لجريدة عمان:
2025-07-28@00:54:36 GMT

مستجدات الذكاء الاصطناعي

تاريخ النشر: 23rd, September 2023 GMT

تطالعنا الأخبار في مختلف وسائل الإعلام عن مستجدات تخص الذكاء الاصطناعي، منها ما يُسعدنا، ومنها ما يثير قلقنا بشأن مستقبل هذا الكائن الرقمي المستمر في تطوراته ومفاجآته المدهشة، ونكاد نصبح كل يوم على مستجدات غير معهودة يأتي بها هذا الكائن الرقمي. ذكرت في مقالات سابقة أن بجانب ما تحمله نماذج الذكاء الاصطناعي من منافع تساهم في الرقي بالحضارة الإنسانية؛ فإنها تحمل جانبًا سلبيًا يهدد البشرية ووجودها، وهذا التهديد يمتد ليشمل الماهية الإنسانية الشاملة لنظام القيم والأخلاق، ويشمل الجانب المعيشي بفقدان الكثير من البشر لوظائف ومهن كانت مصدرا للدخل والمعيشة، ويشمل حياة الإنسان ووجوده من حيث الدمار الذي يمكن أنْ يأتي نتيجة لتطويرات الذكاء الاصطناعي غير المحكومة والمحسوبة.

لا أرغب أن أكون متشائما ومظهرا لقلقي من هذه التقنيات المتقدمة، ولكن يتحتم عليّ أن أكون موضوعيًا في طرح مثل هذه القضايا بواقعها وتوقعاتها دون تجاهل لكل العناصر الجيدة والسلبية.

سبق الحديث عن مخاطر الذكاء الاصطناعي -عبر مقالات سابقة نشرتها في جريد عُمان-، والتي لم تعد بعض تلك المخاوف مجرد افتراض، بل بدأ بعضها يتحقق واقعا، مثل تزييف المرئيات «مقاطع الفيديو»، والصوتيات عبر تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وكذلك فقدان بعض الوظائف -لصالح الذكاء الاصطناعي- التي كان يشغلها الإنسان، والتطوير العسكري المتسارع بسبب نماذج الذكاء الاصطناعي الذي بات هاجسا يقلق المجتمع الإنسان عمومًا. أذكر أن بعض هذه المخاطر التي ذكرتها لم تكن قبل أشهر قليلة سوى مجرد توقعات مبنية على متابعة سير التطويرات الرقمية التي تشمل الذكاء الاصطناعي، وتأتي هذه التوقعات -في غضون فترة قصيرة- لتصبح واقعًا مهددًا للإنسانية؛ فنحتاج إلى رفع مستوى الوعي لفهم مثل هذه التقنيات المتقدمة، وتسريع وتيرة القدرة على مواجهة تحدياتها ومخاطرها. نعود إلى أمثلة من الماضي؛ فنجد -مثلا- البدايات الأولى لظهور الإنترنت وما حمله من هاجس أقلق المجتمع الصناعي الذي دخل مراحله الرقمية الأولى بعد المرحلة الإلكترونية، والذي لم يكن جاهزًا بشكل كامل لمواجهة تحديات تقنية مصحوبة بظهور الإنترنت، مثل القدرة على التعامل مع الفيروسات والاختراقات الإلكترونية التي تُهاجِم الأفراد والمؤسسات وأنظمتهم الرقمية، ولم يكن كذلك الوعي العام بالمستوى الجيد الذي يمكّن الكثير من مستخدمي هذه الأنظمة من القدرة على التعامل مع هذه التحديات ومواجهتها إلا بعد فترة من الزمن التي جاءت نتيجة للوسيلة التي تبرر الغاية.

نعود إلى زمننا الحاضر وتحدياته الرقمية الجديدة المتمثلة في الذكاء الاصطناعي؛ فنجد أن المجتمعات الإنسانية تحمل قلقا من نوع جديد، وهذه المرة تجاه مخاطر الذكاء الاصطناعي ونماذجه الكثيرة، وأحد أنواع هذا القلق ما يتعلق بالتعرض لخصوصيات الإنسان سواء عبر الولوج المباشر إلى خصوصياته الواقعية أو تزييفها لدرجة عدم القدرة على تمييزها من الواقع غير المزيّف.

