الروائي العربي واسيني الأعرج يكتب: صك “الغفران” و”فردوس” المعري الضائع
تاريخ النشر: 5th, October 2023 GMT
أثير – الروائي العربي واسيني الأعرج
“رسالة الغفران” ليست “صك” غفران للجنة والراحة الأبدية ولكنها مساحة أسئلة حية ودائمة تتوالد باستمرار بحسب الظرفيات الثقافية والمجتمعية والسياسية. الجنة عند أبي العلاء المعري استحقاق ثقافي وفني ومعرفي. أنت لا تدخل إلى فردوس المعري فقط لأنك كنت خيرا ونبيلا ونقيا روحيا، ولكن لأنك أبدعت وقلت ما لم يقله غيرك.
مع هذا النص، يحتاج المرء إلى قدر واسع من التخييل ليتوصل إلى صناعة عالم شبيه بأمكنته وأزمنته المتراوحة بين ماض محكوم بسلسلة لا تنتهي من الممارسات الحياتية والفنية للشعراء أنفسهم، وحاضر يعشه الفنان بين الأمكنة الثلاثة. فقد استطاع أن يجعل من معراجه وسيلته للكشف عن عوالم أدبية جديرة بالنقاش. كما فعل الشيخ الأكبر ابن عربي في معراجه، الذي صعد، حلمياً، من خلاله نحو الملكوت الأعلى وقد أشركنا في كل مشاهداته[2]. لهذا، فنحن نرى أن عبقرية أبي العلاء المعري، كيفما كان حكمنا على أفكاره، كبيرة ليس فقط في جرأة خيارات الثيمات الإبداعية، لكن أيضاً في النظام السردي الذي اقترحه علينا في هذه الرسالة التي ارتقى فيها التخييل إلى الدرج الأعلى. وكل ما قام به فنيا يجد سبله التطبيقية اليوم بلا صعوبات كبيرة. النظريات الأدبية النصية وحتى الفنية التاريخية، المرفقة بانفتاح على الموضوعاتية، تجعل من القراءة فعلاً راهناً وغنياً. الإبداعية الخلاقة لا ترتبط لا بمكان ولا بزمان. فهي تتخطاهما، حتى ولو ظل ذلك رهيناً بهما.
يبدو واضحاً، بعد تخطي العتبات التي تضع الأشياء في سياقاتها، أن أبا العلاء المعري استند بشكل دقيق، في جمالية القص والارتحال إلى العالم الآخر، إلى الرحلة الرسولية نحو سدرة المنتهى، كما ذكرنا سابقاً. فقد اختاره المعري كبنية فنية فقط تسمح له بالصعود دون أن يبدو كلامه غير طبيعي أو خرافياً، وللشخصيات التي حاورها من خلال ابن القارح، بالانتقال من الأرض إلى العالم الآخر، وإعادة بعثها. مما يوفر لأبطال الحماية منطقاً، ولو داخل المعطى الديني، القصصي، التخييلي، منطق الانتقال من الحياة العادية أو من المقابر نحو عالم تخييلي علوي بكل خصائص الأرض وما ارتكبوه من آثام جعلتهم يخلدون في النار أو العكس. من هنا جاء تخييل المعري قوياً ومحيراً وعلى حافة الاتهام بالزندقة والكفر، لكنه وضع كل الحكاية في السياق الديني، جعل درجة التهمة تقل كثيراً، فقد كان جريئاً وسجالياً؛ أي أن أفكاره تمر عبر حلقات الشعراء الإشكاليين الذين انتخبهم ليحاورهم ابن القارح، مع كل التبعات التي يمكن افتراضها في هذا السياق. وهذا ما يرفع هذا النص إلى الأعلى، فهو يتخفى إلى حد كبير في أعماق دانتي اليغري «الكوميديا الإلهية» الذي أسس للأدبية الغربية، الأوروبية تحديداً. وكانت هذه الخيارات الفنية والتأثيرات العالمية موضوعات لدراسات كثيرة وشديدة الأهمية، ليس هذا مكانها.
