يد يتيمة ديوان لمهيب برغوثي،، الذي يترك نصوصه على طاولات المقاهي!
تاريخ النشر: 15th, November 2023 GMT
- قال لجمهور شعره: لا أصدق ان هذا الشعر الرديء يعجبكم، كفاكم ضحكا على أنفسكم وعليّ!
"يد يتيمة" هذا ديوان شعري عجيب، محير، نحن سنحبه حتما ولكننا سنخافه، من أكثر من زاوية، يشبه عاصفة في جو هادئ، عدد صفحاته مئة واثنتي عشرة صفحة، لكن عدد صفعاته الموجهة للذائقة الشعرية العربية أكثر من ذلك بكثير، صاحب هذا الديوان شاعر فلسطيني عاد إلى فلسطين عام 2000، متأخرا بضع سنوات عن عودة الأسلويين، مع عودته فوجئ الشعراء بقصيدة غريبة تقتحم مدارهم، مشوشة الصورة الشعرية التقليدية، وكاسرة إيقاع العبارة، ارتبكت اللغة السائدة، وتحدث الكثيرون عن عملية تخريب ممنهجة تدخل الى فلسطين لتحطيم أركان وجه اللغة والتراث والهوية، لكن الأمور أخذت بعض الوقت حتى استقرت قصيدة مهيب المجنونة وحصلت على بعض الاعتراف، من دوائر ثقافية معينة، كانت تتشارك مع الشاعر فكرة تجديد الخطاب الشعري وتنقيته من دخان الشعار والصراخ.
كان حسين برغوثي الشاعر والمفكر الشهير (وهو قريب شاعرنا)، يجلس على عرش تحديث الرؤية الابداعية في الكتابة الشعرية أوائل التسعينيات وكانت كتبه الأولى تشكل إلهاما وقدوة للشعراء الشباب، شجع حسين مهيبا، وتبنى تجربته المحطمة.
كانت الصدمة الثقافية الكبرى في الجو الثقافي الفلسطيني هو انفجار شاعر يكتب نصوصه بعيدا عن وصاية حزب أو شلة أو منصب، نصه بلا مرجعيات، ولا آباء تقريبا له، في فضاء ثقافي فلسطيني كان يشكل فيه حينها وما زال الانتماء الحزبي أو العائلة الكبيرة أو الشللية مرجعيات ومتكآت للنص الادبي، عاش مهيب بدايات وجوده في فلسطين متشردا بلا بيت، كان ينام في البيوت المهجورة، ويأكل ما تيسر له من مساعدات الأصدقاء، ومع الوقت حصل على وظيفة مصور في إحدى الصحف ولاحقا محررا ثقافيا في الصحيفة نفسها، ما زال يعيش في رام الله يكتب بنفس طريقته التي هي نفس طريقته في العيش: في ديوانه الجديد يكتب:
بين تلك الهندسة المظلمة
وصياح الباعة المتجولين
أجر ذيلي المقطوع
بنصف نوم ونصف ثمالة
أعوي في الخراب
فمي مملوء بالتراب
أعوي ولا أحد يربت على جرحي
فقد مات أصدقائي وهربت جارتي مع جاري الكفيف
وككلب مشرد أعوي في المدينة.
لا نعرف من يقلد من، هل تعوي قصيدة مهيب في مدينته مقلدة عواءه؟ أم أن مهيب نفسه يقلد عواء قصيدته،؟ ليس مهما أن نعرف، المهم هو أن نعرف أن هذا الشاعر المختلف حطم الحدود بينه وبين قصيدته، بشكل لم تتعود عليه ذائقة الشعر في بلادنا.
في هذا الديوان لا يكتب مهيب برغوثي شعره من فراغ، هو لا يتسلى، لا يحرق وقتا، لا يصفّي حسابات، الشعر يخرج من روح البرغوثي دون إجبار أو ضغط، حتى الشاعر نفسه، لا يفكر في آلية خروج الشعر منه، إنها عملية عيش، تصير فيها الهواجس وتحدث الأشياء والصور بشكل غير مفكر فيه، كما الجوع تماما، نشعر في الجوع فنفتح أفواهنا. هذه الطريقة المجنونة في الكتابة لها مخاطرها، فهي مغامرة غير مفكر فيها، أن ندع الشعر، يسقط منا حين نشعر به، تماما كما نهز كتفنا لرمي قطة ملحة تقف على الكتف، القصة كلها تتلخص دون فلسفة أو فذلكة في ذهن مهيب: أن ندع الشعر يسقط منا على ورقة بيضاء تقع تحتنا مباشرة.