تمتلك نماذج الذكاء الاصطناعي الحالية القدرة على تزييف المحتويات المنشورة التي تشمل المقاطع المرئية، والصوتية، وكذلك المكتوبة؛ فثمّة انتشار كبير لنماذج الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته خاصة بتزييف الصور والمرئيات والصوتيات، وتعمل على صناعة محتويات غير حقيقية، وعبر انتشاره يقود إلى تزييف الحقائق، وإرباك الرأي العام وتغيير مساره الصحيح وفقًا لأهداف إما شخصية أو حتى عامّة (اقتصادية وسياسية)؛ إذ نرى مقاطع مرئية وصوتية لشخصيات سياسية واقتصادية ورياضية تنتشر لا يتوقع المشاهد -في بداية الأمر- أنها مزيّفة إلا في حالة تجاوزها الحد المعقول من قانون عدم التناقض الذي يمكن قياسه مع المقطع المرئي أو الصوتي المنسوب لتلك الشخصية والمقاطع الأصلية السابقة التي تعكس شخصيته الحقيقية.

تجاوز الأمر -مؤخرا- في تطبيقات ذكية -يمكن أن تصل بسهولة إلى يد أصحاب النفوس الضعيفة- تعمل على تزييف الصور وفق ظروف ومشاهد لا تناسب الذوق العام والأسس الأخلاقية، وهذا ما يسبب قلقا جمعيا داخل المجتمعات الإنسانية التي باتت خصوصيتها ونظامها الأخلاقي مهددا. لا أريد التشعّب في هذه المخاطر التي أظن أنها أصبحت معلومة عند معظم الناس -في زماننا-، إلا أنني أسعى إلى رفع مستويات الوعي بوجودها ومخاطرها وطرق مواجهتها؛ إذ إن من المهم أن ندرك أن مثل هذه المخاطر المتعلقة بتزييف الصور والمرئيات والصوتيات مجرد مخاطر مؤقتة وظرفية؛ حيث بدأت تظهر وسائل رقمية كاشفة لمثل هذه التزييفات تعمل بواسطة الذكاء الاصطناعي أيضًا؛ فهناك مختصون يعملون على مواجهة مثل هذه المخاطر الرقمية التي تمتد مخاطرها إلى عمليات الابتزاز ونشر الإشاعات والأخبار الزائفة التي يُسْعَى عبرها إلى زرع الخلل النفسي والاجتماعي، بل يشمل الجانب السياسي والاقتصادي؛ إذ صارت مثل هذه التقنيات الذكية أدوات وأسلحة رقمية تهدد الأفراد والمؤسسات والمجتمعات الإنسانية، وهذا أيضا ينطبق على المحتويات المكتوبة التي يمكن إنشاؤها بواسطة نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية، وسبق لي الإشارة إلى طرق مواجهة تحديات الانتحال والتزييف في النصوص المكتوبة في مقال نشرته في الملحق العلمي -التابع لجريدة عُمان- العدد الثالث. كما ذكرت فهذه المخاطر يمكن مواجهاتها من قبل المُختصِّين، ولكن من الصعب التحكم في تأثيرها السلبي في مراحلها الأولى؛ لذا يُعوّل على نشر الوعي لكونه الوسيلة الأساسية لكبح هذا التأثير إلى أدنى مستوياته.

نلحظ في جانب آخر تسارع تطويرات القطاعات العسكرية التي تعمل بواسطة نماذج الذكاء الاصطناعي، ونتوجس ممَّا يمكن لهذه الأنظمة الذكية أن تُحدثه في قطاع الأسلحة وتبعاتها التي ستلحق الضرر في المجتمعات الإنسانية ووجودها؛ إذ نرى عبر ما يُنشر في وسائل الإعلام والدراسات العلمية أن مثل هذه التقنيات العسكرية بمساعدة خوارزمياتها الذكية يمكن أن تخرج عن السيطرة؛ فتعمل وفق استراتيجية من الممكن أن تفوق الإنسان شراسة وقسوة، ولا تملك أي مبادئ أخلاقية. أجد أن مثل هذه المخاطر المتعلقة بالقطاعات العسكرية وصناعة الأسلحة خطرها يقود إلى كارثة وجودية للإنسان وحضارته، ومن المهم أن أفرد مقالا مستقلا عن هذا النوع من المخاطر الرقمية ونشر الوعي فيما يتعلق بها.

