"ذاكرة الطفولة" زاوية نضئ فيها على طفولة أديب عربي، نصغي لأول تجاربه ورؤاه، أول أفراحه وأحزانه، وتتسرب لأطراف الأصابع، عبر النتاج الأدبي بين لحظة وأخرى.

زادي الأول من المعرفة كان في مكتبة الوالد.

يقول الأديب والناقد العراقي الدكتور إياد عبد المجيد إبراهيم: "تحتل الطفولة في حياتي معان عميقة، ومشاعر فياضة حين أستذكرها، أشعر بالراحة النفسية العميقة، ويتغير مزاجي، بل يحلو لي أن أرتاد الأماكن التي عشت فيها تلك المرحلة من حياتي، وكنت أفعل ذلك لما كنت قريباً من تلك الأماكن، أما بعد أن بعدت الشقة بيني وبينها، صار الحنين والحلم بها مؤلماً، كل شيء عالق منها في ذاكرتي، فالتعلق بالأرض يكبر معنا كلما أخذ بنا الزمن وزادت أيام الغربة، فالوطن احتضن طفولتنا التي عشنا فيه أجمل حياتنا، واكتسبنا في المراحل الأولى مهاراتنا الأساسية، وامتلأت قلوبنا بحب أرضه".

ألعاب الطفولة

ويضيف "لعل أبرز ذكريات الطفولة، اللعب مع الأتراب والأقران، ألعاب شعبية بسيطة ورثناها جيلاً بعد جيل، أتذكر في قريتي الغافية على ضفاف شط العرب، القريبة من الخليج، لعبة كرة الطائرة التي كنا نلعبها في البساتين، فنشد الشبكة التي نعملها من خيوط (الجنفاص، عند نخلتين متقابلتين  من نخيل البستان، في مساحة تسمى  البشتكة تشكل الجداول حدودها وهي على شكل حدوة حصان مفتوحة من طرف واحد، كانت كرتنا التي نلعب بها نصنعها من الجوارب وقطع القماش نجمعها مع بعضها لتكون مستديرة، نتقاذفها بيننا مسرورين، حتى إذا سقطت في الجدول القريب ثقلت بالماء وبات اللعب بها صعباً، فضلاً عن أن التراب يعلق بها فيزيدها وزناً، كلّ ألعابنا في الطفولة صنعناها بأيدينا كالطائرة الورقية، وسيارة التيل التي نعملها من الأسلاك المعدنية، ذات المقود الممتد بأحد الأسلاك بقصبة طويلة، وألعاب أخرى تغمرنا فيها الفرحة، وتنعشنا البراءة".

عالم مخملي

ويتابع "في الطفولة لم نعرف الكذب ولا الخداع، ربما خصاماً بسيط لم يدم سوى يوم أو يومين نحلم بالممكن وننتظر غير الممكن، وحين كبرنا كبرت معنا أحلامنا وتغيرت فبعضها تحقق، وبعضها ظل هدفاً جاهدنا من أجله، مازلت أتذكر أسماء من عشت معهم طفولتي في الشارع والقرية والبستان والمدرسة، هي أسماء لن تتكرر، بعضهم رحل، وترك لنا ذكريات لن تنسى، أتذكر كل شيء فيها حتى تلك الضحكات، والنكات التي تحمل روح الدعابة ونقاء السريرة، أتذكر عزام وزهير وسلام وصلاح وأحمد الذي كان يعشق السينما في طفولته، ويتفاخر علينا حيث يصعد للمدينة ويعود ليحكي لنا قصة فلم لطرزان وغيره، كنا ننصت لسرده وانفعاله، وأحياناً ينقل لنا المشهد بحركات تسرنا وتضحكنا من شدة اهتمامه، كنت أشعر به وهو يقص علينا ما كانت تسرده لنا جدتي لأبي، التي نلتف حولها عند موقد النار في الشتاء، وهي تقص لنا حكايات فيها من الخيال ما يرعبنا أحياناً، ويشوقنا لنهاياتها، وقد بدأت معنا تقص علينا قصص الأنبياء، كانت تقية ورعة، وأحاديثها شجرة نقاء وارفة الظلال، ذات أغصان تحمل لنا المتعة والدهشة، كنا نفرح بها حين تزورنا، وتبقى معنا بضعة أيام نهاية كل شهر كما عودتنا، وكبرنا ونحن نستذكر حكاياتها وطريقة سردها العجيبة، ونبرتها التي تدخلنا معها إلى عالم مخملي تزين فيه قلوبنا بالحب والأمل والعذوبة".

