في كلمتك المسجلة في يوم الجمعة خاتمة اكتوبر 2023 قلت ان النميري هو آخر رئيس محترم !! جعفر ود أمنة  ابعد انسان عن الاحترام . فلننس كل المصائب التي ادخل فيها السودان ، فهذه قد قال اغلب الشعب رأيه فيها وقدم النفس والنفيس لقتلع النميري ويكتسح مايو . جنابك  الشعب يدين نميري ويطالب مصر باعادته لمحاكمته. وانت تطبل وتهلل لنميري  وتصنع منه بطلا محترما وقائدا عظيما .

.. هل انت تسخر من نفسك ولا من  الشعب السوداني ؟

ها هذه تصرفات انسان محترم ؟؟

1 ـــ المربي الكبير ورائد التعليم العم محمد توم التجاني لزم فراش المستشفى لفترة ليست بالقصيرة ، لأن البطل الهمام والرجل المحترم حسب فهمك قد اعتدى عليه بالضرب وهو شيخ .

العم محمد توم التجاني كان خفيف الظل رجل عذب روحه لطيفة ، يضفي على المجالس انسا وحبا . نقلوا لنميري قوالة والنميري لانه انسان فارغ الذهن بلا اطلاع يذكر او معرفة بالبروتوكول  وتصرف القادة . كان يحب القوالات ويحتفي بمن يأتيه بها . النميري كان تختة فارغة يكتب عليها الكثيرون ما يريدون  . قالوا له ان المربي الذي كان يحب الدعابة قد قال بعد اجتماعه مع نميري لمن سألوه عن الاجتماع ..... اداني فارغة واديتو مقدودة .ربما كان المربي يتفادى اطلاع الشمشارين بما حدث في الاجتماع !! هل هذا يسمح لنميري بالاعتداء على مربي بهذه الطريقة السوقية ؟؟؟

2 ــــ ابلغ الشمشاريون ان البروفسر عبد الله الطيب قد وصفه بالكذاب . أنا هنا اشهد بأن لجعفر كثير من الصفات السيئة الا ان الكذب ليس منها . استدعي نميري بالبروفسر والذي يجلس الملك الحسن ملك المغرب بين التلاميذ ليستمع الى  عبد الله الطيب .

قالوا لنميري ان نميري عندما تكلم عن الشعر مع عبد الله الطيب أن عبد الله الطيب قد قال له ..... ياريس انت لو قلت شعرا  فستقول اعذب الشعر . انتفخ النميري كعادته. قال الشمشارون لنميري أن عبد الله الطيب يقصد  ان نميري كذاب لانهم يقولون ،،، أعذب الشعر اكذبه ،،    تصور. قال نمير يا بروفسير عبد الله الطيب.... انت بتسيئني بالبارد  ؟؟ اخذه عبد الله الطيب في رحلة من الشرح وادخله في  متاهات الشعر واللغة العربية . ضاع نميري واكتفى بالقول ....امشي ....لكن يمكن اناديك تاني !!

ذهب بعض  السودانيين من طلاب  بلغاريا الي الكويت للعمل في فترة الاجازة ، كانوا قد سمعوا عن المليونير خليل عثمان الذي كان الاجنبي الذي يسكن وسط الكويتيين . اذكر منهم الاخ عصام دقنة . ترددوا على مكتب خليل عثمان  الذي لم يكن موجودا وبينما هم  يشتكون في الاستقبال اقترب منهم رجل لم يعرفوه وكان هو خليل عثمان . استفسر عن رغبتهم وقال لهم . اهلكم رسلوكم اورب علشان تقرو ، ما تشتغلوا  اعطى كل منهم مبلغا يعتبر في شرق اوربا خرافيا وقتها  البعثة للطالب كانت تساوي 6 جنيهات سودانية سكن لبس مواصلات واكل . ودعهم وقال لهم   ارجعوا كملوا دراستكم علشان تساعدوا اهلكم والبلد .

