بيروت ـ وسيم سيف الدين: تسيطر على لبنان حالة جمود سياسي إثر عدم التوصل إلى اتفاق على رئيس جديد للبلاد بعد أكثر من ثمانية أشهر على فراغ المنصب وسط تمسك الفرقاء السياسيين بمواقفهم. القوى السياسية في لبنان تترقب الزيارة الثانية للموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان إلى لبنان الأسبوع المقبل بعد الزيارة الأولى التي كانت استطلاعية لسماع آراء المسؤولين.

عدة متابعين للوضع السياسي في لبنان أجمعوا على أن الزيارات المتكررة للموفد الفرنسي “لم تحمل جديد ولم تحقق خرق بجدار الأزمة بسبب تمسك القوى السياسية بمواقفها”. وقد استبق رئيس حزب الكتائب اللبنانية (مسيحي) سامي الجميّل كاشفا أنه أبلغ الموفد الرئاسي الفرنسي بأن حزبه لن يقدم اسم أي مرشح جديد لرئاسة الجمهورية، وأن “على حزب الله سحب مرشحه والتوقف عن منطق الفرض الذي يتبعه”. وفي 21 يونيو/ حزيران الماضي التقى لودريان مع قيادات رسمية وحزبية لبنانية، وأجرى محادثات تتعلق بكيفية الاتفاق على انتخاب رئيس جديد للجمهورية بأقرب وقت ممكن. ومطلع يونيو، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وزير الخارجية السابق لودريان موفدا خاصا إلى لبنان، في محاولة جديدة لإنهاء الأزمة السياسية في البلد العربي، حسبما أعلنت الرئاسة الفرنسية. وجاءت زيارة لوديان بعد فشل البرلمان اللبناني في 12 جلسة منذ سبتمبر/ أيلول 2022، كان آخرها بتاريخ 14 يونيو في انتخاب رئيس جديد للبلاد خلفا لميشال عون الذي انتهت ولايته في 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2022. وانحصرت المنافسة الرئيسية بين جهاد أزعور، مرشح المعارضة والقوى المسيحية الرئيسية والحزب التقدمي الاشتراكي وآخرين، وسليمان فرنجية، مرشح الثنائي الشيعي “حزب الله” و”حركة أمل” وحلفائهما. وفي آخر جلسة للبرلمان، حصل أزعور على 59 صوتا، مقابل 51 نالها فرنجية، وتوزعت بقية الأصوات على مرشحين آخرين. مرحلة جمود المحلل السياسي الصحفي منير الربيع، قال للأناضول، إن “الأزمة الرئاسية دخلت في دوامة ومتاهة وجمود نظرا لتباعد المواقف بين القوى السياسية وتمسك كل فريق برأيه”. واستبعد الربيع أن يحقق المبعوث الفرنسي “أي خرق في جدار الأزمة الرئاسية، مما جعله يقترح إجراء حوار داخلي بين القوى السياسية اللبنانية”. وكشف الربيع أن لودريان “اقترح على كل من رئيس مجلس النواب نبيه بري والبطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي فكرة الدعوة لحوار وطني فرفضا”. من جهته اعتبر المحلل السياسي الصحفي جورج عاقوري، أن زيارة الموفد الفرنسي الأولى “لم تحمل أي جديد بكل كانت استطلاعية مما يعني أن الطرح الفرنسي السابق بدعم سليمان فرنجية للرئاسة طُوي إلى غير رجعة”. ولفت إلى أنه “حتى الساعة لا خرق في جدار (أزمة) الانتخابات الرئاسية، ولن تكون هناك بوادر لذلك في القريب العاجل”. وأوضح عاقوري أن “كل ما قام به الموفد خلال جولته الأولى هو وضع تصور أولي لبدء العمل عليه من أجل الضغط لمساعدة لبنان للخروج من أزمته”. أما المحلل الصحفي وائل نجم، فرأى أنه “بعد فشل مجلس النواب خلال 12 جلسة بانتخاب رئيس جديد، فإن الأزمة دخلت مرحلة من الجمود لأن القوى السياسية ما زالت متمسكة بمواقفها”. وأفاد أن بعض القوى “تدعو إلى الحوار للاتفاق على رئيس جديد، ولكن لا تريد من حوارها هذا البحث عن حل بل إقناع الطرف الآخر بوجهة نظرها، وهذا ما يؤخر انتخاب الرئيس”. وأشار