د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: نماذج الذکاء الاصطناعی هذه التقنیات هذه المخاطر القدرة على مثل هذه

إقرأ أيضاً:

كيف تواكب المؤسسات الدينية الذكاء الاصطناعي دون تفريط في الفتوى؟ مفتي الجمهورية يُجيب

أكد مفتي الجمهورية الدكتور نظير عياد، أن مؤتمر صناعة المفتي الرشيد في عصر الذكاء الاصطناعي والمقرر أن تعقده الدار على مدار يومي 12 و 13 أغسطس القادم يهدف إلى استكشاف تأثير الذكاء الاصطناعي على الفتوى الشرعية، مع التأكيد على أهمية الجمع بين التقنيات الحديثة وأصول العلم الشرعي.

وقال مفتي الجمهورية في حوار خاص مع وكالة أنباء الشرق الأوسط اليوم السبت، إن المؤسسات الدينية بحاجة إلى مواكبة الثورة الرقمية عبر التحول إلى الفتوى الرقمية، مع ضمان أن تكون الفتوى مسؤولة أخلاقيًا وإنسانيًا، وأن التحديات الكبرى تشمل الفتاوى الآلية المضللة واستخدام الذكاء الاصطناعي في دعم الخطاب المتطرف.

وأشار عياد، إلى ضرورة أن يكون المفتي العصري فقيها ومفكرا، وعلينا توظيف الذكاء الاصطناعي كأداة مساعدة للمفتي دون التفريط في القرار الإفتائي، موضحا أن الرسالة الأساسية التي يسعى المؤتمر لإيصالها هي رسالة عالمية بامتياز، تعكس عمق الدور الحضاري الذي تضطلع به دار الإفتاء المصرية وذراعها الدولية متمثلة في الأمانة العامة لِدُور وهيئات الإفتاء في العالم في هذا العصر المتداخل.

وأوضح أنه من أبرز ما نأمل من مخرجاته هو إعداد تقرير استشرافي شامل حول التحديات والفرص التي يطرحها الذكاء الاصطناعي على الفتوى عالميًا، يتضمن تحليلاً للوضع القائم، وسيناريوهات للمستقبل، وتوصيات عملية موجهة لصناع القرار الديني، وكذلك تطوير خطاب عالمي مشترك يدعو إلى أخلاقيات رقمية عادلة، ويؤكد أن الفتوى ليست مجرد معلومة تُنتج، بل مسؤولية دينية وأخلاقية وإنسانية، فضلاً عن فتح قنوات تعاون وشراكات جديدة بين المؤسسات الدينية حول العالم، لتوحيد الجهود وتبادل الخبرات، خصوصًا في ما يتعلق بالتقنيات الجديدة، ومواجهة خطاب الكراهية، وتصحيح الصورة النمطية عن الإسلام.

وتابع:" أنه لا شك أن هذه المخرجات تمثل نقلة نوعية من العمل الإقليمي إلى الفعل الحضاري العالمي، وهي مسؤولية نضطلع بها في دار الإفتاء المصرية، والأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم، بكل وعي وإصرار، وتمثل صميم رسالتنا.

ورأى المفتي، أن المؤسسات الدينية تحتاج إلى مقاربة مزدوجة، تتمثل في فهم عميق لأدوات العصر، وتمسك راسخ بأصول العلم الشرعي، فالتحول الرقمي ليس مجرد ترف تقني أو تحديث إداري، بل هو إعادة صياغة لكيفية الوصول إلى الجمهور، ومخاطبته، والتفاعل معه، في زمن تغيرت فيه وسائل السؤال، وأنماط الفهم، وحتى اللغة.

ونوه عياد، إلى أنه يمكن للمؤسسات الدينية أن تواكب الثورة الرقمية من خلال عدة مسارات استراتيجية، أبرزها التحول من الفتوى الورقية إلى الفتوى الرقمية الذكية، وبناء قاعدة بيانات معرفية فقهية رقمية، وتكوين "المفتي الرشيد" لا المفتي الآلي، وكذلك تدريب العلماء والدعاة على مهارات العصر.