خليل عثمان كان يمكن أن يستثمر امواله في اوربا  ويريح باله عاد الى موطنه الدويم قدم الكثير للدويم اخذ اولاد الدويم للعمل في اسطول الصيد وبعضهم الى  غرب افريقيا منهم بدر الدين احمد الاحاج ادريس الذي كان يراسلني من السنقال  . قام بشراء مصنع النسيج الذي كان يوظف الآلاف اشترى مصنع الدواء من اولاد تمام  وسعه وطوره ووظف فيه الدكتور عبد الحليم محمد ولفترة اللواء البطل عوض عبد الرحمن صغير وهو من وقف في صف الشعب مع زميلة حمد النيل ضيف الله  في اكتوبر وانتهت الدكتاتورية العسكرية .  نادي الخليج  الذي يتبع لشركة  خليل عثمان كان يعتبر منتجعا للكثير من افراد الشعب السوداني .

اوصلوا وشاية الى الرجل المحترم والقائد الذي وضع رسمه على العملة  الوطنية  .... ان خليل عثمان قد قال في مأتم عندما استفسر الجميع ... اين الجيش وهذا عندما اتت طائرة ضربت امدرمان وذهبت لحالها 1982. الغريبة ان الطيارة ما كانت طافية نورها وكان يمكن استخدام الدفاع بالنظركما قال العبيط الآخر . زعموا لنميري ان من كرمته مايو واعطوه وسام ابن السودان البار قد قال .... هو الجيش فاضي من بيع الصلصة . وقتها في زمن ،، الكارب قاشو ،، ابو عاج أخوي ......كان الجيش يبيع كل شئ حتى  ،، الفرك ،، .

اعتقل الدكتور خليل عثمان جرد من الوسام  ووضع معتقلا في استراحة الزوار الاداريين بالقرب من رئاسة الجيش . وبعد فترة الحق به الشاب ،، مصباح ،، الذي واجه النميري في الجامع واراد مخاطبته والحديث  عن الفساد وتردي الحال الذي يحدث في البلد  .طلب النميري  اعتقال الشاب وقال له وقتها يعني انت عاوز تعمل بطل على حسابي .

قال خليل عثمان للشاب ..... شوف يل ولدي ما دام جابوك هنا  النميري وهو ماشي لي بيتو في المساء حيجيك وحيشتمك ويسمعك اسوأ كلام ارجوك ما ترد عليه . بس علشان خاطري انا  راجل كبير ومرضان . انا لمن جا وشتمني وضربني انا رديت عليه . طلع وجوني ناس الامن شهوني دقو . ارجوك يا ابني اعمل زيي ، ما ترد عليه ..... لم يرد ،، مصباح ،، فقال له النمير...... كلمك ال .... ده .

لقد كتب منصور خالد ما معناه .....ان النميري كان لا يجرد سيفه والا  الساحة خالية و....... الخ .

قام نميري بالاعتداء بالضرب على وزير ماليته بدر الدين سليمان  امام اكثر من شخص . هل هذا تصرف شخص محترم او يعرف الاحترام . ان للدولة هيبتها واحترامها ، تصرفات نميري كانت سوقية . ولانه مسنود بالامن والجيش لهذا كان يتصرف كصعلوك . نحن نعرف فتوات امدرمان وقد عجمنا عودهم .  جعفر ود آمنة لم يكن من فرسان امدرمان . اصطدم جعفر بفتوة مدني في ايام الدراسة في حنتوب . ولا يزال نميري يحمل على وجهه  آثار ذلك الصدام . تصافيا بعد تلك المعركة . كان البعض يقول لعوض حلاوة لماذا ساعدت نميري وانتما تعبران النيل سبحاحة بعد ان اصيب بشد عضلي .

اوصل البعض لنميري ان عوض حلاوة قد صرح بانه نادم على تلك المساعدة . ذهب الامن وانتقم من عوض حلاوة . عوض حلاوة تمت استضافته من بعض فتوات امدرمان في شهر يونيو 1964احدهم  اخي الملاكم عبد الرحمن كيكس طيب الله ثراه . اذكر ان عوض  كان يرتدي كسكتة في الليل في الكازينو المجاور لسينما امدرمان . كنا نتضايق منها ، لانه كان يرتديها عمال الصحة في الليل حتى لا تظهر ملامحهم التي يريدون اخفاءها. عوض كان شخصا طيب القلب و لطيفا خاصة مع من يعرفهم . بالرغم من قوته الظاهرة الا انه خسر معركة في مولد مدني عندما اصطدم بالعربجي عباس ابو مدينة . تألمت جدا عندما سمعت باعتداء امن نميري على عوض حلاوة .

