تكشف تقارير بحثية وإخبارية عن تحول متسارع قد يعيد تشكيل خارطة التوازنات الاقتصادية العالمية، مع تحذيرات واضحة من أن الذكاء الاصطناعي -ورغم وعوده الإنتاجية- قد يصبح عاملًا رئيسيًا في تعميق الفجوة بين الدول المتقدمة والنامية، وربما يعيد إحياء ما يشبه "الانقسام الكبير" الذي رافق الثورة الصناعية، وفق تعبير أسوشيتد برس.

وتُجمع مصادر متعددة على أن مكاسب التنمية التي تحققت في العقود الأخيرة أصبحت "معرضة للتآكل"، ما لم تُتخذ سياسات جادة تضمن توزيعًا أكثر عدالة لفوائد التكنولوجيا.

فجوة قدرات تتسع

يقدم مركز التنمية العالمية (Center for Global Development) قراءة دقيقة للفوارق الهيكلية التي تسبق دخول الذكاء الاصطناعي إلى الأسواق، موضحًا أن الدول مرتفعة الدخل تمتلك بنية رقمية متقدمة، واستثمارات ضخمة، ونظم بيانات معقدة، تمنحها قدرة شبه احتكارية على تطوير واستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي.

استثمارات الذكاء الاصطناعي الهائلة في أميركا تُعيد توزيع القوة التقنية بما يعزز تفوق الاقتصادات الكبرى (شترستوك)

ويشير المركز إلى أن الولايات المتحدة وحدها جذبت 67.2 مليار دولار من استثمارات الذكاء الاصطناعي الخاصة في 2023 -أي 8.7 مرات أكثر مما جذبته الصين، وفقًا لبياناته- في حين أنتجت واشنطن 61 نموذج ذكاء اصطناعي بارز في العام نفسه.

ويضيف المركز أن اتصال الإنترنت في الدول منخفضة الدخل لا يتجاوز 27% من السكان، مقارنة بـ 93% في الدول الغنية. كما تشكّل كلفة الإنترنت الثابت 31% من الدخل القومي الشهري للفرد في الدول الفقيرة، مقابل 1% فقط في البلدان الغنية، وهو تفاوت يُنظر إليه كعامل بنيوي يعمّق فجوة الاستفادة من التكنولوجيا الحديثة.

وتشير تحليلات المركز إلى أن هذه الفوارق ليست تقنية فقط، بل تتحول إلى فجوات في فرص النمو، إذ تعزز الدول الغنية حضورها في القطاعات عالية القيمة مثل التمويل والتصنيع المتقدم وصناعات الدواء والدفاع، بينما تتراجع قدرة الدول الفقيرة على المنافسة حتى في القطاعات التقليدية القائمة على العمالة منخفضة التكلفة، بسبب تسارع الأتمتة في التصنيع والخدمات.

صدمات غير متكافئة

من جهتها تنقل رويترز عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تحذيره من نشوء "تباين كبير" بين الدول، نتيجة اختلاف مستويات الاستعداد للتعامل مع التحولات القادمة.

إعلان

ويقول فيليب شيلكينز، كبير الاقتصاديين في مكتب البرنامج لآسيا والمحيط الهادئ: "نعتقد أن الذكاء الاصطناعي يبشر بعصر جديد من التفاوت المتزايد بين الدول، بعد سنوات من التقارب في السنوات الخمسين الماضية".

وتضيف رويترز أن الدول الغنية، رغم تعرضها لمخاطر فقدان الوظائف نتيجة أتمتة الوظائف عالية المهارة، تمتلك شبكات حماية اجتماعية قوية، وسياسات نشطة لإعادة تأهيل العمال، كما في ألمانيا.

وتواجه الدول منخفضة الدخل واقعًا أكثر هشاشة، مع محدودية الموارد، وضعف شبكات الأمان الاجتماعي، وارتفاع معدلات العمالة غير الرسمية، ما يجعل أي صدمة ناتجة عن الذكاء الاصطناعي مؤهلة للتحول إلى زيادة الفقر وتعطّل الأسواق.