روح الحياة

وعن والدته ووالده يقول إبراهيم: "أمي نبع المحبة والحنان جعلت من طفولتنا حياة للروح وروحاً للحياة، كانت أنفاسها عذبة، ترضينا نحن أبناءها السبعة، وتغدق علينا محبتها بصفاء قلب ونقاوته وصدقه، علمتنا الحب، تنظر إلى أعيننا وهي تترجم معاني الأمومة الجميلة فتذيب قلوبنا في ابتساماتها وتعاملها، وعدم تذمرها تفكر فينا، ماذا نعمل؟ وكيف ندرس ونلعب ونأكل؟  تعطينا كامل مشاعرها حباً ونبادلها احتراماً وتعلقاً، أمي التي كانت تحمل معاني اسمها في الصفاء والطيبة مع الأهل والجيران، كم كانت تفرح بي وبأخوتي وهم يضيفون أصدقاءهم، وتهبنا في هذه اللقاءات من روحها الباذخة الطهر، لم تتثاقل من شيء يعزز محبتنا مع أصدقائنا أو مع بعضنا، كم كانت تخشى علينا لو مرضنا أو تأخرنا، كانت تستشرف مع أبي المعلم الدؤوب الذي غرس في نفوسنا نحن أولاده، وطلابه حب العربية، وبنى منذ طفولتنا هويتنا وساعدنا في تشكيل شخصيتنا، كان يعيش معنا حياتنا، وتجاربنا وأحداثنا، ويدفعنا لاستشراف المستقبل، سعدت جداً يوم كنت في السنة الخامسة في المدرسة حين دخل علينا الصف الدراسي، ليدرسنا التاريخ الإسلامي، تغيرت نظرتي له، وكبر اعتزازي، من أب معلم في البيت إلى أب معلم في المدرسة، يوماً ما كنت أقف أمام شهادة جدارية له معلقة في غرفة الاستقبال ببيتنا، بتوقيع مدير دار العلوم الدينية في الأعظمية ببغداد  فهمي المدرس، التي درس فيها أبي، وحين كبرت بعد ذلك عرفت من هو فهمي المدرس، الأستاذ والأديب الكبير، وعرفت قيمة هذه الشهادة التي صرت أعتز بها كلما تقدمت في دراستي، فصرت أطمح أن أكون مثله، أستشرف المستقبل بنظرة تفاؤلية، أتصالح أحيانا مع ذاتي، أقوي نفسي وأتفاءل".

زاد المعرفة

ويضيف "زادي الأول من المعرفة كان في مكتبة الوالد، دواوين الشعر، قرأت في البدء المعلقات السبع،  وبعض الشعراء مثل المتنبي، وحافظ إبراهيم، قبل أن أدرسهم في المدرسة أو الجامعة لاحقاً، كان يعجبني أن أقرأ أمام أبي ليصحح لي أخطائي ويعلمني إلقاء الشعر، حتى صرت أقرأ قصيدة  العلَم  كل خميس في الطابور الصباحي  لجميل صدقي الزهاوي :
عش هكذا في علو أيها العلم      فإننا بك بعد الله نعتصم
فكان لهذا التدريب والإلقاء الأسبوعي أثره في حياتي مستقبلاً، صيرني خطيباً على مستوى المحافظة فيما بعد، خطيباً للمناسبات الوطنية والثقافية والأدبية، وزادت استعانتي بأبي لما دخلت الجامعة، وجدته يحفظ القرآن الكريم، ويربط تفسيره بالشعر الجاهلي، ويكتب الشعر كان يأنس بنا، ونحن نسمع له ما ينظمه، نظم ألفية في النصح والإرشاد، وفي أسماء الله الحسنى، وله شعر في المناسبات والأهل وكان يؤرخ لكل مولود من الأحفاد، حسب حساب الجمل، صرنا نفخر به شاعراً ونقلده، نكتب ويقرأ لنا ويصحح، ويقسو لو تكرر الخطأ، أو لحن بعضنا عند القراءة، يا لجمال تلك الأيام التي تزيدنا فخراً بوالدنا والزمن الجميل، لقد كنت أفخر وأتباهى أمام أقراني بما أحفظه من شعر الوالد أمام أصدقائي، حتى صار بعضهم يعود إليه ويسترشد به في الكتابة، ويحب التقرب إليه".