عندما حضر نميري في آخر ايامه الى بون عاصمة المانيا للعلاج على حساب الشعب السوداني بعد أن سمح له الكيزان بالرجوع الى السودان بعد أن كان مطرودا ومطلوب القبض عليه بقائمة طويلة من الجرئم التي ارتكبها في حق الوطن . كان يجلس في الصالون على يمين المدخل  الرئيسي في منزل منزل السفير. لم يقدر نميري على رفع ساقه على المقعد الذي امامه . قام احد من طاقم السفارة برفع رجله . وبكل صفاقة قال نميري ..... تعرف الرجل الرفعتها دي امانة ما شلتت رجال . هل هذا تصرف رجل محترم ؟؟؟ الم يكن من الاجدر ان يقول هذه الرجل قد سعت لرفعة السودان ومساعدة المحتاج تفقد الفقراء او لانهاء ازمة ،مجاعة او  لرد الفيضانات والسيول الخ .

لقد اقتبست بريطانيا بعض  التجارب الناجحة في معهد بخت الرضا وطبقتها حتى في بريطانيا والمستعمرات . زعماء اليمن الجنوبي وحضرموت درسوا حسب المقررات التي  وضعته ابخت الرضا . كان يسمح لعشرة من طلاب حضرموت بدراسة الثانوية في السودان ارتفع العد لعشرين ثم ازداد كثيرا واخيرا تم استيعابهم في جامعة الخرطوم . نفس الشي حدث مع الصوماليين الارتريين وآخرين . الطلبة من جنوب اليمن كانوا يمازحونا بتذكر مقررات بخت الرضا مثا كتب المطالعة .... قام ساف تاه . هو ورد وهى وردت فلما نظر اليها تعجب منها  ،  طه القرشي في المستشفى ، الحمار الشاطر وكريت ابت الرجوع الى البيت الخ

القدال الكبير كان من اكبر رجال التعليم في حضرموت ، كان يستشار حتى في الشؤون الخارجية للدولة  . تم منحه رتبة ولقب الباشا . دول الجوار والخليج كانت ترسل طلابها للدراسة في كلية الشرطة الاطفاءية الصحة السجون الخ . المخابرات المصرية  عن طريق عميلها محيي الدين صابر  قررت تغيير المناهج السودانية التي صممت لتناسب طوف السودان . الكتب الكراسات ومعدات التعليم كان تطبع تصنع في مصر وترسل  الى السودان على حساب الشعب المسكين . المخازن والمهمات التي كانت تنتج كل هذه المعينات  وتو ظف حتى  المكفوفين توقفت لأن تلك الوظائف ذهبت الى مصر .

لقد ضحك الناس على  العنبج البرهان لانه أخد شبال في القاهرة وبسرعة اتي في خيان اكتوبر وقرأ خطبة السيسي التي تكتبها له المخابرات المصرية . وكالببغاء رد العنبج خطبة السيسي فقرة بعد فقرة وكلمة بعد كلمة  وقام بجريمته .  جعفر ود آمنة  لاكثير من عقد كان يردد ما تكتبه له المخابرات المصرية  والتي يصيغها وزير المعارف او التعليم محيي الدين صابر.

 

عند قراءة احد الخطب قال محيي الدين صابر  للوزراء ورجال الدولة ... استمعوا لهذه الروعة انها درر ... درر . قال له ،، الزينكو  ،، او زين العابادين محمد احمد عبد القادر ود نفيسة بصوت مسموع .....اسكت يامع..... ما انت الكاتب  الخطبة . النميري لم يكن يقرا خطبه قبل  ان يتقيأها على الشعب . في احد المرات توقف وهوو يقرا احد الخطب التي امليت عليه كالعادة ،  وقال محتجا .... الكلام ده انا ما موافق عليه . في احد المرات قرأ . ونشكر المواطن علي حسن سلوكه . وهذا يعني ان المواطن هو حسن ووالده هو علي وجده هو سلوكة . والسلوكة ،الجراية  الواسوق  من ادوات الزراعة في السودان . والقصد كان  شكر المواطن على سلوكه الحسن .هذا الكلام سمعه كل السودان والعالم الخارجي ...... تصور .