نجم إلى أن “هناك حالة من المراوحة وشد وجذب ما زالت قائمة بين القوى السياسية اللبنانية التي تنتظر توافقا أو تفاهما إقليميا ودوليا ليتم إنجار الانتخابات التي من الصعب إنجازها طالما الصراع الإقليمي والدولي ما زال قائما في المنطقة”. زيارة لوريان الثانية كسابقتها الصحفي الربيع، قال إن “الطريق الداخلي مسدود لانتخاب الرئيس نظرا لتصلب الثنائي الشيعي على ترشيح فرنجية من جهة في المقابل رفض ترشيح فرنجية من قبل القوى المسيحية الكبرى”. لكنه عاد وأشار إلى أنه “لا بد من انتظار التقييم النهائي للمبعوث الفرنسي لودريان الذي سيناقشه مع المسؤولين السعوديين عن الملف اللبناني في المرحلة المقبلة”. وأضاف: “بعد ذلك يمكن أن يجري لودريان زيارة إلى الدول الأربعة الأخرى المعنية بالملف اللبناني (مصر وقطر والسعودية والولايات المتحدة) لتكوين وجهة نظر مشتركة وفي حال تم الوصول إلى تقاطعات مشتركة يمكن عقد اجتماع للدول الخمس للانتقال إلى مرحلة ثانية من المساعي لإنتاج التسوية”. أما عاقوري فإنه لم يعول على نتائج من الزيارة الثانية للموفد الفرنسي “وستكون كسابقتها، لأنه من الواضح حتى الآن أنه لا حلول في الأفق طالما حزب الله متمسك بترشيح فرنجية”. الحوار مستبعد في الوقت الحالي وكان لودريان أعلن لدى مغادرته بيروت في يونيو أنه “سيعمل على تسهيل حوار جامع بين اللبنانيين بغية التوصل إلى حل توافقي للخروج من الفراغ المؤسساتي والقيام بالإصلاحات الضرورية”. وفي هذا الإطار أشار عاقوري إلى أن “ما يقال عن دعوة لودريان إلى طاولة حوار لن تلق تأييدا داخليا لأن هناك فرقاء كثر وخاصة المعارضة وعلى رأسهم القوات اللبنانية التي تعتبر أنه لا حوار على تطبيق الدستور بانتخاب رئيس للجمهورية وفق الأصول الديمقراطية”. ورأى عاقوري أنه “يجب أن يتوقف رئيس البرلمان نبيه بري أولا عن ممارسة مهامه كرئيس لحركة أمل (حزبه) عبر مزاجه في فتح أو إغلاق مجلس النواب والدعوة إلى جلسات انتخاب رئيس”. ولفت إلى أنه “بعد أن يتم احترام الدستور فإنه لكل حادث حديث وحينها يكون هناك إمكانية ربما لاستجابة لأي دعوة للحوار”. من جهته قال نجم إن الزيارة الثانية للموفد الفرنسي “قد تحمل أسماء أخرى توافقية غير فرنجية، إلا أنه لن يفلح، وسبق أن طرح فكرة الحوار الوطني الشامل”. وأشار إلى أن الزيارة ستكون بمثابة “جس نبض حول إمكانية عقد حوار شامل يتخطى الاستحقاق الرئاسي إلى البحث في تعديلات أو تطوير بشكل النظام”. ولفت نجم إلى أن الفرنسيين “يجارون بعض الأطراف اللبنانية والإقليمية لتأمين مصالح ومكاسب اقتصادية في لبنان والمنطقة لذلك هم مستعدون للبيع والشراء”. ورأى أن “القوى المسيحية الكبرى في لبنان التي كانت دائما تستند إلى العمق الفرنسي ترفض اليوم المبادرة الفرنسية وهي تعلق سلبا عليها وعلى حركة الموفد الفرنسي وتعتبرها تنطلق من تحقيق مصالح خاصة على حساب المكونات اللبنانية الأخرى”. أمام احتمالين “الربيع” رأى أن لبنان “أمام احتمالين إما الذهاب إلى تسوية ربما تقود إلى الاتفاق على قائد الجيش وتكون تسوية مرحلية مشابهة لتسويات السابقة والتي قد تتطلب الكثير من الوقت”. وتابع: “الاحتمال الثاني هو الدخول في فراغ طويل بانتظار ظروف عقد حوار لبناني برعاية إقليمية يقود إلى إنتاج التسوية، وإما البحث عن تعديلات دستورية وتغيرات في الصيغة لا سيما في ظل مطالبة حزب الله على ضمانات سياسية ودستورية في حال أراد التخلي عن مرشحه”. الأناضول