ويشير تقرير الأمم المتحدة إلى أن عدم امتلاك الدول الفقيرة المرونة المالية اللازمة للاستثمار في إعادة المهارات أو تحديث البنية التحتية الرقمية، سيجعلها الأكثر عرضة للاضطراب، في وقت يتحول فيه الذكاء الاصطناعي إلى عنصر أساسي في إدارة الخدمات العامة والاقتصاد.

نماذج التنمية التقليدية تحت الضغط

يرصد مركز التنمية العالمية تحولًا مقلقًا في قدرة الدول النامية على الاستفادة من الأنماط التنموية التي قادتها خلال العقود الماضية، خاصة قطاع التصنيع كثيف العمالة.

فمع توسع استخدام الروبوتات وتقنيات الأتمتة في التصنيع، يتراجع الدور التاريخي لهذا القطاع في استيعاب العمالة ونقلها من الأنشطة الريفية إلى الصناعية، وهو ما كان عنصرًا جوهريًا في نجاح نماذج النمو في آسيا.

الدول الغنية تمتلك شبكات حماية اجتماعية قوية تخفف صدمة فقدان الوظائف بسبب الذكاء الاصطناعي على عكس الدول الفقيرة (شترستوك)

ويضرب المركز مثالًا ببنغلاديش، حيث تشير التقديرات إلى أن ما يصل إلى 60% من وظائف قطاع الملابس قد تختفي بحلول 2030، بسبب دخول الأتمتة والذكاء الاصطناعي في مراحل الإنتاج المختلفة، من التفتيش إلى القص والخياطة.

ولا تبدو البدائل أوضح حالًا؛ إذ أصبحت الخدمات الموجّهة للتصدير -خصوصًا مراكز الاتصال وخدمات تكنولوجيا المعلومات- عرضة للتراجع مع توسع قدرة الذكاء الاصطناعي على تأدية المهام نفسها بكفاءة أعلى وكلفة أقل، ما قد يحدّ من الدور الاقتصادي الذي لعبته دول مثل الفلبين والهند خلال العقود الماضية.

الإنسان قبل التقنية

تنقل أسوشيتد برس في تقريرها عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أن المخاطر ليست فقط في الاقتصاد، بل بواقع الإنسان نفسه، محذّرة من أن الفئات الأكثر تهميشًا -من كبار السن، إلى المجتمعات الريفية، والمتضررين من النزاعات وتغيّر المناخ -قد تصبح "غير مرئية في البيانات"، وبالتالي خارج نطاق سياسات الدعم والخدمات.

ويقول مايكل موثوكريشنا، المؤلف الرئيسي للتقرير، في تصريحات نقلتها الوكالة: "نحن نبالغ في تقدير دور التكنولوجيا… ويجب أن نضمن أن يكون الإنسان أولًا، لا التقنية أولًا".

ويضيف التقرير أن ربع سكان آسيا والمحيط الهادئ لا يزالون خارج الإنترنت، ما يعني أنهم قد يُستبعدون من فرص التعليم الرقمي، والوظائف الجديدة، وأنظمة الدفع، والهويات الرقمية، والخدمات الأساسية.

فجوات الابتكار العالمي تتسع مع احتفاظ الدول الغنية بمعظم النماذج المتقدمة والبنى الحاسوبية الكبرى (رويترز)

كما يحذّر من مخاطر الهجمات السيبرانية المؤتمتة، والتزييف العميق، وانتهاكات الخصوصية، مؤكدًا ضرورة وضع أطر تنظيمية صارمة تضمن استخدامًا أكثر عدالة وشفافية للذكاء الاصطناعي.

المستقبل لم يُكتب بعد

وتتفق أسوشيتد برس ورويترز ومركز التنمية العالمي على أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يزيد عدم المساواة داخل الدول وبينها، لكن الصورة ليست قدَرية؛ إذ يمكن للسياسات الصحيحة -من التعليم إلى البنية الرقمية، ومن الحماية الاجتماعية إلى التعاون الدولي -أن تضمن أن تتحول التقنية إلى رافعة للتنمية لا أداة لإعادة إنتاج التفاوت العالمي.