مكن الاشسياء التي رسخت في ذاكرتي في بداية الثمانينا  انني كنت فرزيارة لشركة كردفان التي ورثت بعض الشركات السودانية العريقة التي نهبت تحت لواء التأميم . الاخعبد الحليم الرجل الجنتلمان عندما اتت مكالكة عاجلة من نميري مباشرة  وكل المكالمة كانت ...... انت ليه ما عاوز تتعامل مع شركة ود نميري التي كان لها صرح ضخم غرب امدرمان ويديرها ويمتلكها مصطفى شقيق جعفرنميري .

القصة هى أن الشلركة قبضت عرابين او دفع مقدم من  مئة مشتري لشاحنات بدفورد او ،، سفنجات ،، . وصلت فقط 70 شاحنة فقط وسبب هذا حرجا للشركة . اتى مندوب من ود نميري مطالبا بسفنجتين . تم الاعتذتار له بادن ومعقولية . لانهم قامون بعمل نوع من اليانصيب . وعاى من لم يفز هذه المرة ان ينتظر الشحنة القادمة. اقتنع الناس وتفهموا الامر . بعد المكالمة اتى وكيا ود نميري وقال لعبد الحليم كما عرفت منه .... جينا نستلم السفنجات ،، حقتنا ،، !!

اين الاحترام هنال يا ،، جنابك ،، احمد ادريس ؟ هنالك الكثير ولكن لا نريد ان نمرض الشعب المسكين . الفيه مكفيه . واعك تاني تجيب سيرة جعفر ود آمنة !!!!

شوقي

 

shawgibadri@hotmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الشعب السودانی الذی کان قد قال لم یکن قال له

إقرأ أيضاً:

المشروع التقدمي الحداثي السوداني: DEAD MAN WALKING

المشروع التقدمي الحداثي السوداني: DEAD MAN WALKING
عبد الله علي إبراهيم
ملخص
طابق ضلال الجماعة الحداثية في السودان عن الوطن سوى عن حكومته مثلاً يرويه السودانيون عن نصيحة البصيرة أم حمد، فقيل إن بهيمة أدخلت عنقها في حطام زير. فاستدعى صاحبها البصيرة أم حمد لتنصح بمخرج للبهيمة، فقضت البصيرة بذبحها لتخلص من براثن الزير. وهكذا تقضي هذه الجماعة على الوطن ليخلص من حطام زير حكومته.
في سلسلة مميزة للمحاضرات قدم جون ميشام، مؤرخ الرئاسات الأميركية البارز والحائز على جائزة “بوليتزر” في التأليف المجود، في سبتمبر 2024 محاضرة بعنوان “الصراع الخطر: حب الوطن المدني في موسم الوطنية العرقية”. فقال إن حب الوطن، وهو التعريب الذي قال به رفاعة رافع الطهطاوي للمصطلح الفرنسي، نقيض للوطنية العرقية. أما حب الوطن فهو لدولة ملتزمة مبادئ الحرية الإنسانية وكرامة الفرد والحكومة التمثيلية والمساواة أمام القانون. أما الوطنية العرقية فهي النازع لتمكين جماعتك بخاصة ممن ربطتك بهم مواطن النشأة واللغة والدين وأعراف اجتماعية للهرمية الاجتماعية. وعنى بها شيعة ترمب. وبدا من تفريقه بين العنصرين أنه في سكة من فرقوا بين “الجبل” وهو عندهم الوطن و”الكهف” هو قسمة الواحد منه يرى شجرته من دون الغابة.
بين حب الوطن والوطنية
بدا على ضوء تفريق ميشام بين حب الوطن والوطنية أن الوطنية في فهمه ربما وصفت جماعاتنا الحداثية في السودان التي تمثلت تاريخياً في قوى الحرية والتغيير “قحت” وتحالف “التغيير الجذري” (الحزب الشيوعي وجماعاته). فبدا من ممارستهم السياسية خلال العقود الأخيرة أنهم فقدوا الولاء للوطن كجسد من الناس والتقاليد والمشارب ليمحضوا هذا الولاء لجماعاتهم بخاصة دون غيرهم. وسنحتاج إلى النظر إلى بنية هذه الجماعة الفكرية وممارستها السياسة متى أردنا معرفة ما ساقهم إلى سكة الوطنية من دون حب الوطن.
ففي بنية تأسيس هذه القوى أنها نتاج بيئة الحداثة الاستعمارية التي جاءتنا بالاستعارة لا بالأصالة، وهي الحداثة التي أنشأتهم على أن حاضرهم ليومهم كان ماضي أوروبا الذي تجاوزته إلى رحاب الحداثة بعد عصور النهضة والأنوار. فعليه لا بد من أن يطرأ للواحد من هذه الجماعة أن يسأل عن نفع ماضي أمته الذي سبق للغرب العيش في مثله ووجده معيباً ناقصاً. وعليه لا بد من أن لمثله أن يرى أن لا جدوى من الاشتغال بذلك الماضي “فكيف تحدث هذا الذي هو تعريفاً نقيضاً للحداثة؟” كما قال الأكاديمي الجزائري عبدالمجيد هنوم. فقبل الحداثيون هذا النفي الطوعي، أو التغريب الذي يرى المرء به تقاليده المحلية أو الوطنية صنو الجمود، فاستدبروها حتى امتنعت عليهم إعادة تجسير الروابط الحيوية مع ثقافة أهلهم. ولما تعذر عليهم ذلك التجسير لم تعُد هذه الثقافة لهم سوى مادة “للشناف” في قول السودانيين وهي من الشَّنَف وهو البُغض والتنكر كما سنرى. وفي ازدراء هذه الجماعة بماضي قومها تعلقوا بهدب استراتيجية عقيمة تستهين بثقافة من خرجوا لأخذهم للمدارج.
تهمة البدائية
فمن رأي هذه الصفوة أن العامة في سائر السودان مادة خام تنتظر تحديثها على يدهم قبل أن تكون طرفاً في الوطن. فـ””شناف” الصفوة للعامة هو في أصل امتياز تكليفهم بتمدين العامة وتحديثهم. فمن “شناف” الصفوة للعامة قول محمد أحمد المحجوب، رئيس الوزراء الشاعر، إن السودان من “الأمم المتأخرة” يحمل إرثاً خالفاً معيقاً من دون مراقي “البلاد المتمدنة”. فثقافة إرثنا، في قوله، ثقافة رجعية لسذّج عُقدت لصفوتهم المختارة المتحضرة المثقفة الأخذ بنهوضهم من “حضيض” هم في براثنه. ورأي الوزير الكاتب منصور خالد في الأمر من قماشة نظرات المحجوب نفسها. فقال إنه يشمئز مما يراه من السودان من البعد وهو في أوروبا “كتلة من الطين الآسن ترقد في قلب أفريقيا”، ويؤرقه نزاع الساسة فيه “يتعادون في مراد النفوس في بلاد نبتها عشر وطلح وأكثر صيدها ضبع وديب. ضعف الطالب والمطلوب”.