الأمل

ويختم "كنت أحتفل مع أصدقائي بالعطلات الرسمية بزيارة المكتبة العامة في القضاء الذي نعيش فيه، وكانت وقتها مكتبة حديثة، كنت من أصدقاء المكتبة، وتوطدت علاقتي بأمينها، كتبت عنها مقالات نشرت في الصحف أدعو للاهتمام بها ورفدها، كان قريباً منها يسكن صديقي وأستاذي فؤاد الكبان، المثقف الواعي المحب للكتاب والقراءة في شتى فنون المعرفة، هو مرشدي الأول أزوره في بيته معجباً بمكتبته، يضعني عند مصادر لم أعرفها من قبل، ثم صرت أزور محلات بيع الكتب في المحافظة يرشدني لشراء بعض الكتب في اهتماماتي الأدبية، في وقتها كنت أصدر مجلة ورقية أخطها بيدي اسمها الأمل، أقوم بتحريرها وكتابتها أسبوعياً، كان فؤاد يشرف عليها ويقرأها ويوجهنا، بل ويكتب معنا ولكن باسم مستعار، وكثيراً ما كان يعقب على ما ينشر، كانت تجربة الأمل بالنسبة لي تجربة رائدة وأنا لما أبغ الـ 16 من عمري، استطاعت أن تجعلني متحمساً للقراءة، والنقد ومتابعة المجلّات التي تصدر شهرياً مثل الآداب، والأقلام، وآفاق عربية، والعربي، ومازلت أحتفظ بالأعداد الأولى من الستينيات، ما كنت أحب الخروج من هذه العوالم فكأني لو خرجت منها خرجت من الجنة، وفي الجامعة بدأت المشاركة في الفعاليات الأدبية وقضيت سنواتي الأربع لا أريد مغادرتها، أنشر على الجدار الحر قصائدي، ويعارضني البعض، وينقدنا البعض الآخر، وهذه التجربة هي التي شجعتني للنشر في الصحف البصرية، وعرض علي مدير تحرير جريدة الخليج العربي، أن أعمل معهم مراسلاً ثقافياً ورياضياً للفعاليات التي يزخر بها القضاء، ونشرت العديد من اللقاءات والأخبار وتحوّلت بعدها إلى الثغر والحياة البصرية، وتعرفت على أدباء المدينة، وترسخت علاقتي بأساتذتي في الجامعة، وأصبح بعضهم صديقاّ لي، اتسعت رحلة الكتابة، وانطلقت أسافر إلى العاصمة، لتبدأ مرحلة متطورة أخرى من حياتي".

المصدر: موقع 24

كلمات دلالية: زلزال المغرب التغير المناخي محاكمة ترامب أحداث السودان سلطان النيادي مانشستر سيتي الحرب الأوكرانية عام الاستدامة الملف النووي الإيراني

إقرأ أيضاً:

لانا الشريف وجه الطفولة بغزة الذي شوهته الحرب الإسرائيلية

في قطاع غزة، حيث يصبح الخوف جزءا من الحياة اليومية للأطفال، تجسد الطفلة الفلسطينية لانا الشريف، البالغة من العمر 10 سنوات، مأساة الطفولة في ظل القصف والحصار الإسرائيلي المفروض على القطاع منذ عام ونصف العام.

كانت لانا، التي عرفت بجمالها وبراءتها، تعيش حياة هادئة في مدينة رفح إلى أن دمرت الحرب طفولتها، وغزا الشيب رأسها في عمر مبكر، وانتشرت بقع بيضاء في جسدها الهزيل نتيجة الصدمة النفسية الهائلة التي تعرضت لها عندما دمر البيت المجاور لمنزل عائلتها في قصف إسرائيلي.

عاشت لانا بعدها نوبات فزع وكوابيس غزت أحلامها، ما أثر على حالتها الجسدية والنفسية، وأفقدها الشعور بالأمان والطفولة التي تستحقها، فتعبر لانا عن ألمها بحزن قائلة: "الناس لم يعودوا يحبونني كما كانوا من قبل، لم أعد تلك الطفلة الجميلة."

"كنت جميلة… والآن لا أحد يحبني"

الطفلة لانا الشريف 10 سنوات أصيبت بمرض البُهاق نتيجة نوبات هلع وخوف شديد
ناجم عن قــ.. ــصف اســ.. ــرا.ئيلي عنيف???? pic.twitter.com/ewAzv66gAv

— ☠️EMA إيما (@ghost_girl2023) May 10, 2025

هذه الكلمات أشعلت تعاطفا واسعا عبر منصات التواصل، حيث أصبح اسمها رمزا لمعاناة الأطفال في غزة.

بسبب الخوف الشديد من القصـ.ف شابَ شعر الطفلة لانا الشريف، وأُصيبَت بمرض البُهاق.

تحدثوا عن هذه الأوجاع المنسية ليكون الكلام شاهدًا لكم. pic.twitter.com/NdMlfF94AI

— معين الكحلوت , من غزة ???????? ???? (@Moin_Awad) May 10, 2025

إعلان

ومع انتشار المقطع على منصات التواصل دان النشطاء ما تفعله إسرائيل بأطفال غزة قائلين "اغتالوا الطفولة البريئة"، بحسب تعبيرهم، مطالبين بتسليط الضوء على قصة لانا لتوثيق حجم المعاناة التي يقاسيها أطفال قطاع غزة وعائلاتهم.

وعلى منصة إكس كتب العديد من المدونين أن ملامح لانا ليست مجرد صورة، بل هي شهادة حية على الانتهاكات الممنهجة بحق أطفال غزة.