أنجز أبو العلاء المعري هذه الرسالة التخييلية والواقعية في الآن نفسه، ليرد على ابن القارح. وقد اختار في سرديته أن يجعل من ابن القارح بطلاً نصياً للحكاية، بدأها بمقدمة قدم فيها رسالة ابن القارح وطيبة صاحبها، ونفوذ كلماتها إلى قلبه، قبل أن يطلق العنان لمخيلته، داخل مدارات رحلة تخييلية التقى فيها ابن القارح مع كوكبة من رجالات الثقافة والعلم واللغة والشعراء العرب، لدرجة أن أصبح ما يرويه كأنه حقيقة. لم يتوان أن ينقل لنا نقاشاته نحو العالم الآخر، كما ساجل الأدباء والشعراء واللغويين في موضوعات شديدة الحساسية وكأنه يختبر معارفهم وآفاقهم وإنسانيتهم. ثم استرسل بخياله الجامح إلى بلوغ ابن القارح للسماء العليا بفضل كلماته الطيبة التي رفعته إلى الجنة، فاقترب منه ووصف حاله، واصفاً الجنة التي دخلها بعد حشر ثقيل وانتظار زمن طويل، الزمن الإنساني وليس الزمن الأخروي. فانتظار شهرين في المحشر هو ثانية بالنسبة لزمن الصيرورة والإطلاق. لم يغفل أبو العلاء المعري الاستناد إلى بعض الأبيات الشعرية على عادة الكتاب القدامى لتدعيم رؤيته الفكرية والإبداعية، إذ لم تكن الخيارات والشخصيات الحكائية عملاً عبثياً. مرجعه الفني والبنائي في ذلك ما تمنحه الخلفيات الثقافية والأخبار، وتواريخ الشعراء من سبل تعبيرية مثقلة بالمعارف. وربما قصد أيضاً أبو العلاء المعري أن يحول النص إلى حلبة للمباراة اللغوية التي أفلح فيها، ولو أنها كانت تحول النص من حين لآخر على نص مغلق.
من هنا، فاختيار الشكل الغرائبي لم يكن فعلاً عبثياً ولا شيئاً طارئاً، فهو جزء من فلسفة المعري في الحياة. لقد عاش غاضباً على البشر وأطماعهم وجشعهم، ويائساً حتى من إصلاحهم، لهذا هرب في النهاية نحو الشعر. وحده الشعر أعطاه التوازن الذي ظل يبحث عنه بعد خيباته المتكررة. أدخل وأخرج من الجنة من شاء من الشعراء بسبب بيت شعري أو بسبب موقف صغير، ولم ينتظر الشيء الكثير من الحياة. جولته في دهاليز الآخرة ليظهر شيئاً مهماً هو غفران الله حينما يشاء ولا يطلب الإذن من أحد، فهو الأسمى والأقوى، ولهذا تظل أحكم البشر الشكلية أحكاماً جاهرة.
لهذا، فرسالة الغفران تظل ثمرة لإستراتيجية فنية اختارها أبو العلاء المعري المشبع بثقافة عصره، ليثبت جدارة حكيه، وسلطان الحق الذي لا يرى. أما الشكل الغرائبي الذي استعاره من المعراج والقرآن الكريم، فهو قيمة فنية مضافة للبنيات الأدبية في زمن كتابة هذا النص الذي وُلِدَ كبيراً، على الرغم من الزمن الظالم الذي مرَّ عبره. هو نص الاستمرارية والخلود لأنه مس قضية جوهرية: الإنسان في علاقته بالفن أي بالخلود والأندية. وإلا لكان قد اندثر قبل أن يتحول إلى مرجع إنساني كبير في محتواه وفي رؤيته الفنية الخالدة.