مهيب لا ينظر إلى القصيدة، لا يسائلها ولا يقول لها حمدا على سلامتك يا صديقتي، قصائده في كل مكان على طاولات المقاهي والمطاعم، يكتبها على محارم الطاولة أو على الورق الخفيف الذي يضع تحت صحن الحمص.
لم يعد نادلو المطاعم يتفاجؤون، لقد تعودوا، ثمة شخص أصلع وأشقر بكرش كبير، يترك مطعمهم بعد الأكل تاركا قصائده على ورق الطاولة ومحارمها.
الذي يريد أن يبحث عن فلسطين في قصائد مهيب لن يجدها، لكننا سنجد شيء آخر لا يقل قدسية وأهمية، أنه الانسان، في شعره ثمة شخص يضخ هواجسه الشخصية ويومياته الحزينة والغريبة وحقوق قلبه وجسده وحيرته المتطلبة، شخص يؤمن بحقه، في الشكوى وفي شتيمة السيئين وفي فضح الكذابين في عالميّ السياسة والأدب.
لا يكترث مهيب باللغة، لا يهمه إن أخطا مطبعيا أم نحويا، هو يستجيب فقط إلى إحساسه الطافح بالمأساة أو بالنشوة.
عن ماذا يكتب مهيب؟ في دواوينه السابقة:
عتم،
و كأني أشبهني،
ومختبر الموت،
وحقوق موت محفوظة،
أغرقنا هذا الشاعر الذي اقترب من الستين، وهو يكتب عن تفاصيل حياته، بلغته المقتحمة، عذوبة عالمه المليء بالبراءة والانهمار غفرت له تفكك صوره وتسطحها أحيانا، في ديوانه الجديد "يد يتيمة" الذي صدر هذا العام عن دار الأهلية، لا يغادر البرغوثي عالمه الصغير، مفرداته هي هي، نستطيع أن نعدها تماما كما استطاع النقاد عد مفردات الشاعر اللبناني العظيم بسام حجار، ليس مشكلة جمالية دائما ضيق عالم الشاعر، أحيانا يكون اتساعه مصدر اضطراب وفوضى وثرثرة، الحكمة الشعرية هي في توظيف العالم بمفرداته الضيقة أو الواسعة توظيفا ملفتا وجديدا ومفاجئا.
في ديوانه الجديد "يد يتيمة"، ثمة عمق مفاجئ، وذهاب نحو ما بعد الصورة، والميل للسردية الخفيفة، وطريقة استخدام جديدة للغته، وربط سريالي ومتين بين مفرداته وعناصر يومياته:
في قصيدته (ضجيج) يكتب:
يأكل راد المقهى
وينتقل للشارع المقابل
كيف خرج من رأسي؟
ها هو يأكل الرجل الجالس على زاوية التقاطع
وينتقل بكل سهولة الى المكتبة، بائع القطن
الضجيج سيأكلنا جميعا
انه الضجيج .... أوقفوه
لا تتركوه يذهب الى المقهى
هناك الرجال الهاربون من زوجاتهم.
في محطات الشعر الفلسطيني لا أتذكر تجربة شعرية تشبه تجربة مهيب برغوثي، من زاوية التفرغ الكامل والوفاء الهستيري للاحساس، والاستهتار بالجمهور، واستثمار أشياء حياته البسيطة في الشعر، كجواربه التي أهداها ديوانا شعريا كاملا، وقطته التي تنام معه في الفراش، وشاحن هاتفه الخلوي، ولحافه المسطول، وكتبه المسروقة من المكتبات العامة، وسيفون حمامه، ومسمار لحم قدمه، ومن ناحية الذوبان في لحم اللغة لدرجة عدم القدرة على الفصل بين صورة شعرية في قصيدة لمهيب وبين صرير باب بيته مثلا الذي قلما طرقه أحد، وقف مهيب مرة أمام جمهور قاهري، قرأ قصائده بطريقته البوكفوفسكية، ثم فجأة شتم الجمهور وهو يصيح ممزقا كتابه: (لا أصدق ان هذا الشعر الرديء يعجبكم، كفاكم ضحكا على أنفسكم وعليّ).