المصدر: رأي اليوم

إقرأ أيضاً:

«بيتهوفن».. موسيقار الصمت الجارح

علي عبد الرحمن

فيينا، مدينة القصور التي يعج هواؤها بالألحان، كانت تخفي في أحد أركانها صمتاً أشد وطأة من أي سيمفونية، في غرفة ضيقة تغمرها ظلال الشموع المتساقطة، جلس رجل مطأطئ الرأس بين كفيه، يطارده طنين لئيم يلتف حوله كأفعى لا تهدأ. لم يكن ذلك مجرد عارض جسدي، بل نذير هاوية تتسع في داخله، وحين انسابت أصابعه فوق مفاتيح البيانو، انفتح أمامه كون آخر، كأن النغمات تُولد من العدم لتعيد إليه حريته لحظة بلحظة، ذلك الرجل هو لودفيغ فان بيتهوفن، المولود في بون عام 1770، الذي خط أعظم موسيقاه لا بما تسمعه الأذن، بل بما تصرخ به الروح في وحدتها.

نشأ بيتهوفن في بيتٍ تتناوب فيه القسوة والصمت كمعزوفة نشاز لا تنتهي، أب غارق في إدمان يلهب مزاجه بالغضب، يطارده بعصا الصرامة، وأم أنهكها المرض فرحلت مبكراً، تاركة الطفل وحيداً أمام فراغ لا يلتئم، ووسط هذه العتمة، لم يجد ملاذاً سوى الموسيقى، لم تكن بالنسبة له تسلية عابرة ولا مجرد مهارة يتدرب عليها، بل كانت شريان بقاء يربطه بالحياة.
حين حط بيتهوفن رحاله في فيينا، كان شاباً مثقلاً بجراح الطفولة، لكنه يقف في قلب مدينة تضج بالموسيقى حتى لتكاد أنفاسها تُقاس بالألحان، وجلس إلى الموسيقار النمساوي جوزيف هايدن يتعلم القواعد، وأصغى إلى ميراث موزارت المتدفق، لكنه سرعان ما أدرك أن البقاء في ظل هؤلاء العظام يعني أن يخنق صوته قبل أن يولد، فرفض أن يكون تابعاً، وبدأ بحثه عن لغة لا تشبه إلا نفسه. فيينا كانت عاصمة العظمة، لكن بيتهوفن أراد أن يكون عاصمتها الداخلية، وقلب يصرخ بلغة جديدة، لغة تقول ما يعجز الكلام عن حمله، ومن هنا بدأ ميلاد بيتهوفن الحقيقي، الموسيقار الذي جعل من الفن مرآة للنفس ونافذة للعالم في آن واحد.
في مطلع العشرينيات من عمره، بدأ بيتهوفن يفقد أثمن حواسّه، ولم يعد يسمع العالم كما هو، بل أخذ الفراغ يتسلل مكان الأصوات، والطنين يطغى على النغم، بالنسبة لموسيقار، كان ذلك حكماً بالإعدام، فالموسيقى وُلدت لتُسمع، ولحنها لا يكتمل إلا بالإنصات، وفي لحظة انكسار، كتب وصيته في هايلغنشتات، معترفاً بأنه فكّر في الانتحار، وكأن الحياة لم تعد تحتمل بلا موسيقى مسموعة.
لكن المأساة التي كادت أن تطفئه، أعادت إشعاله من جديد. قرر أن يجعل من الصمت أداة للإبداع، ومن الفراغ مسرحاً واسعاً ينساب فيه الخيال، ولم يعد يسمع بأذنيه، بل بروحه التي باتت أكثر حدة من أي سمع، وكأن السيمفونيات التي تلت صممه لم تكن موجهة للأذن أصلاً، بل للقلب مباشرة.
هكذا وُلد بيتهوفن الثاني، موسيقار يكتب من الداخل لا من الخارج، يجعل من صمته قوة لا ضعفاً، وفي كل لحن صاغه بعد ذلك، نسمع ليس فقدان الصوت، بل ولادة صوت آخر، أكثر صفاء وجرأة، ولقد حوّل الصمت من قبر للنغمة إلى رحم يلد موسيقى جديدة، وجعل من الحرمان بدايةً لخلود.
 رغم عظمته، لم يعرف بيتهوفن دفء الاستقرار العاطفي، ولم يتزوج، وظلّت حياته الخاصة عالماً مليئاً بالفجوات العاطفية، ورسائله إلى «الحبيبة الخالدة»، لا تزال لغزاً يحيّر الباحثين حتى اليوم؟ أياً تكن، فإن حضورها الغائب ظل يلوّن موسيقاه، وأصبحت مؤلفاته تشبه رسائل حب لم تصل أبداً، ألحانها مشبعة بشوق لا يخمد، وبحثٍ عن حب ظل بعيداً عن متناول يديه، وكان عزفه في هذه الأعمال أشبه ببوح رجل يكتب إلى قلب لا يقرأ، يناجي غياباً لا يجيبه، ومع ذلك استطاع أن يحوّل هذا الغياب ذاته إلى موسيقى خالدة لا تفنى.