ولفت إلى أنه يجب أن يعي الجميع أن الفرد مهما بلغت كفاءته، يبقى رهينًا ببيئة مؤسسية إما أن تطلق طاقاته أو تعيقه، لذلك سنعمل من خلال المؤتمر على دعم التحول المؤسسي داخل هيئات الإفتاء من خلال وضع معايير لقياس الأداء المؤسسي الإفتائي في العصر الرقمي، تتضمن مؤشرات مرجعية دقيقة لمدى التأثير المجتمعي للفتوى، ومردودها الإعلامي، وآليات ضبطها وتحليلها، إلى جانب توصيات بإنشاء فرق بحثية متخصصة داخل كل مؤسسة إفتائية، تتولى رصد المستجدات التقنية والقيمية التي تؤثر في واقع الفتوى، وتقديم الاستجابات العلمية المناسبة لها.

وأضاف الدكتور نظير، أن ذلك يأتي فضلًا عن دعم التجارب الدولية الناجحة من خلال تخصيص محور كامل في المؤتمر لعرض تجارب الدول في تطوير الأداء الإفتائي، مثل تجربة دار الإفتاء المصرية، والأردنية، والماليزية، والأوزبكية، وغيرها، وهذا التصور يفتح الباب أمام نقلة نوعية في البنية المؤسسية للفتوى، تنقلها من النمط التقليدي إلى نموذج رقمي متكامل، يراعي الشفافية، والحوكمة، وجودة المخرجات.

وعن التحديات التي يواجهها المفتي في عصر الذكاء الاصطناعي، قال إن هناك جملة من التحديات فرضها انتشار أدوات الذكاء الاصطناعي، فاليوم يستطيع أي برنامج أن يولد نصوصًا دينية، أو يقدم إجابات على مسائل شرعية، دون ضبط علمي أو شرعي أو سياقي، وهنا يكمن الخطر، لأن المتلقي قد يخلط بين الفتوى الشرعية الموثوقة، وبين المحتوى الاصطناعي الخالي من المرجعية.

وأوضح مفتي الجمهورية، أنه من أبرز هذه التحديات هو انتشار "الفتاوى الآلية" التي تصدر عبر روبوتات أو منصات مدعومة بذكاء اصطناعي بلا إشراف، وكذلك التضليل الخوارزمي حيث تظهر للجمهور فتاوى شاذة أو منحرفة لأنها تتفق مع ميوله أو بحثه السابق، وأيضًا استخدام الذكاء الاصطناعي في دعم الخطاب المتطرف، واستغلال ضعف الوعي المجتمعي في التمييز بين المفتي الحقيقي والمنتج الرقمي المصطنع، لذلك نعمل في دار الإفتاء من خلال الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم على إطلاق مؤشرات ذكية لرصد الفتاوى المنتشرة عبر الإنترنت، وتطوير أدوات تحليل رقمية لرصد الاتجاهات المنحرفة، كما نسعى خلال المؤتمر إلى وضع ميثاق دولي للفتوى الرقمية يراعي الضوابط الشرعية والأخلاقية، ويحدد الإطار الذي ينبغي أن تتحرك فيه المؤسسات.

وبشأن توظيف الذكاء الاصطناعي في دعم القرار الإفتائي دون المساس بجوهر الفتوى الشرعية، أكد المفتي أن الذكاء الاصطناعي ليس عدوًا للفتوى، لكنه ليس مفتيًا، فهو أداة قوية، لكنها تفتقر إلى العقل المقاصدي، والنظر الفقهي، والتقدير الإنساني الذي تستلزمه الفتوى، ولذلك فإن توظيف الذكاء الاصطناعي في دعم القرار الإفتائي لا يعني تفويض الآلة بإصدار الفتوى، بل استخدام قدراتها في تمكين العالِم الحقيقي من أداء دوره بصورة أدق وأسرع وأكثر وعيًا بتغيرات الواقع.