للفقد مساحة كبيرة في يد مهيب اليتيمة، مهيب الذي فقد أمه وأباه وأخته وأصدقاء كثر ومعظم شركاء لعب الشدة في المقهى، حتما سيدخل الشعور بالفقد مرتاحا الى نصوصه، وسيكون هناك مفقودون كثر. يكتب في قصيدة (خلف معش المدينة).
لا أحد
عامل القمامة
يقود سيارة دفن العاهرات
لا أحد خلف نعشي
صاحب المقهى
ينظر الى الجانبين ويبتسم
جسدي وحده يسير في الظلام
لا أحد يسير نحو المقبرة
سوى طيف أمي
لا أحد سوى الفراغ يقود نعشي.
بعد خمس دواوين شعرية للشاعر الذي يكتب عن أتفه الأشياء منتزعا منها دلالات عظيمة ومسقطا عليها إشارات مهمة، صار لشاعرنا مريدون وتلاميذ، إذ بدأت تظهر علامات تأثر من شعراء شبان في فلسطين والعالم العربي بتجربته وصار بالإمكان التعرف على ملامح هذه التجربة وإطلاق صفة نسيج وحدها عليها، فالتفكك وجنون الخروج عن النسق والايقاع والانتهاك في شعر مهيب ليس جديدا على شعر العالم، لكن مزج مهيب لهذا التفكك والخروج مع تجربته الشخصية ومع سياق بلاده أعطاها طابعا شخصيا أصيلا.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
القصيدة طريدة الشاعر
(1)
يطاردها كل حين، يبحث عنها في غابات الخيال، يسير وراءها إلى حافة الكون، تهرب منه كلما اقترب منها، كفراشة متمنعة، يحاول اللحاق بها، يخترق السراب، ويهيم في الغيم، وينثر حَب الريح في طريقها علّه يصطادها، وفي كل مرة تغيب عنه، فيحن إليها، ويتمنى عودتها.
(2)
هجرَته منذ زمن، ذابت في البعيد، فتّش عنها بين نجمتين، ذهب إلى أطلالها القديمة، أغراها بالحرير، وأرسل لها رسول الجنون، ورشها بعطر الحنين، وترامى لها كغصن راك، وعصر في كفيها ماء ورد العشق، وتوسّل إليها أن تعود..
لم يكن لكل ذلك أثر.. هجرته بعناد، دون أن تلتفت لمعاناته.
(3)
كم هي قاسية هذه المعشوقة، كم هي باذخة في الجمال، نافرة في الحسن، متمنعة، وخجولة، ومتمردة، ومتنمّرة، ومدللة، لا ترخي جدائلها إلا إن أرادت، ولا تستسلم إلا إن آمنت بشاعرها، ولا تأبه لأولئك الذين يحاولون اقتيادها دون إرادتها، فهي تعلم، وهم يعلمون أنها ستظل عصية على الخيال.
(4)
هربت منه في جبال الموت، وسارت بين جواري القصر، وتعلّقت في أهداب أنثى بعيدة، واستثارت كل مفاتنها، وغارت في كهوف العاشقين، تحمل وزرها بين يديها، وتشعل فتيل القريحة على هواها، وتعيد الشاعر الغائب إلى مكانه الأول.. هي تفعل كل شيء.. والشاعر يقف على تلة الانتظار، ينتظر عودتها من منفاها الأخير، بأمل العاشق، وقلب الملهوف.
(5)
ها هي.. تبدو من بعيد، تأتي على خيل الغيوم، بقوامها الممشوق، وجمالها الأخاذ، تطل من بين الكلمات، كلمة، كلمة، حتى يكتمل المعنى، ويغيب الشاعر في غيبوبة الكتابة، ينسى كل ما حوله، ومن حوله، يسيح في فضاء اللغة، ويعصر خمر العبارة في فم الخيال، ويذوب، يذوب رويدا رويدا، في عالم غير مرئي، ومختلف، يقتطف من جناته ما يشاء من الأزهار، حتى تتكون باقة القصيدة، ويكتمل المعنى، وتعود الروح للشاعر المجنون من جديد.
(6)
يعود الشاعر من عالمه المسكون بالكلمات، تعود إليه الحياة، تبدأ الروح تدب في أوصاله من جديد، تتحرك أوتار قلبه، ويعود من هذيانه، ورحلته الغرائبية، يعود وفي يديه صيده الثمين.. مخلوقة رائعة، تسمّى «قصيدة».
(7)
ليست قصيدة تلك التي تشبه غيرها.
مسعود الحمداني كاتب وشاعر عماني