المطران سابا أسبر: الصوم فوز عظيم لمن يعيشه
تاريخ النشر: 21st, November 2023 GMT
يقول المطران سابا اسبر بمناسبه بدء الصوم الميلادي يروي القدّيس بورفيريوس الرائي (+1991)، في معرض رواية أحداث من حياته، خبرته كأب روحيّ مع سرّ الاعتراف. ذهب القدّيس بورفيريوس إلى جبل آثوس هرباً وكان في الرابعة عشر من عمره. عاش هناك مع أخوين بالجسد ناسكين. اضطرّ مرضُه الناسكين إلى إرساله خارج الجبل المقدّس للتداوي والاستشفاء.
يقول عن تلك الخبرة إنّه اعتاد أن يضع كتاب القدّيس نيقوديموس الأثوسي إلى جانبه. يفصّل هذا الكتاب، استناداً إلى ظروف القرون 16و 17، الخطايا واحدة واحدة، ويضع قوانين توبة وتأديب لكل خطيئة. تبدو قوانين الكتاب شديدة القساوة للإنسان المعاصر.
أمانة القدّيس بورفيريوس لإيمانه ولِمَا تعلّمه في المنسك جعلته يفتح الكتاب بعد كلّ اعتراف، ليعطي المعترِف القانون الذي يتطابق وخطيئته: ثلاثمائة مطانيّة كبيرة يوميّاً وصوم لمدّة أسابيع أو شهور وما شابه. لكنّه اكتشف بعد فترة أنّ هذه القوانين تفوق طاقة المؤمنين، وأنّهم لا يتحّملون تأديباً بهذه الشدّة، ممّا يدفعهم إلى اليأس من التخلّص من خطاياهم، واليأس بدوره يعيدهم إلى خطيئتهم ثانية.
اكتشافه هذا جعله يغلق الكتاب ويضعه في المكتبة، ويبدأ بسؤال المعترِف عن عدد المطانيّات التي يستطيع القيام بها، واستعداده للصوم وما شابه من قوانين تأديبيّة. وتالياً يعطيه القانون الذي باستطاعته القيام به.
يعلّمنا مثال القدّيس بورفيريوس أنّ ثمّة تمييز بين التعليم الروحيّ في الكنيسة وبين تطبيق هذا التعليم. ثمّة تدرّج في نمو المؤمن حتّى يبلغ إلى المستوى المنشود. تساعد الكنيسة المؤمنين وترافقهم في رحلتهم الروحيّة، وتدّرجهم شخصيّاً في مراقي الحياة المسيحيّة. يستقي الراعي أو الأب الروحيّ من الخبرة الروحيّة الحيّة، لا من النصوص فقط، كيفيّة رعاية الإنسان روحيّاً، آخذاً بعين الاعتبار مقدرته واستعداده وظروفه.
يرافق الأب المعرِّف المؤمنين في رحلة نموهم الروحي، معطياً إيّاهم ما يناسب نموّهم وتقدمهم. الوصفة الروحيّة العامّة هي الإنجيل، أمّا كيفيّة تطبيق الإنجيل وعيشه فأمر يعود إلى خبرة الأب الروحي من جهة، ومقدرة وظرف ووضعيّة المؤمن من جهة ثانية. هذا توجّه أساسيّ في الإرشاد الروحيّ بحسب المنهج الأرثوذكسي.
ورد في كتاب بستان الرهبان، أنّ شابّاً من عائلة ثريّة طلب الترّهب في أحد الأديرة في صحراء مصر. كان رهبان ذلك الدير ينامون على الأرض، جرياً على عادة الشعب آنذاك. أعطى الرئيسُ الراهبَ الجديد بركة إسناد رأسه إلى مخدّة في أثناء النوم. فشكا بعض الإخوة ممّا اعتبروه تمييزاً، فأجابهم الرئيس أنتم كنتم تنامون على الأرض في بيوتكم، وعندما أتيتم إلى الدير لم تتغيّر طريقة نومكم كثيراً. أمّا ذاك فكان ينام على سرير وفراش من ريش النعام، فمن منكم قدّم في رهبنته تضحية أكبر؟
تعلّمنا هذه الحادثة، وتراثنا الروحي مليء بأمثالها، أهميّة التعاطي مع كلّ شخص بحسب قدرته وظروفه وإمكاناته، بغية نقله إلى مستوى أرفع وأسمى. يقول بولس الرسول. "لمّا كنت طفلاً، كطفل كنت أتكلّم وكطفل كنت أدرك وكطفل كنت أفكّر، ولمّا صرت رجلاً، تركتُ ما هو للطفل"(1كو11/13).