فأصل مشروعية نخبويتهم وامتيازها هي في تكليفهم بتمدين العامة وتحديثهم، وهي مهمة حضارية، لا يأتي من “يخضعون” لها بمعارف لأنهم خلو منها، أو أن نصيبهم منها بخيس في بلد كالسودان يصفه منصور بأن “نصفه متخلف بقرن وبضع قرن وراء حضارة العصر، ونصفه الآخر بدائي راكد لم يصل بعد إلى مرحلة التخلف”، بل زاد بقوله إن العامة أعْدَت حتى المثقفين فلم يستنقذهم تعليمهم السطحي حين أبقى “على كل عناصر الجلافة البدوية في أحشائهم”.
وتلك حدود جماعة سكرى بذاتها ترى في قيادتها للتحديث “منة لا خدمة”. فألغت بجرة قلم ثقافة من انتدبت نفسها لأخذهم في رحاب تجديد حياتهم بالحداثة. وإفراغ رعيتك من مأثورها لتبدلها حالاً غير حالها، وظيفة في التبشير الديني لا القيادة السياسة والفكرية من أجل التغيير. فلا غرو إن انكمش نفوذ هذه الجماعة الحداثية حتى صارت مما يعرف بجنرالات بلا جيش، أو ممن نفرهم لا يملأ حافلة ركاب. فخرجت بلا حمّص من ثورات ثلاث كانت في قيادتها لأنها سرعان ما ترتد إلى حجمها كجماعة لذاتها. وليس أدل على ذلك من الفصام الذي وقع بينها ولجان المقاومة التي كانت حدثاً سياساً جماهيرياً مبهراً في الثورة الأخيرة.
ولو صحت قراءتنا للتكليف التاريخي للصفوة بحمل أهلها الخالفين إلى مدارج الحداثة حملاً، أو غرغرتهم الحداثة في قول أحدهم، لفسرت لنا لماذا كان الانقلاب أداتها لبلوغ الحكم، أو نهوضها في حركة مسلحة لفرض نفسها على الحكم. فعلى أن الصفوة الحداثية هي من استعادت الديمقراطية الليبرالية مرات في أكتوبر 1964 وأبريل 1985 وديسمبر 2018 من فك نظم عسكرية، إلا أنها مما تختطفه منها قوى الإرث الديني والقبلي التي لها الغلبة بين الناس. فما جرت الانتخابات بصوت لكل مواطن حتى تبين لهذه الصفوة ضعف جرمهم لغيابهم المتكرر عن برلمان الديمقراطية المستعادة، أو حضورهم الاسمي فيها. ولما كانوا يملكون أدوات الدولة وفي الجيش بخاصة، رعرعوا نظرية مفادها بأنه لا تصلح مثل بلادنا إلا بحكم تحت القوات المسلحة التي زكوها لحداثتها المطلقة وانتشارها في أصقاع البلد. واستنفدت الانقلابات مشاريعهم جميعاً. فيكفي أن الرئيس نميري الذي قام بانقلابه في مايو عام 1969، كان في أول عهده يسارياً يزبد، ثم تحول قومياً عربياً اشتراكياً، ثم تحول ليكون على رأس دولة للتكنوقراط، ثم خليفة للمسلمين في مغرب عهده حتى زالت دولته عام 1985.
معارضة “الإنقاذ”
وأسفرت وطنية هذه الجماعات من دون حبها الوطن كأوضح ما يكون خلال معارضتها لـ”نظام الإنقاذ”. وأعظم تجليات ذلك الجنوح كان في حملتها ليقاطع المجتمع الدولي ذلك النظام. وطالت تلك العقوبات واستطالت حتى صارت من أهم حقائق الحكم والمعارضة في السودان، فالحكومة تتذرع بها لتغطية محنتها الاقتصادية، بينما سعت المعارضة إلى استثمارها لإضعاف الحكومة حتى القضاء عليها. ولم يطل الوقت حتى اختطفت اللوبيات الإنسانية الغربية خصومة “الإنقاذ” من معارضيها الوطنيين وهرولت بها.
فكان للوبي الإنساني الفيتو حتى على الحكومة الأميركية متى تعلق الأمر بدولة الإنقاذ. إذ كانت أميركا تواصلت مع الإنقاذ عام 2016 على مسارات خمسة التزم السودان تحسين أدائه فيها لترفع أميركا المقاطعة عنه. ولكن كان للوبي المسيحي رأي آخر. فأثار في وجه حكومته مسألة ما سماه اضطهاد دولة الإنقاذ للمسيحيين في السودان ليحول دون رفع المقاطعة عنها. ولم يكُن موضوع اضطهاد المسيحيين ذلك، على عظمته عند الحكومة الأميركية، ضمن تلك المسارات الخمسة على كل حال.