وشدد عياد، على أن الدار لا تتخوف من التقنية بحد ذاتها، بل من استقلالها عن الضوابط الشرعية والأخلاقية، وإذا استخدم الذكاء الاصطناعي وفق ضوابط رشيدة يمكن أن يكون عونًا للمفتي، وأداة مساعدة له ومحسنة من عمله وأدائه، وعلى سبيل المثال يمكننا استخدام الذكاء الاصطناعي في تصنيف الأسئلة، وتحليل الأنماط، والمساعدة في بناء قواعد بيانات ضخمة من الفتاوى، أو حتى تقديم إجابات مبدئية لبعض المسائل الشائعة أو الفتاوى العامة بناءً على فتاوى سابقة، لكن لا يمكن، ولن يكون مقبولًا، أن تتصدر الآلة مشهد إصدار الحكم الشرعي، لأن الفتوى ليست عملية حسابية أو منطقية فقط، بل هي اجتهاد إنساني مركب يتطلب الوعي بالمقاصد، وتحقيق المناط، ومعرفة حال المستفتي، ومراعاة الزمان والمكان والأشخاص والأحوال.

وأشار المفتي، إلى أن الضوابط تبدأ من التأكيد أن الذكاء الاصطناعي خادم للفقيه، لا حاكم عليه أو مستقل عنه، وأن الفتوى الصادرة عبر الآلة يجب أن تمر دومًا بمراجعة بشرية من جهة مؤسسية مسؤولة.

وأوضح أن الفتوى في فلسفة الدار "بنت زمانها"، ليست استنساخًا لحلول الماضي، بل اجتهادًا متجددًا يوازن بين النص والمصلحة، بين القيم الثابتة والمتغيرات الطارئة، وهنا نؤكد أن دار الإفتاء تضم لجانًا علمية متخصصة تعكف على دراسة المسائل المستجدة، وتشرك خبراء من مجالات متعددة لفهم أبعاد الظواهر الحديثة، بما يضمن أن تكون الفتوى مواكبة دون أن تفرط، وعصرية دون أن تشوه مرجعيتها، وبهذا النهج تقدم دار الإفتاء نموذجًا حيًّا لمؤسسة دينية تجمع بين عمق التراث وحيوية الحاضر.

وعن دور التدريب والتأهيل المستمر للمفتين في بناء مفتي يواكب هذا العصر المعقد، قال إن تكوين المفتي المعاصر أصبح أمرًا ضروريًا ولا يمكن حصره في حدود الفقه التقليدي، ذلك لأن المفتي العصري لا بد أن يكون فقيهًا ومفكرًا وناصحًا اجتماعيًا ملمًا بعلوم وأدوات العصر.

وأشار عياد، إلى أنه بات ذلك مشروعًا مركبًا يتطلب تأهيلًا متعدد الأبعاد، يتقاطع فيه الفقه مع علوم الاجتماع والعلوم الإنسانية والسياسة والاقتصاد والتكنولوجيا وعلوم الاتصال، ولهذا السبب، انتهجت الدار في السنوات الأخيرة نهج الشراكة المؤسسية مع جهات أكاديمية ومتخصصة لتقديم تدريب نوعي للمفتين الجدد.

ولفت إلى أن الدار لا تكتفي بالتدريب الداخلي في "مركز إعداد المفتين"، بل تنسق بفاعلية مع كيانات رائدة مثل أكاديمية الأزهر العالمية للتدريب، ومؤسسات متخصصة في الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي، وهذا التوسع في الشراكات يعكس قناعة الدار بأن المفتي اليوم بحاجة إلى أدوات معرفية وسلوكية تتجاوز الجواب الفقهي، ليصبح قادرًا على التعامل مع الأسئلة المركبة التي تمزج بين الدين والمجتمع والاقتصاد، وفهم البيئة الرقمية ووسائل التواصل التي تعيد تشكيل الفتوى يومًا بعد يوم، والتواصل الفعال مع جمهور متعدد الثقافات والمستويات.

وأكد عياد، الحرص على أن تكون الفتوى الصادرة عنها نتاجًا لتكامل علمي ومهني رفيع، حيث لا تكتفي بالاجتهاد الشرعي المجرد، بل تعلي من قيمة التشاور مع أهل التخصص في مختلف المجالات عند النظر في النوازل والقضايا المستجدة، وذلك إيمانًا منها بأن الفتوى الرشيدة لا تبني فقط على فهم النصوص، بل أيضًا على إدراك الواقع وتشعباته.