واعتبر بعض الناشطين أن "لانا لم يقتلها القصف، لكن قتلها الخوف وقلة الحيلة في عالم تفتقد فيه الإنسانية."

عمرها عشر سنوات، لكن عيناها تحكيان عن عمرٍ أثقلته الصدمات.
لانا، الطفلة الوحيدة لوالديها، لم ترَ من الحرب إلا ما يُفقد الكبار توازنهم، فكيف بطفلة ما زالت تخط أولى خطواتها نحو الحياة؟
كانت في بيتها حين انهار المنزل المجاور، بفعل صواريخ الاحتلال، ليتحوّل صوت الانفجار إلى رفيق يومي… pic.twitter.com/vCueqbJbBz

— Khaled Safi ???????? خالد صافي (@KhaledSafi) May 6, 2025

في ظل الحصار المستمر الذي يفاقم معاناة سكان القطاع، دعا مؤثرون وصحافيون إلى ضرورة فتح المعابر لإخراج الأطفال الذين هم في حاجة ماسة إلى العلاج، مؤكدين أن غياب الإمكانيات الطبية المناسبة داخل غزة يجعل من الصعب معالجة الحالات الطارئة التي تسببها الحرب للصغار.

وقال مغردون إن قصة لانا ليست استثناء فهي تمثل آلاف الأطفال في قطاع غزة الذين عايشوا الموت دون أن يزهق أرواحهم، لكنه "اغتال طفولتهم"، كما وصفها أحد المدونين.

الطفلة الصغيرة لانا الشريف حكاية وجـ ـع أكبر من عمرها لم تُصب بشظايا ص/روخ لكنها أُصيبت بشيء لا يُرى… شيء يُمزق الداخل ويُغير الملامح. الخوف الشديد من القـ ـصف لم يترك لها خياراً… شاب شعرها في لحظات كما لو أن الزمان مرّ بها دفعة واحدة وأصابها مرض "البُهاق"، pic.twitter.com/6Yv0H5wQga

— إيهاب الحلو (@Ehabhelou) May 10, 2025

إعلان

وأضاف آخرون أن قصة لانا الشريف تبقى مثالا مأساويا على الوجه الحقيقي للحرب الإسرائيلية على القطاع، حيث تتحول البراءة إلى خوف، والجمال إلى ألم، والطفولة إلى ذكريات مغتصبة.

وفي الوقت الذي يتداول فيه العالم صور الطفلة عبر الإنترنت، يبقى السؤال الأكبر: متى ينتهي هذا الكابوس الإسرائيلي الذي يطارد جيلا بأكمله في غزة؟>

"كنت جميلة… والآن لا أحد يحبني”..????
شايف #الخوف بس ايش بعمل فقط الخوف ????????
كم مرة خوفنا وخافت اطفالنا في عامين
"كنت جميلة… والآن لا أحد يحبني”.. بهذه الكلمات تصف الطفلة لانا الشريف (10 سنوات) ألمها، بعد إصابتها بمرض البُهاق نتيجة نوبات هلع وخوف شديد، ناجم عن قصـ ف إسر ائيلي… pic.twitter.com/hWliOGkt72

— ثائر البنا، غزة ???????? (@thaeralbannaa) May 10, 2025

ويتحدث تقرير صادر عن المكتب الإعلامي الحكومي في غزة عن ارتكاب أكثر من 11,859 مجزرة ضد العائلات الفلسطينية، بينها 2,172 عائلة أبيدت بالكامل بقتل جميع أفرادها.

في خيام تفتقد إلى أبسط متطلبات الحياة، يعيش الأطفال الذين فقدوا عائلاتهم وأطرافهم معاناة يومية تضاعفها استمرارية القصف وشح الموارد.

 

مقالات مشابهة

  • إعلام إسرائيلي: إبلاغ سكان غزة بتجنب الاقتراب من المناطق التي ينتشر فيها الجيش
  • أمير عبد المجيد: ريهام عبد الحكيم كروان.. ومن أهم نجمات الطرب العربي
  • إياد نصار: «سوء استخدام» يظهر الوجه الآخر لـ «السوشيال ميديا»
  • ذكريات الطفولة الجميلة
  • عبيد: “علينا التتويج بكأس الجزائر لانقاذ موسم الفريق”
  • لانا الشريف وجه الطفولة بغزة الذي شوهته الحرب الإسرائيلية
  • وزير الثقافة يتابع حالة الأديب صنع الله إبراهيم
  • الذكاء الاصطناعي يزداد عبقرية.. لكنه يُتقن الكذب
  • العيسوي ينقل تعازي الملك وولي العهد إلى إياد علاوي بوفاة نجله
  • جنرال إسرائيلي: التهديدات من جهة سوريا تغيرت وبالتالي علينا أن نتغير