وانقلب سحر المقاطعة على المعارضين السحرة الذين مكنوا لها، أو تمكنت بسببهم، حين فازوا بالحكم بعد ثورة 2018. فوقفت تلك العقوبات، التي جاءت بخاصة بعد تصنيف السودان “دولة راعية للإرهاب” عام 1993، عقبة في وجه الحكومة الانتقالية بعد الثورة، فاستغرقها زمن طويل لرفعها عنها لتأمن من وضع اقتصادي ركيك ومرتبك ومحرج كانت للعقوبات الدولية الموروثة دخلاً كبيراً فيه، ناهيك عن “الغرامات” التي اضطرت حكومة الثورة إلى دفعها لضحايا “المدمرة كول” التي اتهموا حكومة الإنقاذ بتدميرها. وأصيبت سمعة الثورة وقوى التغيير في مقتل لاضطرار السودان إلى مسايرة التطبيع مع إسرائيل ليكسب ود أميركا. وهذا ثمن باهظ جداً لو تعلمون في سوق السياسة السودانية.
المقاربة الأميركية
ربما لم تكُن المقاطعة الأميركية بتلك الحدة لو لم تعُد قضية السودان مع أميركا قضية خالصة للوبيات الإنسانية بعد أن بادرت بها المعارضة لنظام الإنقاذ ثم شجعت عليها لا تريم. وكان الدكتور محمود محمداني، الأكاديمي في جامعة كولمبيا، أخضع المعارف التي من وراء الحملة القوية اللحوحة، “أنقذوا دارفور”، التي صدع بها اللوبي الإنساني والديني في كتاب ذائع. وجاءت الأكاديمية النرويجية ماريا ج جمبرت بآخرة لتقول باشتطاط أميركا في مقاطعة السودان. فكان بوسعها، في قولها، معالجة أمر السودان كدولة “هشة” لا “مارقة” متمردة على القانون الدولي. ومتى كانت اتفقت لأميركا صفة السودان كدولة هشة لوجدت سبيلاً “بالجزرة والعصا” لمساعدته من فوق بنى دولته المتهافتة لإدارة أفضل للفوضى ضاربة الأطناب فيه.
ولما تحول الوطن من فرط المعارضة وتطاولها إلى حكومة في فكر الصفوة الحداثية قلّ عندها اعتباره كجسم فيزيائي وثقافي وتاريخي. فلن تجدها مرهوبة حيال مقدسات معدودة للوطن ما دام أنها كانت بيد حكومة خرجوا لإسقاطها. فبعد قطع العلاقة بين إريتريا والسودان في ديسمبر 1994 قبل “التجمع الوطني الديمقراطي” المعارض لنظام الإنقاذ، دعوة حزب الجبهة الديمقراطية للعدالة الحاكمة في إريتريا إلى عقد مؤتمره في أسمرا، بل ليتخذها مركزاً لقيادته، ناهيك عن احتلاله سفارة السودان وجعلها مقراً له. ومن جهة أخرى، وقفت طوائف من المعارضين مع دولة جنوب السودان وحربها مع السودان في نزاعهما حول بلدة هجليج عام 2012.
نصيحة البصيرة أم حمد
وطابق ضلال الجماعة الحداثية عن الوطن سوى عن حكومته مثلاً يرويه السودانيون عن نصيحة البصيرة أم حمد. فقيل إن بهيمة أدخلت عنقها في حطام زير. فاستدعى صاحبها البصيرة أم حمد لتنصح بمخرج للبهيمة، فقضت البصيرة بذبحها لتخلص من براثن الزير. وهكذا تقضي هذه الجماعة على الوطن ليخلص من حطام زير حكومته.
ما أخفقت هذه الجماعة في إدارة ثوراتها حتى تذرعت بعبارة بمثابة الاعتذار “فشل الصفوة وإدمان الفشل” التي أذاعها منصور خالد في كتاب شهير. وبدا مما يتهدد الحداثة من تلاشٍ في حربنا القائمة أن ثمة عقاباً مدخراً للفشل وإدمانه.

عبد الله علي إبراهيم

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • ثُمَّ شَقَّتْ هَدأةَ الليلِ رُصَاصة !!
  • السوداني يطلع على فندق ” قلب العالم” في بغداد الذي سيستضيف وفود القمة العربية
  • المشروع التقدمي الحداثي السوداني: DEAD MAN WALKING
  • “مقياس ريختر للجوع”… ما هو مؤشر IPC الذي يحدد خريطة المجاعة في العالم؟
  • رمز جديد في واتس آب يثير الجدل…ما الذي يجب معرفته عن Meta AI؟
  • كيكل: ستجدوننا قريباً في موقع المسيرات التي تقصف
  • الأمراض التي قد يشير إليها الطفح الذي يصيب أكبر عضو في الجسم
  • السوداني يدعم تركيا اقتصاديا وهي تحتل شمال العراق وسبب شحة المياه الذي يعاني منه البلد
  • السوداني يدعو الشعب عدم العزوف عن المشاركة في الانتخابات
  • أعلمي يا نانسي، أنتِ ومن هم على شاكلتك، أن الكيزان لم يُسقطهم أنتم ولا جماعتكم، بل أسقطهم الشعب السوداني