"الحرف يقتل والروح يُحيي"، على ما يعلّمنا الرسول نفسه. لكن تخّطي الحرف وبلوغ الروح يحتاج إلى خبرة روحيّة عميقة، وإلى تواضع عظيم يمكّن الراعي من الانفتاح على خبرة المتقدّمين روحيّاً والاستفادة منها. غالباً ما يخفي العناد والمغالاة هوىً خفيّاً يدعوه الآباء الروحيّون "البرّ الذاتي" أو "المجد الباطل". وكثيراً ما شهدت الكنيسة سقوطاً عظيماً لمن كانوا شديدي القسوة في إرشاد المؤمنين إلى درجة خانقة وزمّيتة.
يعلّمنا التراث الروحي الأرثوذكسي أن نكون قساة على أنفسنا ورؤوفين بالآخرين وراحمين إيّاهم ومرافقين لهم.
أسوق هذا الكلام بسبب اعتبار بعض الآباء الكهنة الامتناع عن الزيت أحد أركان صوم الميلاد الرئيسة. إنّ قواعد صوم الميلاد بحسب الكنيسة الأرثوذكسية هي:
عدم الامتناع عن الطعام والشراب حتّى الظهر. والسماح بتناول السمك والمأكولات البحرية حتّى الثاني عشر من كانون الأوّل، الذي يصادف عيد القدّيس سبيريدون العجائبي. والتوقف عن تناول الأسماك وما شابهها بعد ذلك التاريخ، لأنّ العيد بدأ يقترب، وتالياً فالمؤمنون يكّثفون استعدادهم له بمزيد من النسك.
أمّا الامتناع عن الزيت فهو صوم رهبانيّ مبارَك لمن يريده ببركة أبيه الروحي، ولكنّه ليس إلزاميّاً. يستند البعض في الصوم عن الزيت إلى ما ورد في كتاب السواعي الكبير. وجواب الكنيسة أنّ التأثر بممارسات الرهبان قد عمّ مع نموّ الحركة الرهبانيّة واسترشاد المؤمنين عند الآباء الرهبان وتمثّلهم بممارساتهم. وكتبنا الليتورجيّة صيغت تحت هذا التأثير الرهباني. هذا لم تمنعه الكنيسة، لكنّها لم تجعله ملزِماً للجميع. لذلك تبقى ممارسات نسكيّة كهذه وغيرها إضافيّة ومرهونة باستعداد المؤمن لعيش نسك أكبر، وهذا يتمّ، بحسب تراثنا الروحي، بالحصول على بركة خاصّة من الأب الروحي الذي يجب أن يكون عارفاً بإمكانات من يسترشد عنده وبحالته الروحيّة. الانتباه إلى ما يُسمّى في تراثنا "شيطان الهمّة الزائدة" أكثر من ضروري.
على الأب الروحي مرافقة أولاده الروحيّين مرافقةً تنميهم وتطّورهم روحيّاً، لا مرافقةً تُلزِمهم بممارسات تفوق طاقتهم، وتودي بهم إلى اليأس والإقلاع عن العيش الذي يقودهم إلى خلاص نفوسهم.
الترتيبات الموجودة في طقوسنا الكنسيّة تهدف إلى مساعدة المؤمنين كي يعيشوا الحدث الخلاصي الذي يعيّدون له، وتالياً كي ينموا في القامة الروحيّة والنقاوة والقداسة، لا لتكون عبئاً إضافيّاً عليهم. لنذكر كلمة يسوع: "ليس الإنسان للسبت، بل السبت للإنسان".
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: أقباط الأب الروحی الروحی ة روحی ا روحی ة
إقرأ أيضاً:
أصوم لأنقص وزنى فهل أثاب على ذلك؟.. الإفتاء تجيب
ورد الى دار الإفتاء المصرية سؤالا تقول صاحبته: ما حكم الصيام لإنقاص الوزن؟ فعندي سمنة وأتبع حِمْيَةً غذائية لإنقاص الوزن، وممَّا أتبعه في ذلك أنِّي أصوم يومًا وأفطر يومًا -في غير رمضان-؛ فهل أثاب على ذلك الصيام مع أنَّ الباعث عليه إنقاص الوزن لا القُرْبَة؟
وأجابت الإفتاء عن السؤال قائلة: النية شرط لصحة الصيام، فإنْ صام المكلف غير مريدٍ القربة لم يقع صومه صحيحًا، ولها أيضًا الأثر البالغ في تحقيق الثواب الأخروي، وعلى المكلف أن ينوي القربة مع الحمية وإنقاص الوزن رجاء تحقيق الأثر والثواب جميعًا.
النية وأثرها في صحة العمل وفساده
أناط الله تعالى صحة الأعمال وقبولها والإثابة عليها بالنية، فمتى صلحت النية صلح العمل، ومتى فسدت النية فَسَد العمل، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» أخرجه الإمام البخاري ومسلم في "صحيحيهما"، واللفظ للبخاري.