إعلان

ويوصي برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في ختام تقريره أن يكون الهدف المركزي هو: "ديمقراطية الوصول إلى الذكاء الاصطناعي، بحيث تستفيد منه كل دولة وكل مجتمع، مع حماية الفئات الأكثر عرضة للصدمات".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: دراسات شفافية غوث حريات الذکاء الاصطناعی الدول الفقیرة الأمم المتحدة الدول الغنیة إلى أن

إقرأ أيضاً:

السعودية بين الدول العشر الأولى عالميا في الذكاء الاصطناعي

سجلت السعودية تسلسلا لافتا في مؤشر الذكاء الاصطناعي الصادر عن "معهد ستانفورد للذكاء الاصطناعي" المتمركز حول الإنسان لعام 2025، بعدما حلت في المرتبة الثالثة عالميا في نماذج الذكاء الاصطناعي الرائدة، وفي نسبة نمو الوظائف المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، وجاء ترتيبها بعد الولايات المتحدة والصين في النماذج اللغوية، وبعد الهند والبرازيل في نمو الوظائف المتعلقة بهذا القطاع.

وجاء هذا التقدم ضمن ارتقاء واضح حققته السعودية في عدد من مجالات المؤشر، لتصبح ضمن الدول العشر الأولى عالميا في الذكاء الاصطناعي، في انعكاس لريادتها المتنامية في التقنيات المتقدمة، مدعومة بجهود الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي وبما يتوافق مع توجهات رؤيتها 2030 الهادفة إلى تعزيز موقع البلاد في اقتصادات البيانات والذكاء الاصطناعي.



وتبرز المرتبة الثالثة التي حصلت عليها السعودية عالميا في النماذج الرائدة ونمو الوظائف الخاصة بالذكاء الاصطناعي، بحسب وكالة الأنباء السعودية، مستوى جاهزيتها في مجالات الابتكار وقدرتها على تطوير النماذج المتقدمة، ومن بينها نموذج "علام" المصنف ضمن أبرز النماذج التوليدية العربية في العالم، إضافة إلى توسع فرص العمل المرتبطة بتقنيات الذكاء الاصطناعي داخل السوق المحلية.

كما حققت السعودية المرتبة السابعة عالميا في استقطاب كفاءات الذكاء الاصطناعي، نظرا لما تتمتع به من بيئة تنظيمية وتقنية قادرة على جذب الخبرات الدولية، وداعمة لنمو قطاع التقنيات المتقدمة.



واحتلت أيضا المرتبة الثامنة عالميا في الوعي العام بالذكاء الاصطناعي وفي الاستشهادات العلمية المتخصصة، ويعزى ذلك إلى ما تبذله من جهود بحثية ومعرفية وإلى مبادرات تهدف لبناء مجتمع مدرك لتقنيات الذكاء الاصطناعي، من بينها مبادرة تمكين مليون سعودي في الذكاء الاصطناعي "سماي"، إلى جانب برامج تدريبية حظيت بإقبال واسع من مختلف شرائح المجتمع.

وتؤكد نجاحها في بناء قدرات بشرية وتعزيز الوعي المجتمعي بما ينسجم مع مستهدفات "رؤية 2030"، الهادفة لتنمية القدرات الوطنية وتمهيد الطريق لنهضة رقمية شاملة تدعم الاقتصاد الوطني وترسخ مكانة السعودية دوليا.

مقالات مشابهة

  • تباين حاد في استخدام الذكاء الاصطناعي.. ما هي الدول التي تتقدم بخطى سريعة؟
  • فضائح Grok ترفع تحذيرات السلامة حول الذكاء الاصطناعي
  • لماذا تتراجع الهجرة العمالية إلى الدول الغنية؟
  • هجوم البيت الأبيض.. الأفغاني المشتبه به يدفع ببراءته
  • خشية من قدرة الذكاء الاصطناعي على قراءة أفكار البشر
  • الأمم المتحدة تحذر من الذكاء الاصطناعي
  • تقرير للأمم المتحدة يحذر: سباق الذكاء الاصطناعي يسبق تكيف الدول ويهدد بتفاقم عدم المساواة عالميا
  • أبو الغيط يحذر: جنة الذكاء الاصطناعي قد تتحول إلى جحيم يهدد البشرية
  • السعودية بين الدول العشر الأولى عالميا في الذكاء الاصطناعي