حضور

أخبار ذات صلة عائشة الغيص: الأدب الشعبي مرآة للذاكرة الجماعية جميري: أعمالي فصول سردية تستكشف الذات

لم تبقَ موسيقى بيتهوفن حبيسة المسارح، بل وجدت طريقها إلى الشاشة الكبيرة، حيث تحولت سيمفونياته إلى لغة سينمائية قائمة بذاتها، صرخات الأوتار وضربات القدر في السيمفونية الخامسة صارت مرادفاً للدراما الكونية والصراع مع المصير، بينما انسابت أنغام ضوء القمر في عشرات الأفلام كرمز للوحدة والحنين، أما السيمفونية التاسعة، فقد غدت أيقونة للانتصار الإنساني في لحظات المصالحة أو الاحتفال.

موسيقى لا تغيب 

حين أسدل الموت ستاره عام 1827، خرجت فيينا كلها خلف بيتهوفن، كأنها تودّع إنساناً صار رمزاً لكرامة الروح في مواجهة المعاناة، ولم يكن رحيله صمتاً، بل بداية لصوت آخر يتردّد عبر الأجيال، لقد ترك لنا درساً فلسفياً نادراً، وهو أن الجمال ليس زخرفاً للهروب من الألم، بل ثمرة مواجهة عارمة معه، وأن العبقرية قد تولد من أعماق الفراغ حين يتحوّل إلى لغة إنسانية مشتركة.
هكذا علّمنا أن الصمت قد يكون أكثر امتلاءً من الضجيج، ولم يقهر بيتهوفن صممه فقط، بل حوّله إلى موسيقى، وفي ذلك الانتصار صار صوته أبديّاً.

مقالات مشابهة

  • لودريان في بيروت غدا وعون يتحضر لزيارة الاردن ومسقط وبري يحذر من خطر الانزلاق نحو اتفاقات جديدة
  • «بيتهوفن».. موسيقار الصمت الجارح
  • معركة خصوم حزب الله لتحشيد القوى صعبة
  • مصادر لـ عربي21: رئيس مجلس القيادة اليمني يغادر القصر الرئاسي في عدن
  • رئيس اليمن الأسبق يكشف عن إهدار الفرص السياسية.. وتفاصيل إجبار "ربيع" على الاستقالة
  • رئيس الجمهورية اليمنية الديمقراطية الشعبية الأسبق يتحدث عن اغتيال "الغشمي" وتداعياته السياسية
  • طارق صالح يطالب جميع القوى والمكونات السياسية وفي مقدمتها المجلس الانتقالي لتوحيد الجهود وقيادة معركة التحرير وهزيمة جماعة الحوثي
  • توم براك: لا يمكن نزع سلاح حزب الله بالقوة ونحذر من خطر عودة الحرب بلبنان
  • رئيس جامعة طنطا: نثمن جهود ومبادرات القيادة السياسية غير المسبوقة بتعزيز قدرات ذوي الإعاقة
  • رئيس جامعة طنطا: نثمن جهود ومبادرات القيادة السياسية بتعزيز قدرات ذوي الإعاقة