قال الإمام بدر الدين العيني الحنفي في "عمدة القاري" (1/ 30، ط. دار إحياء التراث العربي): [معناه: أنَّ صحة أحكام الأعمال في حقِّ الدِّين إنَّما تقع بالنية، وأنَّ النية هي الفاصلة بين ما يصح وما لا يصح، وكلمة إنَّما عاملة بركنيها إيجابًا ونفيًا، فهي تثبت الشيء وتنفي ما عداه، فدلالتها أنَّ العبادة إذا صحبتها النِّيَّة صحَّت وإذا لم تصحبها لم تَصِح، ومقتضى حقِّ العموم فيها يوجب أن لا يصح عملٌ من الأعمال الدينية: أقوالها وأفعالها فرضها ونفلها قليلها وكثيرها إلَّا بنية] اهـ.
حكم الصوم لإنقاص الوزن فقط
من صام غير مريدٍ القُربة لم يتحصَّل له ثواب الصوم، فقد اتفق فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة على أنَّ الصوم لا يصح ولا يقبل إلَّا بالنية، فرضًا كان أو نفلًا.
قال العلامة ابن مودود الموصلي الحنفي في "الاختيار" (1/ 126، ط. الحلبي): [اعلم أن النية شرط في الصوم، وهو أن يعلم بقلبه أنه يصوم] اهـ.
وقال الإمام الحطَّاب المالكي في "مواهب الجليل" (2/ 418، ط. دار الفكر): [شرط صحة الصوم مطلقًا -أي فرضًا كان أو نفلًا معيَّنًا أو غير معَيَّن- أن يكون بنية] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (6/ 300، ط. دار الفكر): [مذهبنا أنه لا يصح صوم إلا بنية سواء الصوم الواجب من رمضان وغيره والتطوع وبه قال العلماء كافة] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (3/ 109، ط. مكتبة القاهرة): [لا يصح صوم إلا بنية إجماعًا، فرضًا كان أو تَطوُّعًا؛ لأنَّه عبادة محضة، فافتقر إلى النية] اهـ.
وأما من حيث القبول والثواب: فقد تقرر أن أمر الثواب وهو أمر أخروي لكنه أيضًا مرهون بصلاح النية وفسادها.
قال الإمام ابن نجيم الحنفي في "الأشباه والنظائر" (ص: 17، ط. دار الكتب العلمية): [القاعدة الأولى: "لا ثواب إلا بالنية" صرَّح به المشايخ في مواضع من الفقه أولها في الوضوء، سواء قلنا إنها شرط الصحة كما في الصلاة والزكاة والصوم والحج أو لا كما في الوضوء والغسل.. وعلى هذا قرروا حديث «إنما الأعمال بالنيات» أنَّه من باب المُقتَضَى، إذ لا يصح بدون التقدير لكثرة وجود الأعمال بدونها، فقدَّروا مضافًا، أي حكم الأعمال، وهو نوعان: أخروي وهو: الثواب واستحقاق العقاب، ودنيوي وهو: الصحة والفساد، وقد أريد الأخروي بالإجماع، للإجماع على أنه لا ثواب ولا عقاب إلا بالنية، فانتفى الآخر أن يكون مرادًا] اهـ.
الجمع بين نية الصيام وإنقاص الوزن
تحقيقًا لهذا فإنَّ على مَن يصوم للحمية أن ينوي الصيام للعبادة وتحصيل الثواب مع مقصد التخسيس أو إنقاص الوزن، فإنَّ مَن صام مريدًا القُرْبَة والحمية أو التداوي صحَّ صومه ورجي له الثواب.
وعلى ذلك تواردت نصوص جمهور فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية:
قال الإمام الحموي الحنفي في "غمز عيون البصائر" (1/ 145، ط. دار الكتب العلمية) في الصور التي يصح فيها التشريك في النية: [في "فتح القدير": لو نوى الصوم والحمية أو التداوي، فالأصح الصحة؛ لأنَّ الحمية أو التداوي حاصلٌ، قصده أم لا، فلم يجعل قصده تشريكًا وتركًا للإخلاص، بل هو قَصَدَ للعبادة على حسب وقوعها؛ لأنَّ من ضرورتها حصول الحمية أو التداوي] اهـ.
وقال الإمام الحطاب المالكي في "مواهب الجليل" (2/ 533): [من صام ليصِحَّ جسده أو ليحصل له زوال مرض من الأمراض التي ينافيها الصوم ويكون التداوي هو مقصوده أو بعض مقصوده والصوم مقصوده مع ذلك، وأوقع الصوم مع هذه المقاصد لا يقدح في صومه، بل أمر بها صاحب الشرع في قوله: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوَّج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» أي قاطع، فأمر صلى الله عليه وآله وسلم بالصوم لهذا الغرض، ولو كان ذلك قادحًا لم يأمر به صلى الله عليه وآله وسلم في العبادة إلَّا معها] اهـ.
وقال الإمام السيوطي الشافعي في "الأشباه والنظائر" (ص: 21، ط. دار الكتب العلمية) في الصور التي يصح فيها التشريك في النية: [منها: ما لو نوى الصوم، أو الحمية أو التداوي، وفيه الخلاف المذكور] اهـ.