وفيما يخص تطوير الأدوات أو البرامج التي تعتمدها دار الإفتاء حاليًا لتسهيل العمل الإفتائي، فأكد أننا نعيش لحظة مفصلية تعيد تعريف وظيفة المفتي ودوره المجتمعي، لم يعد المفتي مجرد فقيه يجيب عن حكم الطهارة والصلاة فقط، بل أصبح رجلًا يخاطب الإنسان المعاصر، بلغته، وهمومه، وتحدياته، وسط عالم شديد التعقيد، لذلك لم تعد الكفاءة الشرعية كافية وحدها، بل أصبح من الضروري أن يضاف إليها وعي واقعي، وثقافة موسوعية، وفهم نفسي، وإدراك للسياقات الاجتماعية والسياسية والتقنية.

وأشار إلى أن المفتي اليوم يجب أن يعرف شيئًا عن الإعلام الرقمي، والاقتصاد السلوكي، والعلاقات الدولية، وقضايا البيئة والتكنولوجيا، لهذا حرصنا في دار الإفتاء على تطوير برامج تكوين المفتي لتشمل مواد مثل "فقه الواقع"، و"دراسات إنسانية"، و"مهارات القيادة والتواصل"، إلى جانب تدريب عملي مباشر على التعامل مع الأسئلة الجديدة والملفات والأدوات المعاصرة.

وعن التمييز بين الفتوى الصادرة عن عقل بشري مؤهل والردود التي ينتجها الذكاء الاصطناعي، قال المفتي إن التمييز يبدأ من فهم جوهري لطبيعة كل منهما، فالمفتي الإنسان لا ينقل حكمًا فحسب، بل يجتهد، ويراعي المقاصد، ويقدر الظروف، ويتحمل مسؤولية الكلمة التي يوقع بها عن الله، بينما الذكاء الاصطناعي يقدم ردودًا آلية مستندة إلى أرشيف من النصوص والمعلومات، دون وعي أو فقه للسياقات الفردية والاجتماعية.

وأضاف عياد، أنه من ثم فالفتوى البشرية تتسم بالتفصيل، وبالقدرة على التمييز بين الحالات، وبالتردد الورع أحيانًا في إصدار الحكم، في حين تميل إجابات الآلة إلى الاختزال، والجمود، وغياب الحس الإنساني، فلا تعرف التدرج، ولا تتردد في القطع بحكم دون مراعاة لحالة السائل أو لزمانه ومكانه، كما أن المفتي البشري قد يقول لا أعلم تواضعًا وخشية، بينما الآلة تجيب على كل شيء بلا مسؤولية، ولعل أخطر ما في الفتوى الآلية أنها تخفي ظاهرها المنضبط تحت قناع تقني، بينما تفرغ الفتوى من بعدها الشرعي والروحي والإنساني، ولهذا يبقى الوعي مصدر الأمان، فكل فتوى تفتقر إلى الاجتهاد، ولا تراعي المقاصد، ولا تحمل في طياتها تمييزًا بين الناس والسياقات، لا بد أن يعاد النظر فيها.

اقرأ أيضاًمفتي الجمهورية: الجهود الوطنية تُجسد يقظة دائمة بمسؤولية حماية البلاد

مفتي الجمهورية ينعى الأمير الوليد بن خالد بن طلال بن عبد العزيز آل سعود

مفتي الجمهورية: تطوير الميدان الإبراهيمي بدسوق خطوة مهمة لإحياء التراث الديني والحضاري

مقالات مشابهة

  • دعوة لمقاربة شاملة لتنظيم الذكاء الاصطناعي
  • الجدل الاقتصادي في شأن الذكاء الاصطناعي 1/5
  • الذكاء الاصطناعي يفضّل الاستشهاد بالمحتوى الصحفي
  • فيديو.. مباراة تنس بلا نهاية بين روبوتات غوغل لتدريب الذكاء الاصطناعي
  • البشر يتبنون لغة الذكاء الاصطناعي دون أن يشعروا
  • الصين تحذر من احتكار الذكاء الاصطناعي
  • كيف تواكب المؤسسات الدينية الذكاء الاصطناعي دون تفريط في الفتوى؟ مفتي الجمهورية يُجيب
  • الذكاء الاصطناعي يساعد على توقع الخصائص الكيميائية
  • أهم ما يميز أداة الذكاء الاصطناعي نوت بوك إل إم من غوغل
  • كشف دليل داعش السري: كيف يستخدم التنظيم الذكاء الاصطناعي؟