالد علي، وإبراهيم صابر، وكارم عطا، وعبد الرحيم عطا، وإيمان متولي.
وفي مستهل اللقاء، أعرب محافظ قنا عن خالص تقديره لما قدمته الفرقة من عمل مسرحي متميز، مثمنا تمثيلها المشرف للمحافظة في المحافل الدولية، وما حققته من إنجاز يضاف إلى رصيد الحركة الثقافية والفنية بقنا.
وأكد المحافظ أهمية، الدور الحيوي الذي يلعبه المسرح في نشر الوعي المجتمعي وتقديم رسائل إيجابية تعالج القضايا المختلفة بأساليب مبتكرة تصل إلى فئات متعددة من الجمهور.
و عبر عبد الرحمن عطا، مدير الفرقة، عن بالغ شكره وتقديره لمحافظ قنا على دعمه المستمر للفرقة، مشيدًا بجهوده في تعزيز الحركة المسرحية وتنشيط الأنشطة الثقافية والفنية داخل المحافظة، بما يساهم في الارتقاء بمستوى الأعمال المقدمة ويحفز فريق العمل على مواصلة تقديم عروض ذات جودة عالية ترضي تطلعات الجمهور
وفي ختام اللقاء، أهدى أعضاء فرقة "أناكوندا" محافظ قنا درع الفرقة، إلى جانب ألبوم مصوّر يوثق رحلتهم إلى كينيا خلال مشاركتهم في المهرجان، وذلك تقديرًا لدعمه المتواصل ومساندته للمشروعات والفعاليات الثقافية والفنية بالمحافظة.
وفي وقت سابق، طالب أعضاء فرقة أناكوندا المسرحية خلال لقاءهم بمحافظ قنا، اليوم الأحد، بتنظيم برنامج ثقافي وفني يتضمن عرضًا مسرحيًا شهريًا ضمن أنشطة مسرح قصر ثقافة قنا، مع تقديم أكبر نسبة تخفيض على أسعار التذاكر بالتنسيق مع هيئة قصور الثقافة.
وأكد أعضاء الفرقة، على أهمية دور الفن المسرحي في توعية المجتمع ونشر الرسائل الإيجابية بطرق مبتكرة تصل إلى المتلقي بسلاسة، وتترسخ في ذهنه لتؤثر على أفكاره.
درع للفرقة من تونس:وفي العام 2023، حصلت فرقة أناكوندا المسرحية التابعة لمديرية الشباب والرياضة فى قنا، على درع الروح الجماعية بمهرجان أيام باجا العربية للمسرح، بمدينة باجة، بدولة تونس، كما حصلت الفرقة على درع التميز بمهرجان الوفاء للمسرح العربي.
وشاركت الفرقة المسرحية القنائية، بفعاليات مهرجان المسرح التونسي، بموافقة وزير الثقافة ، تلبية للدعوة الموجهة للفرقة للمشاركة بمهرجان الوفاء للمسرح العربى فى دورته الرابعة عشر بمدينة طبرقة بالجمهورية التونسية خلال الفترة من 25 حتى 29 أغسطس 2023.