المصدر: صحيفة أثير
كلمات دلالية: هذا النص
إقرأ أيضاً:
الحجر الأسود.. كيف نزل من الجنة إلى الأرض وثواب تقبيله
الحجر الأسود من أبرز المعالم التي يتطلع الراغبين في أداء مناسك الحج بالوصول إليه وتقبيله، وهو حجر بيضاوي يقع في الركن الجنوبي الشرقي من الكعبة المكرمة، ويحظى هذا الحجر بمكانة عظيمة لدى قلوب المسلمين، كما يعتبر من شعائر الحج والعمرة، حيث يبدأ الطواف من عنده وينتهي إليه.
ووردت أحاديث نبوية تبيّن فضل الحجر الأسود وتبيّن أهميته، حيث يكتسب الحجر الأسود قدسيته من ارتباطه بالبيت الحرام، إضافة إلى تاريخه العريق الذي يعود إلى عهد النبي إبراهيم عليه السلام.
وفي هذا التقرير، نتناول أبرز المعلومات عن الحجر الأسود ومكانته الدينية..
هل الحج الأسود نزل من الجنة؟نزل الحجر الأسود من الجنة مع سيدنا آدم عليه السلام، وكان لونه شديد البياض، حتى إنه كان أشد بياضا من الثلج، إلا أن خطايا الناس وشركهم بالله تسببت في اسوداد الحجر الفضيل، وجاء ذلك فيما رواه الترمذي عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نزل الحجر الأسود من الجنة، وهو أشد بياضًا من اللبن، فسودته خطايا بني آدم".
وعن سبب نزول الحجر الأسود فقد بيّن ابن عباس -رضي الله عنه- أنّ السبب هو أن يكون أنسا لـ سيدنا آدم عليه السلام في هذه الأرض؛ حيث قال ابن عباس -رضي الله عنه-: "إن الله -تعالى- أنزل الركن -يعني الحجر الأسود-، والمقام مع آدم -عليه السلام- ليلة نزل ليستأنس بهما، وأنه كان يأنس بالحجر".[٥]
نزل سيدنا جبريل عليه السلام بالحجر الأسود أثناء بناء سيدنا إبراهيم عليه السلام للكعبة؛ ليضعه بجوار الكعبة المشرفة كما أمره الله، وقد لخص هذه القصة ابن جرير في تفسيره، والأزرقي في أخبار مكة بإسناد حسن، وكذا رواه الحاكم في مستدركه، حيث قال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه عن خالد بن عرعرة أن رجلا قام إلى على فقال: «ألا تخبرني عن البيت؟ أهو أول بيت وضع فى الأرض؟ فقال: لا ولكن هو أول بيت وضع فيه البركة، مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمنا، وإن شئت أنبأتك كيف بنى: إن الله أوحى إلى إبراهيم أن ابن لى بيتا فى الأرض.
قال: فضاق إبراهيم بذلك ذرعا، فأرسل الله السكينة، ولها رأسان - فاتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت إلى مكة، فتطوت على موضع البيت كتطوى الحجفة، وأمر إبراهيم أن يبنى حيث تستقر السكينة، فبنى إبراهيم وبقى حجر، فذهب الغلام يبغى شيئًا، فقال إبراهيم: لا ابغنى حجرًا كما آمرك، قال: فانطلق الغلام يلتمس له حجرًا، فأتاه فوجده قد ركب الحجر الأسود فى مكانه، فقال: يا أبت، من أتاك بهذا الحجر؟ قال: أتانى به من لم يتكل على بنائك، جاء به جبريل من السماء، فأتماه.
ثواب تقبيل الحجر الأسودتقبيل الحجر الأسود من السنة المباركة، فقد جاء عن عمر رضى الله عنه «أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله، فقال: إنى أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أنى رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك» رواه البخاري.
كما روى ابن خزيمة في صحيحه، وأحمد فى مسنده، والحاكم فى مستدركه وصححه ووافقه الذهبي عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن لهذا الحجر لسانًا وشفتين يشهد لمن استلمه يوم القيامة بحق".